تخيلت مرة ماذا سيحدث حين أفقد الذاكرة .
وتخليت حزن من قدر أو سيقدر أن ألعب دورا مهما في حياتهم .
لاشك أن وضعا كذلك سيكون محزنا لهم .
فحين ترى ذاكرة كانت عامرة بك ، لم تعد تميز بينك وبين الغرباء .
أو مقلا كانت تشع بحبك ، وهي الآن تنظر إليك دون أن تحط على ملامح وجهك .
لاشك سيعتصرك الألم لما آلت إليه الإرادة والمشاعر من موات .
أعتقد أنكم تخيلتم الآن ذات الموقف وأنتم تتهجون هذه المقدمة .
دعوني أخبركم إخوتي أننا نعاني من ذلك المرض الآن ونحن نناقشه كاحتمال .
يمكن لأي أمة أن يسوء طالعها إبان حقبة من تاريخها ، أو تبتلى بنجاعة وسيادة أسوأ قيمها وأفردها ونخبها .
لكنها تظل تحت وطأة النحس تلك ، تتمتع بحسها الكامل ومشاعرها الغاضبة والمكبوتة ضمن وضع لا تكملك حولا ولا قوة لتغييره .
مما يميز فترات الغُلب تلك هو أنها تعمل على إنماء ذاتها وتخلق ثقافتها الحاضنة وتبني أعشاشها لتتناسل بسلام ، وبعيدا عن أعين المتطفلين .
الكارثة ليست ما يحصل في ظاهر الواقع المادي ، وإنما في مخبوء الواقع النفسي .
دعوني لا أخبركم بما نحن فيه على مستوى المشهود والمعلوم .
فلا أحد منكم يمكن يختلف مع آخر عليه .
لكنني سأتساءل عن مدى معرفتنا بكارثتنا المخبوءة في حيزنا النفسي والثقافي .
قابلت الكثير من الناس وتحدثت كثيرا عن طرحنا في المشروع الوطني ، وكانت الأفكار غالبا مما يحيل إلى التقارب ، فنحن جيل نشأ في وضع واحد وغذته أثداء أزمة واحدة ، ونحن بذلك نمتلك شكل حلم واحد .
ليس هذا محل الإشكال .
قد توقعون ضمن ظروف طبيعية أن يتوحد أصحاب الرؤية الواحدة والحلم الواحد والتوجه الفكري الواحد ، ضمن مشروع واحد .
لكن ذلك يحدث حين تكون الكارثة سطحية ومحدودة الأثر ضمن الحيز المادي .
لكنها حين تضرب بثقلها في المستوى النفسي ، تُحدث بعدا منطقيا للتفكير ، ويظل رغم منطقيته معتلا بروح الكارثة وعرضا من أعراضها.
لنبسط الأمر ...
عندما تتحدث إلى شاب مغلوب على أمره ، لايمتلك من الوطن ما يخسره ، ويرد عليك بأنك مجرد صوت آخر ، ورقم آخر ومتاجر آخر ، وهو بالكاد تعرف عليك قبل ساعة .
فإن الصوت الذي تسمعه ليس صوته ، وإنما صوت جلاديه .
إنه يفقد ذاكرته وتحتل ذاكرة المأساة مكانها .
( محزن أن ترى من تحبهم وهم يفقدون الذاكرة )
هو يسمعك جيدا لكنه لا يتذكر إرادته ولا شخصيته .
ذاكرته عامرة باليأس والخذلان ، لدرجة لم يعد يتذكر غير الكذب والخداع والخذلان وباعة التنظير وسلاق البيان .
إنه يفقد ضميره الحي تحت أقدام الأزمة .
وهو موظف عمليا ضمن قاعدة تقول " لا شيء يمكن أن يحدث غير ما حدث " .
لقد انتصرت الأزمة علينا لدرجة تولت التفكير والتقرير نيابة عنا .
نحن فاسدون في نظر بعضنا
ومتملقون حسب اعتقادنا
لا تحركنا غير الغايات الفردية ، أيضا حسب مانعتقد .
ما رأيكم الآن لو واجهنا أنفسنا بحقيقة الأمر ، وما يمكن أن نفعل حيال معتقداتنا عن أنفسنا ؟
سأقترح عليكم بعض المقترحات :
دعونا نرتب الأولويات لنضع اليقين قبل الشك ، فما نشهده أولى وأحق بالعلاج والريبة مما نشك فيه .
لنعالج المعلوم من المأساة ، قبل المنتظر ظنا منها.
المنتظر ظنا هو ما يمكن أن تؤول إليه المشاريع الجديدة من فساد واستغلال وتبعية ، وما يمكن أن يمارسة الشباب من انخراط في دوامة الفساد .
يعني هذا أننا أمام شخصين ، أحدهما نخاف من أن يكون نسخة موروثة من الآخر الذي نعرفه يقينا .
لماذا نترك المعلوم ضمن اليقين ونحاسب المنتظر ضمن الشك ؟
طبعا لن نستطيع أن نجيب إجابة متماسكة وعاقلة ، غير إجابة واحدة ، وهي أننا نفعل ذلك بإرادة وإملاء من المنتفعين من بقاء الوضع على ما هو عليه .
لقد زرع فينا هؤلاء الخوف من بعضنا ، بحيث لا ينتظر أن تقوم قائمة لجديد دون أن يمسها طائف من شيطان الخوف والشك ، فتصبح صعيدا جرفا ، أو يصبح ألقها غورا .
أحبتي الموريتانيين ، دعونا لا ننظر لبعضنا نظرات الريبة والخوف وترقب الشر ، بينما نولي ظهورنا لأحلامنا ونطيل عمر الأزمة لتمحق جيلا آخر من أبنائنا .
امنحوا أنفسكم بعض ماتمنحون لجلاديكم من ثقة .
وآمنوا بأنفسكم ليؤمن بكم حكامكم .
ندعوكم جميعا إلى عهد بيننا وبينكم أن لا تقف وراءنا أموال المتاجرين بدمائكم ، ولا شيوخ التبعية القبلية ولا ساسة الإنتفاع والإنتجاع .
وحين يراودكم فينا شك ، امنحوا أنفسكم فرصة إلقاء نظرة على ما أنتم فيه مما لا شك فيه .
دعونا نتقابل ولا ينظر بعضنا إلى بعض بعين المشككين والمحبطين والمرتزقة .
دعونا نستخدم عيوننا الباصرة وبصائرنا ونحن نتحلل من عبئنا النفسي ، وإرث الخوف الذي تملك عقولنا .
لن يكون المشروع الوطني مطية إلا للمحرومين والمنكوبين بوطأة الظلم والإستغلال .
ولن يضر غير المتحذلقين من باعة الوهم ومدمني خرق الخزائن العامة ومختلسيها .
ما تسمعونه هو صوتكم وليس صوتهم
دعونا نسترجع ذاكرتنا الأخلاقية ، فمن المؤلم أن ننظر لمن أحببناهم وهم لا يتذكرون أي شيء .
ولا يتخذون قرارا حيال حياتهم .
دعونا نعالج أنفسنا من وقع الكارثة لنتكتل في مواجهتها ، وأن نكتفي بالعقود الستة ، من التخاذل والخوف .
عهدنا معكم باق بقاء حزننا على ألم الفقراء ووطأة حاجتهم للعيش والكرامة .
لا تكتفوا بوضع إعجابات على هذا المنسور أو الثناء عليه .
بل امنحوا رغباتكم حق الحياة بالإسهام في إنجاز ماتحلمون به .
--------------------------------------------------
من صفحة الاستاذ محمد أفو على الفيس بوك