عندما طالبنا في هذا المكان، وقبل ثلاث سنوات، بالحوار مع ايران من اجل تسوية الخلافات العالقة، على أرضية الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، انفتحت علينا أبواب جهنم، وحشدت الجيوش الالكترونية السعودية، التي تمثل خادم “الحرمين الشريفين” وحكومته كل أسلحتها الهجومية، مستعينة بقاموسها الخاص بها، الذي يضم مفردات مثل عملاء المجوس، والكفرة، والرافضة، وعبدة النار، وأبناء المتعة، للهجوم علينا وغيرنا، ورفضنا مطلقا، وسنرفض دائما، ان ننجر الى هذا المستوى الهابط، وتمسكنا بمواقفنا التي ترى الأمور بمنظور مصلحة الامة والعقيدة.
اليوم (الأربعاء) يحط وزير خارجية الكويت الشيخ صباح الخالد الصباح الرحال في طهران عاصمة “المجوس″، حاملا رسالة من الأمير صباح الأحمد، وبتكليف من قادة دول مجلس التعاون الخليجي الست، اثناء قمة البحرين لفتح حوار مع القيادة الإيرانية لتسوية الخلافات الخليجية.
الشيخ الصباح اكد اثناء لقائه نظيره الإيراني محمد جواد ظريف “على ضرورة إزالة الخلافات في وجهات النظر، وازالة سوء التفاهم بين دول المنطقة عبر حوار صريح في أجواء هادئة، والتحلي برؤية مستقبلية لمواجهة الاخطار التي تهدد المنطقة، وعلى رأسها الإرهاب”، مؤكدا “وجود قواسم مشتركة عديدة بين ايران ودول المنطقة، تاريخية وثقافية ودينية”.
***
دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية تتخذ هذه الخطوة “المتأخرة” من موقف ضعف، وفي ظل اخطار عديدة تواجهها المستويين الداخلي والإقليمي، اضافة الى المستوى الدولي، فقد خسرت حربها في سورية، وما زالت متورطة في حرب استنزاف في اليمن التي تقف على أبواب عامها الثالث، وخزائنها فارغة، او مثقلة بالديون الداخلية والخارجية، بعد تبخر الاحتياطات المالية وارتفاع العجوزات في الموازنات العامة وإلغاء مشاريع بنى تحتية بسبب تراجع العوائد النفطية، ولكننا نؤمن بأنه ان تأتي متأخرا أفضل من ان لا تأتي ابدا.
فبينما احتلت ايران وتركيا مكان الصدارة في مؤتمر الآستانة الأخير حول سورية، غابت المملكة العربية السعودية وقطر اللتان انفقتا المليارات وآلاف أطنان الأسلحة للمعارضة السورية، ولم توجه لهما الدعوة، في ظل سياسة “تهميش” واضحة لا تحتاج الى اثبات.
واذا مضى الرئيس الجديد دونالد ترامب قدما في تهديداته بإرغام دول الخليج على دفع ربع عوائدها كجزية مقابل الحماية الامريكية، وأعطى الضوء الأخضر لضحايا هجمات الحادي عشر من سبتمبر لمقاضاة السعودية امام محاكم امريكية، وطلب تعويضات قد تصل الى أربعة تريليون دولار، فإن الصورة تبدو اكثر من سوداوية.
السيد عادل الجبير وزير الخارجية السعودي، تخلى كليا عن “صقوريته”، وتصريحاته النارية، وتحول الى حمامة وديعة، اثناء المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقده امس مع نظيره الفرنسي جان مارك اورليت عندما قال “حاولنا إقامة علاقات جيدة مع ايران، الا ان النظام الإيراني لم يتخل عن عدائه، وتدخله في شؤون دول المنطقة منذ قيام الثورة الخمينية”، وأضاف “ان المملكة لم تفجر السفارات الإيرانية، ولم تقم بإغتيال دبلوماسييها، لانها ليست من اخلاقياتنا، وفي نهاية المطاف، ايران دولة مجاورة وإسلامية ومن الأفضل للجميع ان لا تكون هناك خلافات او مواجهات، ولكن يد واحدة لا تصفق”.
لو قال السيد الجبير، او سلفه الراحل الأمير سعود الفيصل، هذا الكلام عن “التدخل” في شؤون الدول الأخرى قبل خمسين عاما، عندما كانت المملكة حمامة سلام، ووسيط له وزنه واحترامه في تسوية القضايا الإقليمية، وتقريب وجهات نظر المتخاصمين، لايدناه، وبصمنا بالعشرة على كلامه، ولكن بعد تدخلها بالمال والسلاح في سورية، وتمويل وتأسيس المليشيات وتسليحها، وارسال مئتي من طائرات “عاصفة الحزم” لقصف الفقراء العزل الجيع المعدومين في اليمن، وقتل الآلاف منهم، فإن من حقنا ان نطالبه، وكل المسؤولين السعوديين بالكف عن ترديد هذه العبارة، لانها لم تعد مقبولة علاوة على كونها تدين أصحابها، وهذا لا يعني اننا لا ندين بكل قوة التدخلات الإيرانية أيضا.
نعود الى الرغبة الخليجية التي حملها وزير الخارجية الكويتي الى الرئيس الإيراني حسن روحاني الذي سلمه رسالة امير الكويت التي تتضمنها، ونعيد التذكير، لو ان المملكة العربية السعودية تبنت مبدأ الحوار، ومن موقع قوة، قبل ثلاث او اربع سنوات لحققت الكثير من المكاسب.
نشرح اكثر ونقول ان السعودية والدول الخليجية خسرت ما يقرب “تريليون” دولار (الف مليار دولار) عندما رفضت بعناد غير مسبوق، كل توسلات شركاؤها في منظمة “أوبك” تخفيض سقف الانتاج مليون ونصف مليون برميل يوميا للحفاظ على أسعار النفط التي كانت في حينها 120 دولارا للبرميل، وذلك لإحداث شلل في الاقتصادين الإيراني والروسي، الداعمين للحكومة السورية في دمشق، مما أدى الى انهيار الأسعار الى حوالي 30 دولار للبرميل (ارتفعت الى 45 مؤخرا)، وخسارة دول الخليج مجتمعة 380 مليار دولار سنويا، ومن المفارقة انه بعد ثلاثة أعوام وافقت السعودية على تخفيض انتاجها دون تخفيض انتاج النفط الإيراني، مما أدى الى تحسن طفيف في الأسعار، ولكن بعد “خراب مالطا”.
***
والاهم من ذلك انه لو جنحت المملكة للحوار مع ايران والتوصل الى تفاهمات حول تسوية الخلافات، ربما لما وقعت في مصيدة الحرب في اليمن، وتكبدت كل هذه الخسائر المادية والبشرية والعسكرية والسياسية.
نحن مع حل المشاكل والأزمات الخليجية والعربية مع ايران بالحوار في اطار مراجعة شاملة لكل السياسات الخاطئة والانفعالية المزاجية التي أدت الى كل الكوارث المذكورة آنفا، فالادارة الامريكية تحاورت معها، وكذلك الدول الست العظمى بقيادتها، وجرى التوصل الى الاتفاق النووي، فهل دول الخليج الست بقيادة السعودية اكثر قوة من أمريكا والدول الست العظمى الأعضاء في مجلس الامن، بالإضافة الى المانيا؟
نتمنى لمبادرة امير الكويت في فتح قنوات الحوار والتفاهم مع ايران كل النجاح، فإيران دولة مجاورة وإسلامية، وبيننا وبينها قواسم مشتركة كثيرة تاريخية وثقافية ودينية، أي ان ما يجمعنا اكثر بكثير مما يفرقنا، وكل ما نحتاجه كعرب هو الحكمة، والتواضع واستخدام العقل واستيعاب دروس التجارب السابقة المؤلمة تحديدا، والعمل على امتلاك أسباب القوة والاستقرار في الوقت نفسه.
لم نزر طهران منذ زيارتنا اليتيمة لها قبل عشرين عاما، رغم الدعوات العديدة التي وصلتنا، ويبدو ان زيارتنا الثانية باتت وشيكة، وسنقبل اول دعوة تأتينا بعد زيارة وزير الخارجية السعودي، او ربما العاهل السعودي نفسه لها، وسنحتفل بعودة العقل والحكمة، والعلاقات الخليجية الإيرانية كاملة، وإعادة افتتاح السفارة السعودية.. والأيام بيننا.