ماذا لو كان كل ما نرى هو مجرد خدعة؟ ماذا لو أن كل المعلومات مشوهة، كل المناظر مزورة، كل ما نرى ونسمع هو من صنع قوى عسكرية اقتصادية عظيمة تتحكم في العالم؟
ليست الفكرة بعيدة، نحن في الواقع نرى ونسمع ما تريد لنا حكومات العالم أن نرى ونسمع، نشاهد «الآخرين» بعيون الأثرياء الأقوياء، نميزهم بعقليتهم، من منطلق مصالحهم وبما يخدم أغراضهم، نرى الشر شراً لأنهم يصورونه هكذا، ونرى الخير خيراً لأنهم يمثلونه بهذه الصورة. نحن، وأقصد بنحن الأغلبية العامة من الناس، في الواقع مبرمجون بتقنيات عالية، مرة بالخوف، ومرة بالإغراء، مرة بالمصلحة الدنيوية ومرة بالإنقاذ «الآخروي»، مرة بالثواب ومرة بالعقاب، مرة بالسجن ومرة بالفتوى، مرات ومرات كلها مريرة وكلها مخادعة. نحن، ما نحن سوى عساكر خشبية على رقعة كبيرة من المربعات السوداء والبيضاء، بلا إرادة، بلا حتى وعي حقيقي.
قبضت الفكرة على صدري فور انتهائي من مشاهدة حلقة خطيرة عنوانها «رجال ضد النار» Men Against Fire من مسلسل الخيال العلمي«المرآة السوداء» Black Mirror. تعرض كل حلقة من هذا المسلسل تأثير التكنولوجيا المستقبلي على مصائر البشر وتشكيل حياتهم وتطور مجتمعاتهم. المسلسل يكشف عن نظرة سوداوية قاتمة، جانب مظلم للتكنولوجيا التي اذا ما ترك لها العنان، فإنها، ومن أجل مصلحة أقلية قوية ثرية، ستقبض على أعناق العامة، تسيرهم، تتحكم في كل تحركاتهم الى حد برمجتهم الحقيقية والتحكم في وعيهم بشكل مطلق.
في الحلقة المذكورة تحارب مؤسسة عسكرية ما حرباً في الدنمارك ضد بقايا وجود إنساني مشوه كانوا ضحايا سلاح بيولوجي. يُطلق على أشباه البشر هؤلاء اسم roaches أو الصراصير، حيث يظهرون للجنود كمخلوقات مشوهة بأسنان كبيرة حادة وأصوات صارخة لا تعبر عن لغة مفهومة.
تتوالى الأحداث مع جندي اسمه سترايب والذي بالصدفة يوجه إضاءة LED الى عينيه لنكتشف لاحقاً أن البرنامج المزروع في داخل عقله والذي يطلق عليه اسم MASS قد تم اختراقه وإبطاله بهذا الضوء. يبدأ سترايب برؤية الأعداء الذين يطلق عليه اسم الصراصير على حقيقتهم كبشر معدمين حيث يكتشف أنهم بشر طبيعيون مثلهم مثله تماماً وما هم سوى ضحايا عملية تطهير عرقي.
يكتشف سترايب لاحقاً أن كل الجنود مزروعون بتقنية MASS والتي تساعد على «شيطنة» العدو وإظهاره بمظهر كريه مرعب يسهل على الجندي عملية إطلاق النار. يبين الطبيب النفسي الذي يعالج سترايب أن كل الجنود يوقّعون تعهداً بقبول برمجتهم وبالرضا بمحو ذاكرتهم حول الموضوع فور إتمام هذه البرمجة، حيث يوضح أن السبب الرئيسي لاستخدام هذه التقنية هو اكتشاف المؤسسة العسكرية أن الجنود يترددون كثيراً في إطلاق النار، حيث بينت الدراسات أن نسبة قليلة جداً من الجنود إبان الحروب العالمية قامت بإطلاق النار فعلياً على الأعداء (وهذه معلومة حقيقية في الواقع). يتبين كذلك أن المؤسسة العسكرية تتبع برنامجاً «إثابياً» مع الجنود من حيث زرع مكافآت جنسية في وعيهم ليلاً ومن حيث تحويل مناظر حياتهم المدمرة الى مناظر جميلة وسعيدة لتوهمهم بأنهم يعيشون حيوات ناجحة.
هل تبتعد الحلقة بأحداثها المرعبة عن الحقيقة؟
كيف مثلاً يستطيع جندي أمريكي إطلاق النار على طفل عراقي، كيف يقتل السوري نظيره المدني بالمواد الكيميائية أو القنابل الحارقة، كيف قصف السعوديون قرية يمنية كاملة، كيف يتوحش الإسرائيلي فوق رأس عجوز فلسطينية، كيف تذابح الراونديون، وانتشر فحش الصربيين وجرى التوحش التركي ضد الأرمن سابقاً؟ كيف تم قنص الأفارقة من على شواطئهم، وإبادة اليهود في «غيتواتهم»، وتم مسح مدينتن كاملتين في اليابان من الوجود؟ كيف تذابح الأوروبيون، ثم توحدوا ضد الشرق المسكين، ثم مارسوا العنصرية والفحش في جنوب أفريقيا وشرق آسيا؟ كيف أباد المهاجرون الأوربيون الأوائل السكان الأصليين لأرض أمريكا الجديدة، كيف توحشت إسبانيا في المكسيك، وكيف تنمرت إنكلترا على ثلاثة أرباع العالم؟ كيف أقنع هتلر وصدام والقذافي «الرعايا» باتباعهم؟
هل تبتعد فكرة البرمجة الإلكترونية عن واقعنا؟ ألسنا في الواقع مبرمجين لنرى أعداءنا على أنهم «صراصير» يسهل دعسهم؟ هل تبتعد فكرة الإثابة الحسية عما يسوق له وعاظ السلاطين خدمة لسلاطينهم واستعباداً للعامة؟ كيف يمكن سوق الآلاف، مئات الآلاف وأحياناً الملايين لتنفيذ أجندة ما، لتحري كراهية ما، لتبني عنصرية ما، لتطبيق عنف ما دون برمجة هذه الجماعات لترى ما يُراد لها أن تراه ولتشعر ما يراد لها أن تشعر به؟ من نحن حقيقة، كيف يبدو أعداؤنا في الواقع، أي حياة يعيشون، كيف يستشعرون الحق، كيف تبدو الصورة من زاويتهم؟ هل يمكن لنا ذات يوم أن نتحرر من برمجتنا فنرى الوجه الآخر، نسمع الصوت الآخر نستشعر إنسانية الآخر، أم أننا كبشر محكومون بلعنة البرمجة دون فرصة في الخلاص؟
الواضح أننا كلنا في الواقع صراصير في نظر بعضنا البعض، صراصير مبرمجة لترى الآخر بصورة بشعة، لتكرهه، لترغب في إبادته دون رحمة أو شفقة وفي تحد سافر لغريزة حفظ النوع، صراصير مبرمجة لتنفيذ أجندات العقارب الكبيرة وتموت بعد ذلك غير مأسوف عليها. أعتى الأعداء، أشد الجماعات فتكاً، داعش مثالاً، كيف يروننا؟ أي بشاعة تصورها برمجتهم في وجوهنا؟ ونحن، أي بشاعة نرى فيهم حتى نتمنى إبادتهم؟
الأمنية الإنسانية الطبيعية هي أن تتمنى «للآخر الشرير» كما تراه أن يتغير، أن تصلح أحواله، أما رغبتنا في إبادة وإنهاء الآخر، مهما بلغ عظم جرمه، فهي رغبة غير طبيعية، مبرمجة في عقولنا بما يتضاد والطبيعة الإنسانية. مرعبة فكرة أننا آلات في يد قوى لا ترحم، ليتنا نفيق ونرى الوجه الجميل لكل إنسان على هذه الأرض، هذا الوجه المختبأ خلف قناع هلامي لحشرة مقززة، قناع ألبسنا إياه الكبار لنقتل لحسابهم. هل سيأتي يوم ونفيق؟
مع الاعتذار للعظيم توفيق الحكيم