"إعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام، ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن من قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما." الشوكاني: السيل الجرار 4/578.
يعلم الددو هذا النقل، وغيره من النقول المشددة في النكير على تكفير المعين، دون إقامة الحجة عليه بأن يبين له أن ما نسب إليه من قول أو فعل مخرج من ملة الإسلام، ويستتاب. لكن الددو رمى عرض الحائط بكل ذلك وسارع إلى تكفير أربعة من ولاة أمور المسلمين، أفضى اثنان منهما إلى ما قدما، واثنان يقودان بلدين مسلمين فيهما من العلماء من هو أدرى بحالهما من الددو، ولم يكفروهما!!! لذلك وجب التساؤل عن مستند الددو في تكفير هؤلاء، فلم أجد سوى اشتراك الأربعة في معاداة حركة الإخوان المسلمين التي ينتسب لها الددو فصدق فيه قول القائل.."...وأما من أطلق لسانه [بالتكفير] لمجرد عداوة أو هوى، أو لمخالفة المذهب فهذا من الخطأ البين." الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، الفتاوى النجدية، 3/335.
يستهل الددو تسجيله التكفيري المنشور على الشبكة 22/12/2016، ببيان حكم التكفير، مقررا أنه حكم قضائي يرجع فيه إلى أهل القضاء، "الذين يعرفون هل هذا الإنسان قامت عليه الحجة، وله موانع وشروط..." ثم يقفز الددو إلى غايته دون تمهيد.." لكن بالنسبة لهؤلاء العتاة المفسدين مثلا من لم يكن...من كان من طائفة أصلا غير مسلمة كبشار مثلا... لا يكون أصلا داخلا في الإسلام حتى يعد مرتدا، وهكذا أبوه قبله." يكفر الددو بشارا لانتمائه إلى طائفة يكفرها الددو الذي ينسب إليها أقوال طائفة أخرى هي الغرابية التي تقول إن جبريل غلط حين أدى الرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أرسل إلى علي!!!
يعلم الددو أن "لازم المذهب غير لازم"، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين. فقد كان أحمد بن حنبل رحمه الله يكفر الجهمية مطلقا، والقول بخلق القرآن، ونفي الصفات والرؤية، ولم يكفر أحدا من الجهمية بعينه، ولا القائلين بخلق القرآن من ولاة أمور المسلمين الذين آذوه وغيره من المسلمين الذين امتحنوهم بهذه العقيدة. فقد كان أحمد يدعو للمأمون العباسي، ولم يأذن في الخروج عليه، وكان يترحم عليه بعد وفاته، وصلى أحمد خلف الجهميين، واعتقد إيمانهم، مع أنهم كانوا يكفرون من لم يقل بخلق القرآن مثل أحمد. يقول ابن تيمية.."وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة." مجموع الفتاوى 12/489. فلمَ لم يسع الددو ما وسع أحمد!!!
يقول الددو نفسه، في محاضرة بعنوان "شبه التكفير، تكفير المطلق والمعين"، نشرت على الشبكة بتاريخ 21/07/2015، "لا يكون التكفير إلا اعتمادا على النص". ولم يذكر نصا يعتمده في تكفير هؤلاء. ويقول.."تكفير المطلق لا ينزل على الأفراد." فكيف جاز له تنزيل تكفير النصيرية على بشار ووالده! ويقول: " قد لا يقول [المعين] بكل ما تقول به الطائفة... السلف يكفرون بعض الطوائف، ولم ينزلوا هذا على الأفراد...أحمد بن حنبل نقل عنه تكفير الجهمية بإطلاق، لم يكفر الخليفة، ولم يخرج عليه، ولم يدع للخروج عليه". فعلى ماذا يستند الددو في تكفير بشار ووالده، والتحريض على الخروج عليه!!!
ويقول الددو، في نفس المحاضرة، "أي احتمال يبقي الإنسان في الإيمان يقدم على أي احتمال يخرجه منه." أليست صلاة بشار، وأبوه من قبله، في مساجد أهل السنة، خلف أئمة أهل السنة احتمال يبقيهما في الإيمان، ويردعه عن تكفيرهما؟ ألم يردع النبي صلى الله عليه وسلم خالدا رضي الله عنه بقوله "لعله أن يكون يصلي" في الذي أراد قتله لتشكيكه في عدل النبي صلى الله عليه وسلم؟ وحين اعترض خالد بقوله.." وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه!" رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله.."إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم." والحديث بطوله في الصحيحين. أليست صلاة بشار ووالده احتمالا يبقيهما في الإيمان "يقدم على أي احتمال يخرجهما منه"! وقد مات حافظ الأسد رحمه الله وشهد له الشيخ البوطي، وصلى عليه، فهل تراه، لو علم كفره كان يصلي عليه. زد على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف المنافقين بأعيانهم، وقد أجرى عليهم أحكام الإسلام في الميراث والزكاة والحج، ودفن في مقابر المسلمين، وكان يصلي عليهم إلى أن نهي عن ذلك.
ويقول الدد، في نفس المحاضرة، مناقضا فتواه التكفيرية الأخيرة.."فكثير من الناس اليوم يسمعون إطلاق التكفير على فرقة من الفرق فيكفرون كل من انتسب إلى تلك الفرقة مع أن الإنسان قد يتمذهب بمذهب معين وينتمي إليه ولكنه لا يلتزم بأخطائه." وهذا ما فعله الددو بالضبط حين علل تكفيره بشارا ووالده بانتسابهما للنصيرية بطريق الوراثة. فلم يصرح أي منهما بانتسابه لهذه الفرقة، وإنما يتعبدان، في ما يظهر من عبادتهما على الملأ، وفقا للمذهب السني.
وبذلك يظهر جليا أن لا سند شرعي لتكفير بشار، وإنما منطلق الددو في ذلك العداوة والهوى السياسي. ثم ينتقل الددو إلى القذافي رحمه الله ليكفره بأقوال يرويها الددو عن أشرطة مسجلة!! "... وبالنسبة للقذافي فقد أعلن كفره على الملأ في كثير من الأشرطة المسجلة منها إنكاره لركعات الصلوات الخمس... وإنكاره لبعض الكلمات في القرآن وزعمه أنه سيغيرها ويمسحها..." ولم يدع الددو أن القذافي أقيمت عليه الحجة في ما نسب إليه! والثابت أن أفعال القذافي المشهودة، وهي أقوى في الحجة من الأقوال، لا تنسجم مع ما ينسبه إليه الددو. فقد صلى القذافي العصر في نواكشوط، ولم يزد في ركعاته، ولم ينقص. وقد صلى خلفه رئيس حزب تواصل الذي ينتمي إليه الددو. ولم ينقل أحد عن القذافي أنه كان يزيد في ركعات الصلاة أو ينقص منها. أما كلمات القرآن التي زعم الددو أن القذافي رحمه الله أنكرها، فلم يعينها الددو، وقد قام الدليل على بطلان زعم الددو. فمصحف الجماهيرية الذي أشرف القذافي على طباعته، وكتب بخط يده آخر كلمة فيه، ليس فيه تحريف بزيادة أو نقص. وامتاز الليبيون، زمن القذافي، بكثرة الحفاظ حتى بلغوا رقما قياسيا؛ مليون حافظ. ودأب الددو على الإشراف على المسابقة القرآنية التي تنظمها جمعية واعتصموا الخيرية التي تديرها عائشة القذافي، ويتقاضى عن ذلك أجرا معلوما. ولم يتحدث يوما عن تحريف في القرآن الذي يتلوه الليبيون تحت إشرافه لقاء أجر معلوم. ولم يؤثر عن الددو تكفير القذافي، أو الطعن في شرعية حكمه، قبل فتنة الربيع التي انغمس فيها الإخوان. بل كان الددو ضمن علماء الإخوان الذين أشرفوا على "دراسات تصحيحية في الجهاد والحسبة والحكم على الناس"، الذي ألفه قادة "الجماعة الليبية المقاتلة" في القسم العسكري من سجن أبو سليم في طرابلس، وانتهوا فيه إلى التوبة من تكفير الحكام، بمن فيهم القذافي، وحرمة حمل السلاح عليهم. وقد استندوا في ذلك إلى نقول ينسبونها إلى الددو. فإذا كان يرى كفر القذافي بما نسبه إليه فلماذا لم يخبر الذين استنصحوه بذلك!
وينسب أصحاب المراجعات إلى الدد قوله.."ثم قال الشيخ الددو، نقلا عن ابن عبد البر... فالواجب في النظر أن لا يكفر إلا من اتفق الجميع على تكفيره أو قام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب أو سنة." أنظر: دراسات تصحيحية في الجهاد والحسبة والحكم على الناس، ص:381. وينسبون إليه أيضا.."ثم قال الشيخ الددو: فهذه إذن بعض نقول أهل العلم في هذا الباب، ومنها تعلمون خطر هذا الأمر وأنه لا بد فيه من التريث ولا بد فيه أيضا من الحرص على سلامتك أنت أولا...فانصح لنفسك واحذر أن تكون من الذين أرادوا أن ينجوا غيرهم فوقعوا في الهلكة."، ص:382.
هكذا كان الددو يجادل قادة الجماعة الليبية المقاتلة مستنكرا عليهم تكفيرهم للقذافي. عمل الددو ساعتها، صدرت المراجعات يوم 06/09/2009، عند القذافي ضمن لجنة من علماء الإخوان برئاسة علي الصلابي أوكل إليها القذافي إقناع المقاتلة الليبية بالعدول عن تكفير الحكام، وحمل السلاح على المجتمع، وقد أفلحوا في المهمة وتقاضوا أجورهم سخية، ويرجون الثواب من الله!!!
لقد شهد للقذافي، بعد موته، أحد أعدائه في فتنة الربيع، بأنه يصوم الإثنين والخميس من كل أسبوع. وسمح أعداؤه الذين قتلوه، بتغسيله والصلاة عليه، ولم يدع أحد منهم كفره. فما الذي يدعو الددو إلى تكفيره الآن سوى العداوة والهوى السياسي!
ثم ينتقل الددو إلى السيسي ليقول عنه.."فقد سجل من كلامه وقوله، في كثير من المواقف، أن النصوص المقدسة يجب تغييرها، وأن الفكر الضال عمره الآن 14 عشر قرنا؛ يقصد عمر الإسلام". واضح ما في هذا التعليل من تهافت؛ فلم يدع الددو أن الحجة أقيمت على السيسي، وهي شرط مسبق للتكفير. ويعتمد الددو على تأويله الخاص لما ينسبه للسيسي. فلا بينة عند الددو في أن السيسي "يقصد عمر الإسلام." ذلك أن "...قصد المعين معتبر في الحكم عليه، وأنه لا بد من التبيين عن حاله، وهل ما تحقق منه في الظاهر من أفعال وأقوال كفرية صادرة عن تكذيب واستحلال، أم هي لأجل الجهل والتأويل." كتاب ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة، تأليف عبد الله بن محمد القرني، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1 /1992، ص:222.
ويقول في نفس المؤلف.."... لا بد من إقامة الحجة بما يزيل الاحتمال المانع من التكفير مع بقاء وصف الإسلام للمعين حتى يثبت كفره بيقين. فإن إسلامه قد ثبت بيقين فلا يزال بمجرد الظن والاحتمال والشك." ص:214. لقد عرف العالم السيسي من خلال تزكية الإخوان له مرجعين تعيينهم له إلى التزامه الديني، ووطنيته، فلما تصرف معهم بما يقتضيه تدينه ووطنيته، كفره الددو للعداوة والهوى السياسي. ويقول الددو نفسه.."قال الذهبي في آخر ترجمة بشر المريسي، بعد أن ذكر أقوال الناس في ذمه وتكفيره، وغير ذلك... قال ولكن أبى الله أن يكون من شهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وصلى الخمس إلى القبلة، وصام وزكى، وحج البيت، كمن لم يفعل شيئا من ذلك،..." من محاضرة شبه التكفير، تكفير المطلق والمعين، 21/07/2015. ألا تنطبق هذه الصفات على السيسي الذي يكفره الددو بالظن، والتأويل؟
يقول ابن تيمية، في مجموع الفتاوى 35/164-1655: "...المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال: كفر قولا يطلق، كما دل على ذلك الدلائل الشرعية... ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه." ولم يثبت الددو تحقق شروط التكفير، وانتفاء موانعه في هؤلاء الذين كفرهم، وإنما اكتفى بقوله.."فهؤلاء ليس تكفيرهم مثل تكفير غيرهم من المسلمين، فمن كفر نفسه، وأعلن كفره ليس كغيره من المسلمين." وهذا كلام متهافت، لا يجوز على العوام. فلم يعلن أحد من الأربعة كفره، ولم ينعتهم بالكفر إلا بعض علماء الإخوان بسبب الخصومة واتباعا للهوى السياسي. أما علماء سوريا، وليبيا، ومصر، من غير الإخوان، فلم يكفروا هؤلاء القادة، ولا يرون تكفير المعين إلا بشروطه التي لم تتوفر في أي منهم.
أخرج أبو يعلى عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رئيت بهجته عليه وكان ردءا للإسلام غيره إلى ما شاء الله فانسلخ منه ونبذه وراء ظهره وسعى إلى جاره بالسيف ورماه بالشرك، قال: قلت يا نبي الله أيهما أولى بالشرك؛ المرمي أم الرامي؟ قال بل الرامي." صحيح مسلم. ولا يعني ذلك إطلاق صفة الشرك، أو الكفر على الرامي المعين، وإنما هو حكم مطلق لا على التعيين، فإن أريد التعيين لزمت شروطه.
لقد أشهد أبو الحسن الأشعري، على نفسه، وهو ينازع الموت، أنه لا يكفر أحدا من أهل القبلة. وقال في كتابه "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين"، بعد ذكره الفرق الإسلامية بما فيه الروافض، وغلاة الشيعة.."...إلا أن الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم"، وخير دليل على مذهبه عنوان كتابه...
إن من تجرأ على القول إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأخبره أن الحرب في اليمن، بين المسلمين، جهاد لا يستنكر منه تكفير الخصوم...
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
دكتور محمد إسحاق الكنتي.