تكثر في الفيسبوك عادة مرويات وقصص غريبة تنشر بدعوى المواعظ والاعتبار والدعوة لهداية الناس، وتثبيت قلوب المؤمنين، لتطمئن قلوبهم، ومن ذلك النوع من القصص الغريبة مثلاً: فتاة غير مسلمة شفيت من السرطان بفضل دعاء معين بلفظه سمعته من مسلم في القطار، وآخر سقط عليه كنز من السماء بفعل مداومته على صدقة السر، وطبيب غربي ملحد اهتدى وصار داعية بسبب حوار مع مريضته المؤمنة، ورابع رأى في المنام حلاً لمسألة رياضية حيّرت العلماء لقرون بسبب دفاعه عن امرأة مسلمة محجبة، وخامس شلت يده وأصيب بالفالج لأنه تلفظ بكلام سفيه ضد أحد المتدينين، وسوى ذلك من قصص كثيرة، قد يكون مقصدها طيباً أصلاً، ولكن الدين لا يبنى على القصص والأحلام والخوارق والوقائع المنفردة الشاذة.. والشاذ يحفظ ولا يقاس عليه.. ونشر الدين الحنيف وتبصير الناس بمكارمه ومقاصده وأصوله من مهمة العلماء والدعاة المتبصرين المعتمدين المتمكنين من الكتاب الكريم والسنة المطهرة، والمسلم الحق أيضاً داعية لدينه لدى الآخرين بمكارم أخلاقه وسلوكه.
الدين ليس -حاشى- في حاجة إلى "الدعوة" إليه بالخرافات والقصص وحكايات الخوارق والخزعبلات.. ومع هذا فتلك الظاهرة، للأسف، ليست جديدة في ثقافتنا العربية الإسلامية، فحتى في عصور الإسلام الأولى كان هنالك مُجان أهل الحديث، وكذلك من كانوا يسمّون بالقصَّاصين، وأهل الأخبار المختلقة الملفقة، أو على الأقل غير المعتبرة لافتقادها إلى سند، أو لمنافاتها للعقل، وخروجها على المطّرد من أمور الدين والحياة. والمشكلة الأكبر أن كثيراً من العوام، أو لنقل بتعبير اليوم "أفراد الجمهور العريض" كانوا، وما زالوا، يصدقون هذا النوع من المشعوذين والمكدّين والشطار، ويأخذون بأحاديثهم، وربما أخذوا عنهم بعض أصول دينهم، على غير أساس سليم من رواية أو دراية.
وفي زمننا هذا خاصة عمّت البلوى بظاهرة ما يسمى "الدعاة الجدد" الذين يطلُّون على الناس عبر شاشات الفضائيات وصفحات التويتر، ومع أن بعضهم مجرد قصاصين، لا أكثر، إلا أن لهم جمهوراً بالملايين، ما شاء الله.
وإذا كان ضرب مثال من زمننا قد يثير بعض الحساسية، فلا أقل من ضرب مثل من عصور الإسلام الأولى، لعله يقرب إلى الأذهان طرفاً من المعنى المقصود، وهو ولوع العوام بتصديق كل متلبس بمسوح ولباس الدعوة، وربما أخذوا عنه حتى بعض أصول وأحكام دينهم، على نحو غير صحيح. وإليكم مثلاً هذه القصة التراثية:
قيــل: في عصر الخليفة المأمون كان الشاعر العتابي يسير في شوارع بغداد فدخل السوق وهو يأكل الطعام.. وكان ذلك يخالف أصول المروءة لدى أعيان المجتمع يومها.. ولهذا احتج عليه صديق له قائلاً: "أتأكل في السوق أمام عامة الناس، أليس هذا مزرياً بالمروءة؟".. فقال له العتابي ساخراً "وهل أولئك بشر.. إنهم بقر". فلم يقبل الصديق هذا الوصف الجارح.. فقال العتابي: "سأريك في الحال إن كانوا حقاً بشراً أم بقراً".. ثم صعد إلى ربوة قرب السوق، ونادى في الناس: "يا قوم هلموا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".. فتدافع إليه الناس بالمئات واجتمعوا حوله. وأقبل يحدثهم، يقول "روى فلان عن فلان عن فلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال.." وظل يخرج من "حديث" إلى آخر وقد تعلقت به العقول والقلوب والعيون.. وسحر ألباب المستمعين لسعة "مرويّاته" وغزارة "علمه".. وتسمّرت عليه العيون، وفغرت إعجاباً به الأفواه، وصار إذا حرك يده يَمنة تحركت رؤوسهم يميناً.. وإذا أومأ برأسه يسرة.. التفتوا يساراً.. إلى أن قال لهم: "روى أكثر من واحد أنه صلى الله عليه وسلم قال: إذا بلغ لسان أحدكم أرنبة أنفه دخل الجنة".. وسكت.. فإذا بكل واحد من المستمعين يخرج لسانه يحاول أن يصل به إلى أنفه.. وأصبح منظرهم جميعاً مضحكاً.. فالتفت العتابي إلى صديقه ساخراً وقال: "ألم أقل لك إنهم بقر..."؟
من صفحة الدكتور حسن ولد احريمو على الفيسبوك