تعيش أوروبا الآن ما يشبه أجواء نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. يصعد سياسيون انتهازيون، وبعضهم حمقى في الواقع، ويشنون حملات تصعيد ضد الأقليات والنساء، ويخوضون أجواء شحن سياسي وإعلامي وحملات تعبئة في قضايا تبدو طريفة أحياناً. فمن يواكب الجدل السياسي والإعلامي الذي يدور في بعض بلدان أوروبا حالياً عليه أن يكون خبيراً في أنواع الأقمشة وقياسات ملابس البحر وأغطية الرؤوس.
يبدو طريفاً منحى النقاش في أوروبا عن ملابس البحر هذه الأيام، أو ما يسمونه "بوركيني" وهي تسمية ساذجة ومضللة للغاية عن تصميم معيّن تفضله بعض النساء لخصوصيات دينية، ليس له صلة بالبرقع ولا بالبكيني بالطبع. لكنّ القضية في الواقع جديرة بإثارة القلق، لأنّ المسألة لا تتعلّق بطول اللباس أو قصره أو بمواصفاته، وإنما باتجاه متعاظم نحو التوسّع في التقييد والحظر تشهده أوروبا وينبغي قرع نواقيس التنبيه منه.
نعم؛ نستطيع القول إنّ ثقافة الحظر تتسلل إلى أوروبا مجدداً، فهذا ما يحدث بالفعل منذ سنوات عدّة عبر قوانين وإجراءات ومطالبات متصاعدة بفرض قيود مخصوصة، تعيدنا إلى أجواء القرن التاسع عشر تقريبا.
من بوسعه أن يصدِّق أن أوروبا القرن الحادي والعشرين تُسنّ فيها قوانين وإجراءات من شأنها أن تمنع بناء دور عبادة، للمسلمين وحدهم بالطبع؟ أو تُحظر فيها المآذن بشكل حصري دون غيرها من أبراج دور العبادة؟ وتُحرَم فيها النساء والفتيات من حق ارتداء قطع قماش معيّنة؟ ويُمنعن فوق ذلك من الاقتراب من المسابح العمومية والشواطئ إن لم يتجرّدن من ملابسهن؟ الرسالة لها معنى آخر: على المسلمات أن يختفين من المشهد، وأن يزاولن السباحة إن رغبن في حوض الاستحمام المنزلي فقط.
إنها قضايا يفضِّلها سياسيون انتهازيون لخوض الانتخابات أيضاً؛ طمعاً في كسب نقاط سخيّة في صناديق الاقتراع؛ عبر المسلك الكريه المعتاد بشقّ صفوف المجتمعات وإثارة الأحقاد أيضاً. إنها من خصائص صنف من السياسيين عرفتهم أوروبا في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ومنهم مثلاً سياسي واسع النفوذ اسمه كارل لويغر، صعد وقتها إلى بلدية فيينا التي كانت عاصمة امبراطورية عظيمة آنذاك، وقد أتقن المزايدات السياسية ورأى فرصته في شحن الجماهير على طريقة زماننا اليوم. إنه يشبه بعض سياسيي أوروبا في القرن الحادي والعشرين، الذين يقومون بتعبئة الجمهور بشعارات لا يكون السياسي ذاته مقتنعاً بها، حتى أنّ لويغر قال يوماً: "نحن نعلم أنّ العداء للسامية هو في السياسة وسيلة تأجيج من أجل الصعود، لكن ما إن يصبح المرء فوق (في الحكم) فلن يحتاجها".
في هستيريا الجدل التي تتصاعد اليوم لدينا ملف "داعش" بكل ما فيه من مخاوف وهواجس، ويجري استغلاله في نظرة تعميم اتهامية جائرة على شركاء المجتمع من المسلمين في أوروبا. وقتها، قبل 120 سنة، كان لديهم ذرائعهم أيضاً، ومنها قضية درايفوس، ذلك الضابط الفرنسي اليهودي الذي كان اتهامه بالتجسس سنة 1894 ذريعة لموجة عنصرية واسعة ضد اليهود. نستطيع اليوم أن نتخيّل مثل هذا في أوروبا اليوم، مع تعديل طفيف فقط: بأن يكون الضابط مسلماً هذه المرّة وأن ينتقل إلى صفوف "داعش" مثلاً.
كانت ثقافة الحظر يومها في أوجها، حتى كان تشييد المعابد اليهودية في بعض المدن محاطاً بقيود تشمل بعض المواصفات، بينما اختارت بلدان ومدن أخرى طريق التسامح والتعددية والانفتاح كما يجري اليوم أيضاً. كان يُحظر أيضاً على بعض الطوائف المسيحية، مثل البروتستانت في ميونيخ، تشييد كنائس داخل أسوار المدينة الكاثوليكية حتى بداية القرن العشرين، وهو ما يجعلنا نفهم منطقاً شبيهاً في التفكير يحكم نقاشات تجري اليوم في مدن وبلديات وأقاليم أوروبية.
من الخطأ اليوم أن نتصوّر المسألة محصورة في قطعة قماش ترتديها سيدة أو فتاة على رأسها، أو متعلقة فقط بملابس سباحة على الشاطئ، أو حتى بمئذنة ممنوع تشييدها في سويسرا الجميلة أو غيرها. فهذه وغيرها تفاصيل ضمن ظاهرة صاعدة اسمها ثقافة الحظر، وسيكون استسلام مجتمعات أوروبا لها خطأ جسيماً.
لا تتوقف هذه الثقافة على التشريعات التي جرى سنّها وعلى الإجراءات التي تم اتخاذها، والتي يأتي كل منها مشفوعاً بذرائع "عقلانية" عادة، فهذه في الواقع عيِّنة لا أكثر من قوانين وإجراءات تعرفها أوروبا اليوم، وتشغل السياسة والإعلام والثقافة أيضاً. لكنّ الحالة أوسع نطاقاً، لأنّ قائمة المطالبات بالحظر تشمل كلّ ما يمكن توقعه: حظر اللحوم "الحلال"، حظر المدارس ورياض الأطفال إن كانت للمسلمين، حظر مزاولة وظيفة الإمام إن لم يكن ذلك بشروط خاصة، حظر التمويل الخارجي للمساجد والمراكز الإسلامية، ولا تستثني المطالبات دعاوى لحظر الإسلام ذاته تعلو في أكثر من بلد أوروبي.
ولا تجد بعض وسائل الإعلام مشكلة في أن تطرح على جمهورها أسئلة ساذجة عن مدى تأييدهم لمزيد من المنع عبر استفتاءات إلكترونية، وعليهم الإجابة بنعم أو لا. حسناً؛ وهل من المقبول أساساً أن تكون الحقوق الدينية والشخصية موضوع نقاش واستفتاء؟ إنها رِدّة ثقافية وقيمية يتم عبرها دعوة "الأغلبية" للتصويت على حقوق "الأقلية". فبأيّ منطق يتم الاستفراد بأقلية بعينها حصراً ووضع شؤونها وخصوصياتها موضوعاً للاستفتاءات؟
مظاهر الماضي الكئيب حاضرة في مجالات أخرى متعددة أيضاً. ففي أوروبا القرن الحادي والعشرين تعود رسوم الكاريكاتير لممارسة القوْلبة والتنميط وتعميم الأحكام المسبقة السلبية ضد أقليات بعينها. لدينا الآن سيل جارف من الرسوم المسيئة للمسلمين ومقدّساتهم، وبعضها يمارس بقوّة الريشة والإيحاء الرمزي فعل التشويه والاحتقار وحتى التحريض. مثل هذا أيضاً كان سائداً في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مع فارق أنها استهدفت اليهود آنذاك أساساً، وأنّها وقتها لم تجد فرصتها في الإنترنت والإعلام الاجتماعي بعد، لأنهم لم يحظَوْا بأمثال الشاب الذكي مارك تسوكربرغ مثلا، وإنما بشاب آخر مهووس صعد وقتها اسمه أدولف هتلر، استخدمت صحافة تيّاره النازي رسوم الكاريكاتير بقوة للتعبئة العنصرية المقيتة التي انتهت بفظائع مرعبة.
من يريد أن يقاوم هذا التدهور القيمي في أوروبا، عليه أن ينشغل بملابس السباحة هذه الأيام وقطع القماش والتفاصيل القانونية والإجرائية المتزاحمة، عبر مقاومة حمّى الحظر البائسة هذه. إنها مسألة قيم ومبادئ كفيلة باستنفار الجميع وليس المسلمين وحدهم. يجب القول إنّ ثقافة الحظر تتفاقم في أوروبا، وأنها البدايات المألوفة لما هو أسوأ.