قبلَ سنوات شنّ قلمٌ مستعارٌ موريتاني حملة تشويه سمعة استطاعَ بها تدميرَ أحد الأقلام الفكرية الواعدة في هذا البلد بحجة أنّه مُلحِد. وقد سمحت تلك الحملة بأن تتدخّلَ القبيلة وتُصادِر قلمَ الكاتب الشاب. انتصرَ القلم المستعار، الذي يُدافِعُ عن القيّم العلنية بإخفاء نفسه.
ولكن بعدَ أيامٍ نشرَ القلم المُستعار، تندُّراً وتفكُّهاً، فيديو لـ"مُلحِدٍ" تقليدي: هو مزارِعٌ موريتاني من البقاع النائية يتحدّثُ عن لا أدريتِه ليس فقط لأحكام الوضوء، بل لعدم معرفته هل توجد جنّة أم نار.
يبدو لك هذا تناقُضاً؟ ها؟ أقولُ لا. ذلك أن ما يأباه المُحافِظ البيضاني ليس الإلحاد، وإنما الإلحاد الحداثي. فالإلحاد الذي يقوله هنّون ولد بوسيف أو الكرصة (خطري ولد اعمَرْ ولد اعلي، أمير أولاد امبارك) فليس بإلحاد عنده. بل يُسمّى بـ"اجْهَلْ". و"اجْهَلْ" هو تراثٌ نوادِري وطرائِفي يُعمِّمُه الزوايا عن العرب وعن الحراطين وعن لِمعلمين للإيحاء بتميّز الزوايا وارتفاعِهم الإلهي.
ونفس الشيء عن مُسابقات الجمال. لا يعترِضُ المُحافِظون البيضان على مسابقات الجمال التقليدية (حيثُ تشيل الأجمل "راس النعامة"؛ وحيثُ يتسابَقُ "لمِغنين" في الأزجال على "راس النعامة" ويتبارون عليها بالملحون، متفنِّنين في وصف جسدِها وضحكتها). وإنما يعترِضون على مسابقات الجمال بالطابع الغربي (أو المنسوب للغرب؛ ذلك أن معظم الأشياء التي يُسميها الأصوليون بالغربية هي أشياء نمت في إطار التلاقُح العولمي وأصولها ليست غربية أصلاً).
ونفس الشيء عن السفور والتبرُّج. لا يعترِضُ المُحافظون البيضان على تبرّج الولفية والبولارية وإنما على تبرّج البيضانية (والزاوية أكثر). فهي حركة "دينية" فقط في إطارٍ أقوامي.
والواقع أننا أمامَ حركة أصولية اجتماعية (وإن كانت قيّمها قيمٌ متخيّلة وذات أساس طبقي) وليست حركة دينية بالمعنى التجريدي الذي ذاعَ في الأصوليات المعاصرة. وحتّى ذلك المعنى هو معنى مُعلمن، كما بيّن غيرُ دارِس.
وما نُريد أن نقوله هو أن "الدِّين" لا يتفتّقُ إلاّ في "الوجود في العالم". ما يبدو ربانياً إنما هو دُنيوي؛ وما يبدو متعالياً إنما هو أقوامي؛ وما يبدو ملائكياً إنّما هو إنساني؛ وما يبدو مثالياً إنّما هو ذكوري.
------------
من صفحة الأستاذ عباس ابرهام على الفيس بوك