تحتفل شبكة “الجزيرة” التلفزيونية في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل بالذكرى العشرين لانطلاقتها من مقر خشبي صغير (prefab) ازرق اللون، ومدخل متواضع، وعدد صغير من المذيعين والمحررين والفنيين، ولكنهم اثبتوا المقولة القديمة المتجددة، ان العبرة ليست في العدد، او “العدد في الليمون”، مثلما يقول المثل “اليافاوي” الشهير، فهذه المجموعة الصغيرة غيرت الخريطة الاعلامية العربية رأسا على عقب من علبة كبريت، على حد قول الرئيس المصري الاسبق حسني مبارك واقامت امبراطورية اعلامية عملاقة، وجذبت اكثر من 46 مليون مشاهد يوميا لقناتها العامة المؤثرة، ولكن هذا الرقم هبط الى حوالي ستة ملايين مشاهد حاليا حسب بعض التقديرات والدراسات الغربية (القناة تقول ان عدد مشاهديها حاليا 27 مليونا)، هذه هي قصة قناة “الجزيرة” في عشرين عاما، وهي قصة صعود وهبوط، سيتوقف عندها المؤرخون والباحثون طويلا، راصدين ومحللين في السنوات المقبلة حتما.
الارقام الرسمية تقول انه حتى مطلع العام الماضي كان عدد العاملين في قنوات المحطة (الجزيرة العامة، والوثائقية، والمباشر، والبلقان، وتركيا، و80 مكتبا في انحاء العالم) حوالي 5200 موظف، بين مذيع واداري وفني، وتقول مصادر شبه رسمية ان هناك خطة بتخفيض هذا العدد الى النصف ليس لاسباب مالية، وانما ادارية بحته للقضاء على الترهل الاداري، واعادة هيكلية الكادر الوظيفي لتعزيز الكفاءة.
في العام الماضي صدر قرار بالغاء عقود 500 موظف من مجموع الف، كدفعة اولى، ولكن الضجة التي اثارها القرار دفع ادارة المحطة الى الاكتفاء بهذا الرقم مؤقتا، وفي نهاية العام صدر قرار باغلاق محطة “الجزيرة امريكا”، التي كلفت الدولة القطرية حوالي ملياري دولار على مدى عامين ونصف العام تقريبا، بعد ان انخفض عدد مشاهديها الى اقل من 20 الفا يوميا، كما جرى تسريح 700 موظف، ولجأ بعضهم الى القضاء للمطالبة بتعويضات مالية اكبر مما هو مطروح من قبل الادارة.
يوم الاحد الماضي نقلت وكالات الانباء العالمية عن بيان اصدره الدكتور مصطفى سواق المدير العام بالنيابة للشبكة ينص على فصل 500 موظف، حوالي 300 من بينهم من المقيمين في الدوحة، والباقي في مقرات ومكاتب خارجية في مختلف انحاء العالم، وان التنفيذ سيتم في غضون ايام.
مصادر داخل الشبكة اكدت لـ”راي اليوم” ان معظم الذين جرى انهاء عقودهم من الاداريين، وستكون نسبة المحررين من بينهم محدودة جدا، كما ان هذه الوجبة تستثني القناة الناطقة باللغة الانكليزية، ولكن المصادر نفسها اوحت بأن هناك “وجبة” اخرى ربما تشمل اسماء كبيرة من المذيعين والمحررين الكبار في المحطة سيتم الاعلان عنها قبل نهاية العام، لان سياسة المحطة هي اجراء التخفيضات على دفعات.
المسؤولون في المحطة، او المقربون منهم، يحرصون في كل اتصال بهم على التأكيد ان سبب “التفنيشات” اداري وليس له اي ابعاد مالية او سياسة، فالدولة القطرية “ثرية” وتعتبر شبكة “الجزيرة” احد ابرز اصولها وادواتها السياسية والاعلامية، ولكن هناك من يهمس بغير ذلك، ويؤكد ان السبب مالي وسياسي، ويعكس الازمة المالية التي تعصف بدول الخليج جميعا بسبب تراجع اسعار النفط، الى اقل من الثلث تقريبا، وارتفاع العجوزات في الميزانيات، ولجوء الحكومات الى التقشف، والغاء مشاريع، وتخفيض الانفاق العام، واحتياطاتها النقدية انخفضت من 250 مليار دولار الى حوالي 200 مليار، ومرشحة للانخفاض اكثر، اذا وضعنا في اعتبارنا ان تكاليف البنى التحتية لكأس العالم تتراوح بين 150 الى 200 مليار دولار، وتشمل اقامة فنادق ومترو انفاق وملاعب وغيرها، واذا استمرت اسعار النفط في معدلاتها الحالية، اي حوالي 40 دولارا للبرميل، فان دولة قطر قد تواجه صعوبات مالية ضخمة في السنوات الست المقبلة.
هناك احاديث متداولة همسا الى ان حدوث تغيير شبه جذري في دور قطر وسياستها الاقليمية، وميلها اكثر للهدوء، والبعد عن “المناكفة”، على حد وصف مصدر خليجي كبير، بات يحتم عليها احداث تغييرات في الخط التحريري لقناة “الجزيرة”، يتناسب مع هذه التغييرات، فحدة خلافها مع السلطات المصرية تراجعت، وتحالفها مع تركيا بدأ يدخل مرحلة من الفتور بسبب الازمات التي تواجهها انقرة مع الحليف الامريكي، وازماتها الداخلية المتفاقمة، اقتصاديا وسياسيا، وتصاعد حدة عدائها مع الجار الروسي، وتغير موازين القوى في سورية منذ التدخل العسكري الروسي الذي عزز من وجود النظام.
اللافت ان دور دولة قطر في الملف السوري تراجع لمصلحة الدور السعودي، وتأثيرها في صفوف المعارضة السورية تراجع الى مستويات متدنية، وباتت قيادتها الجديدة تميل اكثر الى “المصالحة” مع جيرانها الخليجيين، وهذا ما يفسر الزيارتين اللتين قام بهما الشيخ تميم امير دولة قطر الى ابو ظبي حيث التقى “خصمه” اللدود الشيخ محمد بن زايد ولي عهد ابو ظبي، ثم طار في زيارة منفصلة الى دبي حيث التقى الشيخ محمد بن راشد رئيس الوزراء وحاكم دبي.
من الطبيعي ان تعكس قناة “الجزيرة” هذه المتغيرات ولذلك فان بعض التسريبات الاخبارية، ومن الدوحة خصوصا، حول نية ادارتها تقليص جرعة الوجود الاسلامي بين كوادرها وضيوفها، وانصار حركة “الاخوان المسلمين” على وجه الخصوص التي ازدحمت بهم منذ انطلاق الثورة المصرية، وزادت حدتها بعد الانقلاب الذي اطاح بحكم الرئيس محمد مرسي، تنطوي على الكثير من الصحة.
حالة الاستقطاب السياسي والطائفي التي تسود المنطقة حاليا، وكانت المهنية والموضوعية الاعلامية ابرز ضحاياها، باتت تنعكس بظلالها على الامبراطوريات الاعلامية الخليجية، فمن كان يصدق ان قناتي “العربية” و”الجزيرة” ستقفان في الخندق نفسه في تغطيتهما للحربين في سورية واليمن، والحرب الاخرى غير المعلنة في العراق؟
وتتردد تقارير مؤكدة ان قناة “العربية” التي كانت مملوكة لشركة MBC، ورئيس مجلس ادارتها الشيخ وليد الابراهيم اصبحت مملوكة حاليا لشركة السعودية للابحاث والتسويق (تصدر عدة مطبوعات من بينها الشرق الاوسط)، التي بات الامير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي ولي العهد السعودي يملك معظم اسهمها بعد ان اشترى حصص كل من الامير الوليد بن طلال وورثة الحريري، لان العهد السعودي الجديد بقيادة الملك سلمان يريد ان يحكم قبضته على الاعلام السعودي داخل المملكة وخارجها، في ظل التحديات التي تواجهها المملكة وتتمثل في حروبها “الوجودية” المباشرة في اليمن، وغير المباشرة في سورية العراق ضد ايران.
احد الزملاء في قناة “الجزيرة” ابلغ “راي اليوم” ان هناك حالة من القلق الشديد تسود اوساط العاملين في شبكة “الجزيرة” في الدوحة بعد انباء الغاء العقود هذه، وبات الجميع دون استثناء يتحسس رأسه، ويتوقع ان يصله اتصال هاتفي من ادارة شؤون الموظفين يبلغه “فجرا” بعدم التوجه الى المحطة والقدوم الى مبنى الادارة المنفصل لانهاء خدماته والحصول على مستحقاته.
الزميلة هويدا طه، الكاتبة ومخرجة البرامج الوثائقية في القناة عبرت عن هذه اللحظة الصعبة في مقال نشرته في احدى المواقع الاخبارية المصرية قالت فيه انها تلقت رسالة متقتضبة تقول “يوسفنا ابلاغكم بقرار انهاء خدماتكم اعتبارا من ايلول الماضي) وقالت ان هذه العبارة كانت خلاصة “ورقة التفنيش” بعد عمل استمر 19 عاما، وقالت انها تلقت اتصالا من “ادارة التفنيش”، حسب وصفها، يبلغها ايضا بمنعها من دخول مقر عملها في المحطة.
الجميع ينتظرون خطاب “التفنيش” الذي ربما يصل او لا يصل، وعلبة الكبريت لم تعد علبة كبريت بل امبراطورية ضخمة، وجيوش جرارة من الموظفين ونخبة من النجوم التي خبا بعضها مع خبو نجم المحطة، وان كانت ما زالت تحتل المرتبة الاولى، ولكن بعدد اقل بكثير من المتابعين، وبفارق ضئيل جدا مع الذي يحتل المرتبة الثانية.
“راي اليوم” ـ مها بربار: