الإنسان وفي خضم صراعه مع عقدة النقص المزمنة في ذاته، وخطاه الحثيثة في تشكيل (أنا) المتعاظمة لديه، لم يدع طريقا إلا وسلكه بغية الوصول إلى حالة مرضية من القوة والتمكين، كافية لأن يتناسى حقيقة أنه خلق ضعيفا.
وليس أوضح من تلك الصورة الأزلية ( في مسعى الإنسان للقوة والكمال والخلود ) ذلك السياسي اللاهث خلف المال، ورجل الأعمال ذاك الحالم بالسلطة، فكلاهما يجري باتجاه الآخر، وما أن يلتقي ثنائي الإمارة والتجارة حتى يحل الفساد ضيفا على الديار.
رجل المال والأعمال جبلت نفسه وترسخت عقيدته على حب الثروة وإدامتها وتنميتها بقدر لا نهائي، وهو يدرك أن أحد مسالك الثروة هي السلطة، فهي من جهة تحمي استثماراته، ومن جهة أخرى قد تمنحه أفضلية ( بحكم نوعية المعلومات التي يطلع ومقدار السلطة التي يحوز ) من شأنها توسيع أعماله ومشروعاته، كما أن يده في السلطة ستمثل له الحماية من أي تشريع أو قرار قد يلحق الضرر بأعماله وتجارته.
في المقابل فإن رجل السلطة والسياسة يدرك بأنه ما إن يغادر منصبه الرسمي فإنه قد يفقد معظم قدرته على التأثير، وهو بحاجة للمال للمحافظة على هيبته وحضوره وحجم علاقاته السابق وامتيازاته.
هنا تلتقي المصالح، ويقع زواج سفاح يدفع مهره الشعب، خاصة في غياب الشفافية والحرية والمساءلة وغياب التمكين الشعبي العام. وينص العقد المبرم بين الطرفين بأن يقوم رجل السلطة بتسهيل الأعمال والاستثمار والاتجار لرجل المال، وصياغة القوانين والتشريعات بما يخدم مصالح البرجوازية وأولوياتها وتوفير غطاء حماية لأي اعتداءات أو تجاوزات يرتكبها رجل المال ولو على حساب المجتمع والدولة.
في المقابل، يقوم رجل الأعمال بملئ جيوب الساسة بالمال الأسود، ويشتري ذمم موظفي السلطة، ويوجه الإعلام نحو ما تمليه المصلحة، ويدعم رجل السلطة متى ترك منصبه الرسمي أما بالتعيين المباشر لديه في أحد الشركات أو بدعمه ماليا في حملاته الانتخابية لكي يصبح وكيلا وممثلا لمصالح رجل الأعمال في البرلمان أو أي موقع آخر قد يمكنه من التأثير.
هذا النموذج المادي بالغ البراغماتية والميكافيلية ليس وليد اليوم، إنه نتاج تراكم لخبرات طويلة وعميقة من قصص نجاح التحالف بين المال والسلطة، ذلك التحالف الذي يخلق البيئة المثالية لفساد الدولة وخلق المافيات التي توجه كل قرار وتشريع، وتتحول الدولة حينها لرعاية مصالح ضيقة لطبقة المال والسلطة على حساب وظيفتها الأساسية في الخدمة العامة ورفاه المجتمع ككل.
متى اختلطت التجارة مع الإمارة عم الفساد وتنامى الاستبداد، وأصبحت المصلحة العامة في ذيل أولويات الدولة، في حين تتركز السلطة بيد قلة من المتنفذين وتجار الذمم من رجال الأعمال والساسة.
قد يقول قائل في الطرف الآخر بأن رجل الأعمال الناجح هو مدخل لنجاح الإدارة العامة، خاصة بحكم خبرته ومعرفته بأصول الإدارة والكفاءة وتعظيم العوائد وترشيد الهدر والكلف! هذا نظريا قول سليم، لكن ما الضامن بأن كل تلك القدرات لن يتم توظيفها للمنفعة الشخصية وللشركات الخاصة وأصحاب المصالح ذوي العلاقة؟ لأن شبهة ازدواجية وتداخل المصلحة تكون حاضرة هنا وبقوة، خصوصا في ظل غياب أطر الحاكمية والمحاسبية والشفافية ومدونات الأخلاق والإفصاح والرقابة العامة وحرية الصحافة وحق الوصول للمعلومات.
أما رجل السياسة فحري به أن يواصل عمله كرجل دولة ملتزم، لا ينجرف خلف عقود عمل بأصفار مغرية، أو وظيفة استشارية هامشية لمجرد الانتفاع من علاقاته وتأثيره على القرار، ولا يليق به وبمسواه (الأخلاقي المفترض) القبول بالعمل بأجرة كوكيل لمصالح الشركات في هيكل السلطة.
السياسة والاقتصاد وجهان لذات العملة، لكنهما ليستا وظيفة لذات الشخص، ولقد برهنت تجارب الأمم بأن الجمع بين التجارة والإمارة هي مفسدة للصالح العام ومدعاة للفساد وضياع لقيم الحق والعدالة أمام القيم المادية وقصر النظر.
أكاديمي وكاتب