لم يتوقف كثير من المتابعين لمخاض تشكيل الحكومة المغربية المقبلة، برئاسة الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، عند عبارة دالة في بيان كان أعضاء الحزب، الذي قاد الائتلاف الحكومي لخمس سنوات، يعتقدون أنه سيضع حدا للخلاف بين الأحزاب التي دعاها بنكيران إلى تشكيل ائتلاف حاكم.
فبعد مرور أكثر من شهرين على تكليف العاهل المغربي لبنكيران بتشكيل الحكومة، كان قادة الحزب يعتقدون أن تشبثهم بمشاركة حزب الاستقلال، صاحب المرتبة الثالثة بـ46 مقعدا في مجلس النواب (الغرفة الأولى بالبرلمان) في الحكومة، هو سبب عدم قبول رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، عزيز أخنوش، وبجانبه الأمين العام لحزب الحركة الشعبية، امحند العنصر، بعرض بنكيران، لتشكيل أغلبية تخرج الحكومة من عنق الزجاجة، وفق ما أوردت وكالة الأناضول.
إشادة بحزب الاستقلال
العبارة المفتاح لفهم التطورات السياسية الراهنة بالمغرب هي “استقلالية القرار الحزبي”، والتي وردت في سياق إشادة بنكيران، في بيانه أوائل الشهر الجاري، بموقف حزب الاستقلال، الذي اعتبر نفسه جزءا من الأغلبية البرلمانية، بغض النظر عن مشاركته أو عدم مشاركته في الحكومة المقبلة.
قيادة حزب العدالة والتنمية شددت على أن تعاون حزبهم مع حزب الاستقلال “مؤسس على تعاون وثيق بين الحزبين خدمة للمصلحة العليا للوطن وتقوية للديموقراطية ودعما لاستقلالية القرار الحزبي، وذلك انطلاقا من القناعة المشتركة بأن خدمة الوطن تقتضي الوقوف في الموقع الصحيح من التاريخ وليس في الموقع الحكومي أو غيره”.
ومؤخرا، صرح الأمين العام لحزب الاستقلال، لحميد شباط، بأن “موريتانيا تاريخيا أراض مغربية”، وهو ما اضطرار الخارجية المغربية إلى إصدار بيان تدين فيه هذا التصريح، وزار بنكيران موريتانيا، بتكليف من الملك، حيث التقى الرئيس الموريتاني، محمد ولد عبد العزيز، لـ”تبديد سوء الفهم” الناتج عن ذلك التصريح.
ورغم تنازل بنكيران، في ظل تداعيات تصريح شباط، عن تشبثه بمشاركة حزب الاستقلال بالحكومة، إلا أنه لم يتنازل عن تحالفه مع أعرق حزب مغربي (الاستقلال)، والذي يصنف ضمن “الأحزاب المستقلة بقرارها” غير الخاضعة لتوجيهات “المخزن” (الدولة العميقة).
و”المخزن” مصطلح سياسي مغربي يُقصد به نافذين في المملكة يتقلدون مناصب في مختلف الإدارات المهمة، وهم من المقربين من القصر الملكي، ويتحركون باسم الدفاع عن مصالحه، ويفضلون تحديد مصالح المملكة، واتخاذ القرارات المهمة خارج المؤسسات التمثيلية من برلمان وغيره، وعادة ما يتحركون مع شبكة من رجال الأعمال وفاعلين آخرين.
“مشروع التحكم”
حزب العدالة والتنمية، الذي فاز في الانتخابات التشريعية، التي أجريت يوم 7 أكتوبر، للمرة الثانية على التوالي، كان قد وصفه تشكيله الحكومة السابقة بأنه “وصول على متن رياح الربيع العربي”.
والحزب واضح في اختياراته السياسية وتحالفاته، ففي يناير 2016 أصدر تقريرا سياسيا، أثناء انعقاد مجلسه الوطني (برلمان الحزب)، اعتبر فيه أن نتائج الانتخابات البلدية لسنة 2015، التي فاز بها، كشفت بوضوح أن ما يصفه بـ”مشروع التحكم” في تراجع وانحسار.
بينما تيار الإصلاح والبناء الديمقراطي، وفق الحزب، في تقدم وتنام، بعد أن “أدت نتائج الانتخابات الجماعية بحزب الاستقلال إلى مراجعة عدد من مواقفه والتوجه إلى تبني موقف جديد في علاقته بحزب العدالة والتنمية”.
وكان حزب الاستقلال مشاركا في الحكومة السابقة عند تشكيلها، ثم انتقل إلى المعارضة لاحقا ليحل محله حزب التجمع الوطني للأحرار.
بالمقابل، اعتبر حزب رئيس الحكومة المكلف أن هناك مشروعا سياسيا في المغرب، عنوانه “التحكم والريع″، تجسد في حزب “الأصالة والمعاصرة”، قبل بل أن يكون كامنا في “هيئات جمعوية وإعلامية”.
ومنذ تأسيس هذا الحزب عام 2008 من طرف فؤاد عالي الهمة، وزير الداخلية المنتدب سابقا، ومستشار الملك حاليا، يعبر حزب العدالة والتنمية عن رفضه “القاطع إزاء أي مهادنة له أو تطبيع معه أو تسامح مع اختياراته”.
ديمقراطية مغربية
عل الجانب الآخر من معركة تشكيل الحكومة المغربية، رأى الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، إلياس العماري، الذي حل ثانيا في الانتخابات بـ102 مقعدا، أن العدالة والتنمية في إدعائه مواجهة “التحكم” في شخص حزب الأصالة والمعاصرة، فهو يواجه “طبيعة” الأشياء، التي تميز الحياة السياسية بالمغرب، وأن عدم إقراره بالمسافة الحقيقية الفاصلة بين “الديمقراطية التامة” و”الديمقراطية الانتقالية والمتدرجة”، هو إقرار بعجزه عن إدراك منطق الأشياء الذي يتطلب الحفاظ على السير الطبيعي للمسار الديمقراطي في المملكة.
وفي مقال بعنوان “لهذا الديموقراطية مشروع غير مكتمل”، في نونبر، أضاف العماري أن “مواجهة التحكم، باعتباره بنية راسخة للدولة”، من أجل حماية الديمقراطية، كما يدعي الحزب الأغلبي (العدالة والتنمية)، هي “مغامرة تعاكس رغبة الشعب المغربي في نموذج ديمقراطي يلائم خصوصيات دولته، ويراعي إيقاع الخطوات الثابتة التي تناسب مسارات تطوره وتقدمه”.
خطر أحمر
ومنذ 10 أكتوبر/ تشرين أول الماضي، حين كلّف العاهل المغربي، بنكيران، بإعادة تشكيل الحكومة، أطلق بنكيران مشاورات مع معظم الأحزاب السياسية التي حصدت مقاعد برلمانية معتبرة، بما فيها تلك التي يعتبرها “غير مستقلة بقرارها”، باستثناء حزب الأصالة والمعاصرة، الذي يعتبر التحالف معه “خطا أحمر”، لكنه حتى اليوم لم يعلن عن الوصول للأغلبية اللازمة ل تشكيل الحكومة.
ورغم قبول حزبي “الاستقلال” (46 مقعدا) و”التقدم والاشتراكية” (12 مقعدا) مشاركة العدالة والتنمية (125 مقعدا) في الحكومة، إلا أن مجموع نواب الأحزاب الثلاثة (183) لا يضمن الأغلبية المطلوبة في مجلس يتألف من 395 نائبا، حيث يحتاج تشكيل الأغلبية الداعمة للحكومة لـ198 نائبا على الأقل.
شروط أخنوش
بعد إعلان العماري مبكرا عن اصطفاف حزبه في المعارضة، أصبح رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، عزيز أخنوش، هو المفاوض الأساسي لبنكيران من أجل تشكيل الحكومة، خاصة بعد قبول بنكيران التنازل عن مشاركة حزب الاستقلال.
أخنوش، رجل الأعمال الشهير، والمقرب من الملك، تمكن من بناء تحالف متماسك من أربعة أحزاب بجانبه (التجمع الوطني للأحرار، الحركة الشعبية، الاتحاد الدستوري، الاتحاد الاشتراكي)، وقطع الطريق أمام بنكيران لتشكيل أي تحالف حكومي، خارج الشروط التي وضعها، والقاضية بإشراك الأحزاب الأربعة في الحكومة، بينما يصر بنكيران على حصر التحالف في الأحزاب المشاركة في الحكومة المنتهية ولايتها (العدالة والتنمية، التجمع الوطني للأحرار، الحركة الشعبية، التقدم والاشتراكية).
وبحسب منتقدين، فإن شرط أخنوش يهدف إلى زيادة تمثيل “المخزن” في الحكومة المقبلة؛ لضمان التأثير على برنامج تلك الحكومة، حيث يخشى “المخزن” استقلالية الأحزاب المشكلة للحكومة عن سياساته وتوجيهاته.
وحين دعت التزامات المغرب لعودته إلى الاتحاد الإفريقي، مصادقة البرلمان على القانون الأساسي للاتحاد، وجد بنكيران نفسه مضطرا لتلبية طلب الملك بهيكلة مجلس النواب، فتنازل مجددا أمام أخنوش، واقترح عليه رئاسة عضو من حزبه للمجلس؛ حتى لا تخرج الرئاسة عن صفوف الأغلبية التي يسعى إلى تشكيلها.
لكن رئيس التجمع الوطني للأحرار رفض مقترح بنكيران، وفرض، عبر تحالفه الرباعي وحزب الأَصالة والمعاصرة، رئيسا جديدا لمجلس النواب من حزب الاتحاد الاشتراكي (20 مقعدا)، الذي يرفض بنكيران إشراكه في الحكومة.
أربعة أحزب بلا أغلبية
أمام هذا الوضع، يجد بنكيران نفسه محاطا بأربعة أحزاب لا تمتلك العدد المطلوب من النواب لتشكيل الحكومة.
ثلاثة من تلك الأحزاب توصف بأنها “أحزاب غير مستقلة”، وهي: التجمع الوطني للأحرار، الحركة الشعبية، الاتحاد الدستوري.
فيما يبدو أن حزب الاتحاد الاشتراكي دخل في تحالف وتماهي مع مواقف الرئيس الجديد لحزب الأحرار، الذي انتخب مباشرة بعد الانتخابات التشريعية، خلفا لوزير الخارجية، صلاح الدين مزوار.
أما الحزب الرابع في معادلة بنكيران، والذي يصنف ضمن الأحزاب المستقلة بقرارها، فهو التقدم والاشتراكية.
العدالة والتنمية يردد أنه لا يتضايق من التنافس السياسي والفكري الديمقراطي، معتبرا أنه يعلي من شأن التعددية الحزبية والسياسية، في ظل نبذ الإقصاء أو الهيمنة أو الاستفراد، وفي احترام للقواعد الديمقراطية “في ظل الضمانات التي يقرها دستور المملكة ويسهر عليها جلالة الملك باعتباره رمز وحدة الأمة”.
لكن الحزب في المقابل، وبحسب قيادات فيه، يرى أن دوره حاليا هو دور تحريري يعيد إلى السياسة بالمغرب ألقها، بأحزاب ديمقراطية تملك قرارها، وتتنافس في جو ديمقراطي وعلى أساس برامج محكمة.
وعامة لا ينص الدستور المغربي على مهلة زمنية معينة لتشكيل الحكومة، لكن استمرار الوضع الراهن، ربما يدفع الملك إلى التدخل، حيث توجد، وفق خبراء سياسيين، أربعة سيناريوهات، تتضمن تكليف شخصية جديدة من العدالة والتنمية، أو اللجوء إلى الأحزاب التالية له في نتائج الانتخابات، أو تشكيل حكومة وحدة من جميع الأحزاب الحاصلة على مقاعد، وأخيرا إجراء انتخابات جديدة، وهو السيناريو الدستوري من بين الأربعة.
فبراير كوم