لطالَما رفضتُ المحاجّةَ ضد ما يسمى "استِلابا حضارِيا/ثقافيا" من حيثُ المبدأ، لأن مجردَ الحِجاجِ ضده ومحاولةَ رفضهِ فكريًا، هو اعترافٌ بوهم اجتِماعي لم يعد متمثّلا في عالم اليوْم أو الغد، وكما أعتقدُ أن مفاهيمَ من قبيل "العولَمة" و"القرية الواحدة" أصبحَت الآن بالذات، أركيولوجيةً ثقافية مُتجاوزَة، فإن الحديثِ عن تأثر بالآخر يصلُ حد الانسِلاخ، في زمنِ الحداثةِ السائلة، أي في أوانِ ما بعدَ الحداثة، هو حديثٌ ضعيف، غيرُ متصل السند، معتلّ المتن.
كيفَ يُستلبُ من "ضُربَ في الخلاط"؟! فَلم تعد الثقافةَ تشكيلا جغرافيًا وخصوصيةً مكانية، بقدر ما هي الآن، انزِياح وامتِزاج، لم تعد برجوازِيةً فلسفية، باتت كالخبزِ، تُشرى قبل النهار بساعةٍ أو اثنتين، وتعجَن في الليلِ ليُصبح عليها الكادحون والنبلاء، سواءً بسواء، مع اختلافٍ بسيط في نوعِ "الحشو".
عندَما أسمع أحدًا يصف أحدا أو جماعةً بأنها تقلدُ الغرب، مثلا، أستغرِب تماما. ما هو الغرب؟ تَحسُن الإجابةُ على ذلك السؤال أولا، ثم محاولةُ تخطيهِ إلى سؤال الثقافةِ والاختِلاط. لا أعتقدُ أنه بعد كوبرنيكوس قد وجدَ غرب أو شرق، هناكَ فقط كرة كونيةٌ تتدحرجُ في نسيجٍ زمكاني يبدو غيرَ منتهٍ. وأي حديثٍ اليوم عن الاستلابِ كواقع، هو اجترارٌ وافتراء على ذلك الواقع نفسِه، لم يعد بإمكانِ جهةٍ أن تهربَ من ثقافة جهة، الأصالةُ شبهِ استحالة، والتقليد لم يعد سوى جزءٍ من الاستيقاظ. آخر المجتمعاتِ النقية، لسانِيا على الأقل، بدأت تختفي من أدغالِ أفريقيا وشواطئ أستراليا الشمالية.
طبعا، عدتُ لأحاجّ ضد الاستِلاب، لأحاجَ مع المَزج والخلط والتبسيط، أو حتى مع التسطيح، وتشكيلِ الثنائيةِ الأفقية شرق-غرب ثم تفكيكِها وتدويرِها كجوابٍ جذري على "الجِهوية الأرضية" القادمةِ من وراءِ التاريخ!
الثقافةُ أخذ، الرفضُ انتحار، الانتِحار عدميةٌ متهافتَة".
من صفحة الأستاذ ميدو عبد الرحيم على الفيسبوك