عاش الشعب العربي أمدا طويلا تحت ظل الإكراه والقمع ومصادرة حرياته في التعبير والعيش الكريم. كان ذلك أولا مع الاستعمار الذي ادعى أنه ينشر الحضارة، ويُحدِّث المجتمع ويحارب الاستبداد الشرقي. ولإنجاز هذا الفعل الحضاري لا بد من إسكات الشعب عن المطالبة بحريته واستقلاله. وكل من سولت له نفسه مقاومة الاحتلال لن يكون سوى إرهابي يعرض للسجون أو الإعدام. وها إسرائيل ما تزال تمارس ذلك ضد الشعب الفلسطيني، ولا تفرق بين البلاد والعباد، فكما تهدم بيتا، تقتلع شجرة زيتون، تعتقل طفلا، وتغتال رموز النضال الوطني حيثما كانوا، وبأشكال لا حصر لها.
جاءت الاستقلالات السياسية، وكانت الانقلابات، فلم يتغير واقع الإكراه والقمع. فباسم الوحدة الوطنية، صودرت الديمقراطية. وتحت نعت «أمن الدولة»، مورس «الخوف» ضد الشعب الذي كان يطالب بأن يبقى بعيدا عن تدبير شؤون الحياة، ما دامت الدولة أيا كان النظام الذي تسير عليه، تضطلع بذلك. تكمن المفارقة في كون «أمن الدولة» لا يساوي سوى «خوف الشعب». لكننا عندما نتأمل واقع الشعوب المتطورة، نجد العلاقة بين أمن الدولة لا يتحقق إلا بأمن الشعب، بل «المواطن» الفرد. بل إن أمن الدولة لا يتم الحديث عنه إلا إذا برزت ممارسات خارجية تستهدفه (الإرهاب مثلا). وحتى في هذه الحالة يعتبر أمن الوطن والمواطن هو أمن الدولة.
عندما طرحت مسألة الصحراء المغربية، في أواسط السبعينيات، على سبيل المثال، اعتبرت القضيةَ الأولى التي على الجميع أن يتعبأ لها، وينخرط فيها. وليس لذلك من معنى سوى عدم إثارة أي ملف مطلبي يهم الشعب، لأن في ذلك تهديدا للوحدة الوطنية. بعد هزيمة 1967، اعتبرت المواجهة مع العدو الصهيوني أولوية الأولويات لدى الدولة. وعلى الشعب ألا يطالب بأي حق من حقوقه السياسية والثقافية والاجتماعية، فالبلد في حرب مع إسرائيل وأمريكا. وباسم «الممانعة» منع الشعب من التعبير عن مطالبه الحيوية. جئت بهذين المثالين لإبراز المفارقة التي ستحكم العلاقة بين الدولة والشعب طوال كل التاريخ الحديث. وإذا كان «أمن» الدولة، يحتل المكانة الأولى، فإنه سيغدو عامل «خوف» لدى الشعب ليس من العدو الذي يتهدد الدولة، ولكن من النظام الذي يحكمه، لأنه يعتبر أي سلوك داخلي، ولو كان «مطلبيا» بسيطا، «خيانة وطنية» تستوجب العقاب، والاعتقال والمنفى. وكل نظام يمارس «الخوف» بهدف «الأمن» تحت شعار «الوحدة».
وفي كل هذا التاريخ كانت محاولات لوضع حد لهذه المفارقة عن طريق المظاهرات النقابية أو السياسية، ولكن مواجهتها كانت تتم بأبشع الأساليب التي لا تقل عنفا عما تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين. وجاء الربيع العربي ليقول: كفى. لقد مر نصف قرن، وبات من الضروري أن تضع المفارقة أوزارها. وكان ما كان مما الكل يذكره، وها آثار ذلك ممتدة إلى الآن في سوريا واليمن والعراق وليبيا.
كانت التجربة المغربية مختلفة، وها الحديث الآن يتداول عن «سنوات الرصاص» التي ليست سوى تعبير عن تلك المفارقة. انهار «الأمن» الذي كانت تحرص عليه الدولة في تونس وليبيا، وها آثار «الخوف» التي خلفها تبدو جلية لدى الجميع، والكل ضمنيا يفكر في «دولة» لا تهتم إلا بالأمن الذي لا يؤدي إلا إلى الاختلاف، وإلى الخوف. سقط «الأمن» الذي كان نظام البعث معنيا به، وأعدم صدام حسين. لكن كل من كان «يخاف» صداما، صار «صادما» للحريات، ويصفي الحسابات ضد الشعب العراقي الذي لا يمارس عليه إلى الآن إلا «الخوف»، والتهجير والتقتيل والعنصرية الطائفية باسم محاربة «الإرهاب». وكل ذلك يتم بشعارات لا تختلف في قوتها، وعنفها عما كان يمارس في ظل المفارقة الكبرى. أتعجب حين أرى على يافطات ولوحات ولافتات دعايات الحوثيين الإيديولوجية المرفوعة في المناسبات، والمعلقة في الساحات وهي تقول: «الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، الله أكبر…» ولكني أرى إسرائيل لا ترمى بحجر، ولا أرى سوى الخوف والقتل الذي يمارس سوى اليمنيين. وما «الله الأكبر» سوى «الطائفية» المقيتة. أليست هذه مفارقة تزكم الأنوف؟
ألم يكن هذا ما فعله النظام السوري، خلال عقود، باسم «الممانعة» التي لم يطلق خلالها رصاصة واحدة ضد إسرائيل، فصادر الحريات، وقمع المعارضين، وآثار حماة نيشان من نياشينه المضرجة بالدم. وحين خرج الشباب يرقصون ليلا، ويرفعون شعار المطالبة بالحرية، تصدى لهم بالحديد والنار، فجيَّش الميليشيات وأدخل إيران وحزب الله، لممارسة «الخوف» ضد الشعب السوري، ثم بعد أباح الفضاء لروسيا لتجرب أسلحتها وتستعرض عضلاتها على الأراضي السورية، فتدمر وتقتل، حماية لـ»النظام»، ورعاية لأمن «الدولة»، ولا عبرة لما يقع للشعب في حلب، وغيرها الذي يعيش أقسى درجات الخوف، وأقصاها. وكل ذلك يتم باسم «محاربة» الإرهاب. وإذا كان المعلوم أن «داعش» هي المستهدفة في العراق وسوريا، فإن المفهوم يتسع لكل من يقول لا للنظام؟ وها هو الآن يجني ثمار الاستعانة بروسيا وإيران، رغم أن الكل كان مجمعا على عدم الاستعانة بالخارج. وها هو وزير خارجية موسكو يتحدث عن مصير سوريا وكأنها مقاطعة روسية، لا يهتم هو أيضا سوى بـ»أمن» نظامها ضد الشعب السوري. وإذا ما أبرز خطابا «إنسانيا»، تحدث عن «الهدنة»، ليخرج الحلبيون من مدينتهم ليتم تدمير ما بقي منها. أليست هذه مفارقة كبرى: تهجير المواطنين من بيوتهم، وتعريضهم للجوع ومعاناة آثار فصل الشتاء؟ أهناك ما هو أكبر من هذا «الإرهاب»؟ أين «الأمن» وأين «الخوف»؟ ولمن الأمن؟ ولمن الخوف؟ ألا تبرز هنا المفارقة الذي طالت تاريخ العرب الحديث؟ يبرر البعض هذه الحرب الروسية ـ السورية ضد الشعب السوري بأنها حرب ضد الإرهاب، وضد التطرف الديني، ودفاعا عن العقلانية والحداثة والعلمانية، وما شئت من الشعارات البراقة بالنسبة للبعض. ألا نرى في الشعارات المرفوعة ضد إسرائيل وأمريكا، سواء من لدن الحوثيين وإيران وحزب الله، سوى ممارسة الحرب ضد الشعب السوري واليمني، وتعريض لبنان للمزيد من تكريس الطائفية، والتقسيم، وتأجيل حل المشاكل التي يتخبط فيها؟
إذا كان الغرب وأمريكا يحاربان «الإرهاب» الذي يختصرونه في التطرف الديني، و»داعش» على وجه التحديد، والقاعدة في اليمن، هل يفعلون ذلك من أجل «أمن الدولة» أم من أجل «حماية» مواطنيهم من «الخوف» الذي يمكن أن تسببه لهم الحملات الإرهابية داخل بلدانهم؟ وروسيا، وإيران، أي إرهاب يحاربان؟ ولمصلحة من؟ هل تدخل إيران في العراق وسوريا ضد الإرهاب؟ أم من أجل «أمن» النظام العراقي والسوري؟ أو ليس «أمن» الدولة المزعوم، غير ذريعة لنشر القيم الإيرانية وتوسيعها في المنطقة؟ وروسيا: هل تحارب الإرهاب، والمقصود به بالدرجة الأولى والأخيرة، المعارضة المسلحة، هل تفعل ذلك من أجل «أمن» النظام السوري أم أجل مصالحها في المنطقة؟ وهي تستأسد «عالميا» وتحاول استرجاع أمجادها الديكتاتورية التي أتاحتها لها أمريكا أوباما التي ترمي إلى تحسين صورة أمريكا؟
إن هذه المفارقة الكبرى، وما تتولد عنها من مفارقات، ليست سوى صورة عن طبيعة النظام العربي، وما خلفه من آثار سلبية على المجتمع. إن «أمن» الدولة، تعبير عن «الخوف». وبدل أن تحارب الدولة «الخوف» بـ «أمن» الشعب، تنقل الخوف إليه. فيكون الخنوع والخضوع ليصبح «الأمن» الهاجس الأساس. حل المفارقة تصور آخر للأمن والخوف.
كاتب مغربي