ليس أبدا من باب السخرية حين نقدم بين يدي مفردة “الوالي” (المحافظ) صفة جلالة الملك، بل لعلني أزعم بأنها أقرب للصورة الواقعية التي يعيشها و يظهر عليها ثمانية و أربعين واليا في الجزائر العظمى، و لا أدري صراحة و بكل صدق إن كان هؤلاء يرون أنفسهم في المرآة أم لا وقت لديهم لذلك؟ و هل يقتطعون جزءا بسيطا جدا لمراجعة رؤية المواطن إليهم؟ بمعنى آخر: هل تأملوا نظرة مواطن جزائري متحرر من أي مصلحة تربطه بأحدهم، و لا يملك ما يخاف عليه من غضب جلالة الملك الوالي؟ أخشى أن الإجابة هي النفي القاطع، لأسباب عدة منها، أن هذا المواطن تحديدا لا فرصة له للقاء الوالي، و أذكر هنا تعليقا لرئيس الجمهورية بداية توليه السلطة، حين أشار منتقدا بحدة الولاة و علاقتهم بمواطنيهم، بأن المواطن الجزائري قد يحظى بلقاء براك اوباما، مقابل استحالة لقائه بوالي منطقته، و منها كذلك أنه حتى لو حانت فرصة استثنائية و نادرة جدا، لأن يسمع الوالي رأي المواطن الحر فيه بصراحة و صدق، اتهمه مباشرة بالعمالة لجهة ما تريد زعزعة عرش جلالة الوالي.
لا أريد أن أجتر ذات الصورة التي عرضتها في مقال سابق هنا، عن زيارة جلالة الوالي لمدينتنا، و كان من بين المظاهر المقززة و الدالة بشكل لا يدع مجالا للشك على جنون العظمة، و تضخم “الأنا”، و هي حالة مرضية منتشرة كالوباء بين كبار المسؤولين في عالمنا العربي عموما، و في الجزائر على وجه الخصوص، يمكن لأي مواطن بسيط أن يرصدها من خلال مواكب سياراتهم الفخمة، و ما يتقدمها و يتبعها من سيارات حراسة ذات الدفع الرباعي، ذات الأسعار الخيالية في العالم، و جيش من الشرطة و آخر من الدرك يقوم على مرافقة جلالة الوالي، و ما يدعو للسخط حد الضحك الهستيري، مرافقة الطائرات العمودية لهذا الفلكلور الاستعراضي لمشاهد السلطان القوي. كيف لا يشعر المرء بحالة من الغثيان، و كيف لا يجزم بأن هذه الكائنات مصابة بمرض مزمن نتيجة تخلف سلوكي مروع، و هو يقارن تنقل رئيس دولة عظمى في طائرة عمودية لا أكثر، و عدد سيارات موكبه لا يزيد عن عُشُر ما يتبع جلالة والينا؛ طبعا لا داعي للمقارنة بموكب رئيس حكومة كندا، و قد يصاب المرء بجلطة دماغية لو تجرأ على متابعة رئيس حكومة الدانمارك، أو توقف عند موكب “الدراجة الهوائية”.
المهم، ما دعاني اليوم للعودة لهذا الموضوع على مضض شديد، لكوني أجتهد ما استطعت للترفع عن هذه المستويات الدنيا من مظاهر المسؤولين عندنا، هو زيارة أخرى قام بها جلالة الوالي لمدينتي بوسعادة ذات المئاتي ألف ساكن تقريبا، و التي تتربع ولايتها على مساحة تفوق سعة مساحة دولة قطر مثلا، و كان لافتا هذه المرة، أن قام بتصوير مظاهر سوء التسيير، سواء في الطرقات المهترئة أو الحالة المزرية لبعض المؤسسات التربوية، فضلا عن أكوام “الزبالة” التي تملأ زوايا الشوارع بما فيها أقرب زاوية لمبنى البلدية؛ ثم قام بعرض الصور الفاضحة هذه على صفحته بشبكة التواصل الاجتماعي؛ و بقدر ما لمست من خلال تعليقات المواطنين، من تشجيع لمبادرة جلالة الوالي بفضح الفساد و سوء التسيير، بقدر ما وقفت على تعليقات تعبر عن استياء مما قد توحي به الصور، من تقصّد لتشويه صورة المدينة العريقة، التي اشتهرت على مدى عقود طويلة بنظافتها، و رقي سلوك سكانها، و كانت لعهد قريب جدا من أهم المدن السياحية في الجزائر.
شخصيا أحبذ التوازن و العدل بالقسطاس المستقيم، جميل أن يكشف جلالة الوالي سوء التسيير في إحدى البلديات التابعة لسلطنته الواسعة، لكن الجمال يكتمل حين يكشف حالة الفساد غير المرئية، و التي ترافقه هو شخصيا، و لا يجد المواطن “سلطانا” يعرّيها بالصورة، و يعرضها على شبكات التواصل الاجتماعي كذلك؛ فكل المواطنين يرون بأعينهم أكوام الوسخ المكدسة في زوايا الطرقات، و كل المواطنين يقعون بسياراتهم في حفر الطرقات، بل و يتعثر الراجلون أحيانا حد السقوط في مطبّات الأرصفة كذلك، لا يحتاج المواطن و لا جلالة الوالي لمجهر حتى يرى هذه الحال المتعفنة. المواطن يعلم ما لا يريد السلطان معرفته مكابرة، و هو أن الأوساخ و الافلاس الظاهر للعيان، مرفوض قطعا و مدان، لكنه لا يستقيم أبدا علاجه دون علاج سلوكات وسخة و إفلاس فكري و ثقافي قبل ذلك أم موازاة معه على الأقل.
و هاكم مثلا أغفله جلالة الوالي، أو لعله لا يدري فعلا بأنه مظهر لإفلاس سلوك “المسؤولين”؛ فقبل زيارته هذه التي صدمته مظاهر مدينتنا، بثلاثة أسابيع فقط كانت له زيارة بمعية الصدر الأعظم جلالة وزير الصحة لمستشفى مدينتنا، طبعا هنا لا أحدثه عن موكبهم العسكري الجرّار، و لا عن غلق الطرقات بل و حتى المستشفى نفسه، الذي توقفت عند بوابته أرمادة من المدرعات، حتى يختلط على المشاهد إن كان أمام القاعدة العسكرية العيديد أم هوو فعلا أمام مبنى مصحة، يقصدها لكبرها أغلب مرضى عشرين بلدية في الجوار.
لا أتحدث عن هذا، بل أشير لأمر أكثر خطورة، و سلوكا غير مسؤول بالمرة، و هو أنه حين دخل وفد جلالة الوالي برفقة الصدر الأعظم وزير الصحة لمبنى المستشفى، تم صبيحة ذلك اليوم المشؤوم، إلغاء كل العمليات الجراحية المبرمجة مسبقا، و لكم أن تتصورا حالة المرضى و حالة أهلهم، و درجة القلق و الحيرة التي خيمت عليهم؛ حدود هذا السلوك الجاهل بل قد يصنف لدى المسؤولين الذين يتمتعون بوعي و انسانية قبل ذلك “جريمة” بامتياز، و لا ندري ما الفائدة المرجوة من تأجيل عملية جراحية لمريض مقعد، تخدم زيارة هؤلاء السلاطين العظام !!! أخطر من ذلك و أكثر إسفافا و دونية، أن تؤجل عمليات جراحية مستعجلة، يتهدد أصحابها الموت المحقق، ما لم يتداركه الفريق الطبي سريعا بها، و منها حالة كنتُ شاهدا عليها في يومها، لشاب أدخل في حالة استعجالية ليلة زيارة السلاطين، ليتقرر منتصف تلكم الليلة اجراء عملية جراحية عاجلة صبيحة الغد، و هي حالة لا تحتمل طبيا وفق ما قاله الاطباء الذين عاينوها، تأجيلا فوق أربع و عشرين ساعة؛ كان الشاب يعاني أوجاعا تفوق طاقة التحمل، و شبح الموت كان يقترب مع مضي كل ساعة نحوه، و حالة والديه و اخوته لا يمكن أن تصفها كلمات أو نفي حقها عبارات؛ في هذه الاثناء كان السلاطين يتجولون في الاقسام الادارية، و يعقدون لقاءات مصورة مع مسؤولي المستشفى، و الغريب هنا أن هؤلاء السلاطين أنفسهم كانوا من بين ينتقدونه، ما تفضل به جلالة الوالي على صفحته، من اوساخ و تقصير هنا و تقصير هناك، غير عابئين بأرواح معلقة تنتظر بفارغ الصبر مغادرتهم المكان، عسى أن تتلقفه أيدي العناية الالهية و ينقذهم الجرّاحون من الموت. هل يرى جلالة الوالي و الصدر الاعظم هذه الصورة؟ هل ينقلها لهم أحد؟ و إن نقلت فعلا هل يرونها جريمة و إفلاسا و وسخا اكثر خطرا من الزبالة في الطرق؟ هذه المأساة الملهاة لم تقتصر على الحالات الاستعجالية الخطيرة، بل ضربت كل المرضى، ذلك أن من بين الصور البائسة أن جميعهم حرموا وجبة الغداء يومها، بسبب تجنيد كل موظفي المستشفى لاستقبال السلاطين، و فرض حضورهم لجلساتهم المتحضرة و المتمدنة و المسؤولة جدا.
نعم يا جلالة الوالي، هناك أوساخ و حفر و مطبات في مدينتنا، و ألف نعم لصور لا تراها أنت، تعكس حالة أوساخ سلاطين و حفرهم و مطباتهم أخطر بكثير؛ و إن كان جنابك المعظم قد شعر بالصدمة و نشر الصور على صفحته، فنحن في حالة صدمة منذ زمن من حالة سلاطين و ملوك لا يملكون مرآة يرون فيها حالتهم البائسة.
فلاح جزائري