تهدف هذه الحلقات لبيان استعمال الولايات المتحدة كافة الوسائل التبشيرية والسياسية واسطولها في المتوسط لتفكيك عنصري الحضارة العربية الاسلامية عن بعضهما وتفكيك الدولة العثمانية لزرع دولة يهودية في فلسطين. ولقد قام المبشرون بدورهم باللجوء الى القومية العربية لاستعمالها ككلمة حق ارادوا بها باطل فالقومية ليست ايدولوجيا وإنما هي احدى حقائق الحياة، ما لها وما عليها هي من وكيف يتم استعمالها.
بدأ التخطيط لغزو أميركي من نوع آخر للشرق الأوسط: الغزو الثقافي. ففي عام 1810 شكلت مجموعة من رجال الدين الأمريكيين ما أطلقت عليه: المجلس الأمريكي لمفوضي المهمات الخارجية بهدف دعم المراكز التبشيرية في العالم غير البروتستنتي.
وفيما يتعلق باليهود فقد بدأ العديد من رجال الكنيسة البروتسنتينية بالمطالبة بالاندماج بين الكنيسة واليهودية، وتوحيد ما أسموه بـ:إسرائيل القديمة والمعاصرة. وفي ذلك قال أسا مكفارلاند، المشيخي في ولاية ماسساشوستس″ : عندما تسقط الإمبراطورية العثمانية سيبدأ اليهود رحلة العودة إلى فلسطين… وسيتبوأ المسيح السلطة والحكم مجدداً”.
في عام 1816 ورد في عدد من مجلة نايلز وييكلي ريجيستر القول:” عندما يتم إخراج العثمانيين الضعفاء البلهاء من فلسطين، سيعود اليهود وسيجعلون الصحراء “تتفتح سريعاً كما الزهور”. وعليه فقد كان للبروتستنت أجندتهم الخاصة المعده سلفاً تجاه العمل على تفكيك الدوله العثمانية المسلمة وصولاً لتحقيق العودة لليهود والمسيح إلى فلسطين.
قبل مغادرتهما بوسطن إلى البلاد المقدسة ليكونا أول بعثة تبشيرية تتوجه للشرق الأوسط، شرح المبشران الشابان للجموع المؤمنة في كنيسة أولد ساوث ما عرف بعد ذلك بـ: البرنامج التبشيري الخاص بالعالم الإسلامي. كان القس ليفي بارسونز أول المتحدثين قائلاً:” اليهود هم من علمونا طريق الخلاص.. فقد حافظوا وبإخلاص ونوايا صافية على الإنجيل.. إلهنا هو إِلهُهُمْ وجنتنا هي جنتهم” والأهم من ذلك أن بارسون استذكر ” الحقيقة الكبرى” وهي أن اليهود هم من زودوا الإنسانية بالمخلص الأعظم.. المسيح”. وفي ذلك قال القس البروتستنتي وهو يستعد للسفر إلى فلسطين: نعم.. إخوتي، إن من سيشفع لكم أمام عرش الله .. هو يهودي”.أضاف القس بارسون بأن على المسيحيين، وعلى سبيل إظهار الامتنان وكنوع من رد الجميل، بذل كل ما يمكنهم من جهد لاستعادة السيادة لليهود في أرض أجدادهم وموطن الإنجيل.
واستطرد بارسون في شرح كيف أن اليهود كانوا يعيشون حياة من المعاناة والتشرد بدون وطن أو هوية سياسية على مدى 18 قرناً، وبأن الوقت قد حان لتصحيح الظلم الذي أحاق بهم. وأضاف بارسون:” علينا الاعتراف.. لا يزال هناك في صدر كل يهودي رغبة لا تقهر في تعمير الأرض التي وهبها الله لآبائهم، وهي رغبة من القوة بحيث لا يمكن اجتثاثها من النفوس حتى في حالة التحول للمسيحية.. تلك الأرض هي فلسطين ، والذي أضاف:” ما إن يختفي الاحتلال العثماني لفلسطين فإن معجزة فقط هي التي ستحول دون عودة فورية لليهود إليها”.
وفي الوقت ذاته قال بارسون بأن عودة اليهود لفلسطين تعتبر مطلباً ضروريا لإقامة الدولة اليهودية المسيحية، والتي ستأتي تحقيقاً للشرط الخاص بعودة المسيح. ومن جانبه تحدث زميله المبشر الثاني بليني فيسك عن الخلاص وفلسطين، وعندما ختم حديثه بالقول:” كل الأعين مسلطة على القدس″، انخرط الحضور بالبكاء.
إذاً، هكذا وبكل وضوح فإن الأجندة التبشيرية كانت في منتهى الوضوح: تحطيم الدولة العثمانية لاعادة اليهود إلى فلسطين وبناء دولتهم وقد تحقق لهم ذلك بعد مئة عام. تاريخياً إستعمل الاستعمار الحركات التبشيرية للأراضي المستهدفة وكانت في خدمة قيصر ومستعمريه لا في خدمة الله . سنبين هنا أن بث الروح القومية في الأراضي العثمانية كان إحدى الأدوات التي تم إستعمالها لتكن كلمة حق أريد بها باطل. كان الهدف من الشبكة التعليمية الكبيرة التي ادارها المبشرون البروتستانت تهدف إلى تزييف التاريخ وتمس ألهوية للحضارة الاسلامية العربية بفك العنصر الاسلامي منها.
قليل من العرب، حتى خريجيها يعلمون أن الجامعة الأمريكية في بيروت انشأها المبشرون البروتوستانت وان اسمها كان منذ انشائها إلى سنة 1920 الكلية البروتستنية السورية وان مؤسسها كان القس دانيال بليس وأن إحدى عمارتها الرئسية ما زالت تحمل إسمه إلى اليوم وان نشر القومية العربية كان مكتوباً كهدف في عقد تأسيسها.
وتحقيقاً لهذه الأجندة، مارست البعثات التبشيرية البروتستنتينية نشاطها بكثير من الصبر والجلد، وخططت ونفذت غزواً ثقافياً ساعد إلى جانب عوامل أخرى على تفكيك الإمبراطورية العثمانية. ومن ذلك حقيقة أن السفراء الأمريكيين المعينين في العاصمة العثمانية اسطنبول، كانوا جميعاً إما من الصهاينة المسيحيين أو من الصهاينة اليهود .
بداية محبطة…
لم تسر الأمور في السنوات الأولى لوجود فيسك ورفاقه المبشرين كما كان يأمل ويشتهي القس البروتستنتي الأمريكي المذكور. فلم يجد استجابة تذكر من قبل الأهالي حيث قاطع المسلمون والموارنة على حد سواء مدرسته الجديدة، ولم تستقبل صفوفها سوى عدد قليل من الأطفال اليهود الذين اعتادوا بيع نسخ الإنجيل التي زودتهم بها . أما المسلم الوحيد الذي نجحت جماعة فيسك في إغرائه للتحول للمسيحية فانتهى إلى السجن حيث مات فيه. وعليه فلم يكن أمام فيسك سوى إشغال نفسه بالسفر في حملات تبشيرية من حين لآخر. ففي عام1825 غادر بيروت إلى القدس حيث ألقي عليه القبض متلبساً بتوزيع منشورات دينية في انتهاك لقانون يحظر مثل هذا النوع من الممارسات وانتهى به الأمر إلى السجن ليخرج منه ولكن بعد تدخل شخصي من القنصل الإنجليزي. وقبل سفره المخطط للولايات المتحدة في إجازة قرر فيسك زيارة الناصرة. وفي طريقه للمدينة حاول فيسك توزيع منشورات دينية مجدداً والتحدث مع بعض الأهالي على أمل اجتذابهم للمسيحية، فكانت النتيجة تعرضه لضرب مبرح من قبل جموع الغاضبين لدرجة أنه أعيد إلى بيروت في حالة صحية صعبة لم يكتب له الشفاء منها فمات وهو يعاني.
رحل فيسك تاركاً مشروعه التعليمي في حالة ركود، إلى أن جاءت تطورات قلبت الأمور رأساً على عقب بالنسبة للمدرسة التبشيرية التي خلفها القس البروتستنتي وراءه. فقد أدخل إبراهيم باشا الذي غزا سوريا ومن ضمنها جبل لبنان قواعد جديدة على النظام التعليمي. ومع أن حكمه لبلاد الشام لم يكمل العقد من الزمان، إلا أنه أحدث تغييرات جذرية في الأوضاع بحيث يصعب الرجوع عنها وبخاصة في النظام التعليمي، والتي مكنت البعثات التبشيرية من تحقيق نتائج ملحوظة من هجومها الثقافي على مواطني الدولة العثمانية…
حتى عام 1827 لم تكن البعثات التبشيرية قد حققت نجاحاً يذكر. وبالرغم من إقامة المبشرين العديد من المدارس في سوريا، إلا أن جهودهم لم تثمر في إقناع أحد في التحول للمسيحية. بعد الهزيمة العثمانية في نافارينو، شعر القائمون على المجلس الأمريكي للمهام الخارجية بوجود فرصة مواتية لمحاولة إقامة محطة تبشيرية في القدس مجدداً بعد الفشل الذي آلت إليه محاولة بارسونز وفيسك. اختار المجلس القس الشاب جوشيا بروير للقيام بالمهمة، التي تنص وطبقاً لما جاء في رسالة التكليف الصادرة عن المجلس على:” إقامة محطة دائمة في الأراضي المقدسة واطلاق عملية لم شمل اليهود”. وصل بروير إلى فلسطين بعد معركة نافارينو مباشرة عام 1827. في ذلك الوقت كان مسلمو فلسطين يعتبرون أنفسهم رعايا مخلصين للدولة العثمانية، وكانوا ينظرون بكثير من الشك للأجانب الذين يصفونهم بـ: الفرنجة وأعداء الدولة الإسلامية وخاصة بعد معركة نافارينو. ولهذا ووجه بروير بالرفض والطرد من قبل الأهالي في كل قرية حاول ممارسة نشاطه التبشيري فيها، الأمر الذي أوصله لحالة من اليأس دفعته للتخلي عن مهمته والعودة أدراجه إلى بوسطن.
أخيراً توصل القائمون على المجلس الأمريكي للمهمات الخارجية إلى محصلة أجبرتهم على الاعتراف بحقيقة فشل جهودهم التبشيرية لتحويل المسلمين إلى المسيحية ، فكان أن قرر المجلس في عام 1834 التخلي عن برنامجه في فلسطين والتوقف عن إرسال المزيد من البعثات إلى هناك. ويبدو أن الفشل الذي حاق بالنشاط التبشيري في فلسطين هو الذي دفع أحدهم للقول بأن فلسطين ليست بتلك البلاد المباركة كما يعتقد، إنما هي أرض الشياطين.
لم يكن وضع البعثات التبشيرية في بيروت بأفضل منها في القدس، حيث كان الرفض والمقاطعة بل والحرب بأنتظار القائمين على هذا النشاط، وبخاصة من قبل الموارنة الذين هالتهم رسالة المبشرين البروتسنت. في مثل هذه الظروف وجدت البعثات التبشيرية نفسها في عزلة خانقة بل وعرضه لمخاطر جسمانية، فكان قرار القائمين عليها مغادرة المكان ولكن إلى حين.
بداية جديدة
يمكن القول بأن العام 1840 شكّل نقطة تحول في تاريخ الهجمة التبشيرية على المنطقة، وذلك بقرار بريطانيا إخراج إبراهيم باشا من سوريا بما فيها فلسطين بالطبع. رفع البطريرك الماروني عام 1841 للسلطان العثماني التماساً يطلب فيه إبعاد البروتسنت الدخلاء عن الإمبراطورية، وإصدار مرسوم طرد نهائي بحقهم يمنعهم من العودة في المستقبل. كان أول ما فعله السلطان طلب رأي السفير الأمريكي في الوضع. ومن جانبه طلب السفير من قادة الجماعات التبشيرية عدم إثارة حفيظة الموارنة أو المسلمين وإلا فإنهم سيجدون أنفسهم بدون حماية، وهو موقف أثار غضب المجلس الأمريكي للمهمات الأجنبية الذي بدأ تحركه الضاغط في واشنطن. فما كان من وزير الخارجية ويبستر إلا أن ألغى قرار السفير بورتر وطلب منه” عدم تفويت مناسبة… دون تقديم سائر المساعدة المناسبة” للبعثات التبشيرية.
في عام1840 حط المبشر سايروس هاملين برحاله في اسطنبول، حيث حصل على ترخيص بفتح مدرسة في بيبيك غير بعيد عن العاصمة. وعندما التحق بعض الأطفال الأرمن بالمدرسة المذكورة علت أصوات بطريرك الأرمن بالاحتجاج. ومع ذلك فقد تعاظم نفوذ المبشرين الأمريكيين داخل القصر السلطاني ، الأمر الذي تجلى في إهداء هذه الجماعات للسلطان مدرسة خاصة بأبناء الضباط أقيمت على نمط المدارس الأمريكية.
الحقيقة التي بشر بها ونشرها المهاجرون والمستعمرون الأمريكيون الأوائل، ان تقوم على التبشير بقيام إسرائيل وتحقيراً لشأن الإسلام . فهذا أستاذ اللغة العبرية في جامعة نيويورك، جورج بوش ، الجد الأكبر لرئيسين للولايات المتحدة حملا اسمه، يهاجم النبي محمد في كتاب تناول فيه سيرة حياة رسول الإسلام من منظوره الخاص ، واصفاً إياه بـ:” النبي المزيف”. كما ودعا بوش في كتاب آخر له بعنوان: وادي الرؤية: عودة الحياة لعظام إسرائيل الرميم”، إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين، لأن مثل هذه الدولة ستكون حلقة بين الإنسانية والرب.
يتبع
مستشار ومؤلف وباحث