لا عيب مطلقا في تحسين و تطوير و تغيير المواثيق و الدساتير و المعاهدات و الاتفاقيات و غيرها إن تطلبت الأمور و الأوضاع و التطورات و التحولات التي لا تهدأ، لفائدة رسوخ أركان الوطن و استمرار مسيرته إلى اكتمال دولة القانون القوية و الديمقراطية الحقيقية. و إن الذي يرى عكس ذلك لا يتحدث بمنطق العصر و لا برجاحة العقل السياسي، و إنما تعتريه نقيصة التحجر و تنقصه بصيرة التنوير و تغيب عنه قدرة الاستشراف من خلال قراءة حراك الحاضر أحد أهم أسلحة و علامات العصر.
كم بلدا أقبلَ أهله حكاما و سياسيين و شعبا على تغيير دستوره و مواثيقه و معاهداته لملاءمة متطلبات التوازن و الاستقرار وضرورة المضي قدما إلى حيز الدولة القوية المستقرة بوسائل و أسلحة الحداثة التي لا تعرف الجمود.
و أما الشعوب المتحضرة و الواعية لأهمية السعي بمسؤولية و روح وطنية لدوام رفع الوطن فوق كل اعتبار هي التي تمضي بلا تردد إلى هذه التغييرات و التحسينات و بثبات و ثقة في المستقبل من بعدها، فتصوت بمسؤولية عالية و ولاء للوطن الجامع المانع.
و أما التي تتبع الأهواء و لا تتريث فهي التي تنكص بعد الولاء للوطن و لا تقيد قبولها و إقبالها على أي أمر من هذا القبيل و لا تهتم بمراعاة مصالحه و استقراره، وهي على العكس من ذلك تعتمد إلى ذلك كل الأسباب المعوجة التي تعارض روح دولة القانون للجميع و تسبح ضد هذا التيار إلى سخافات التقسيمات التي ولى عهدها تحفر في أحشائها عن وسائل خراب أركان الدولة الحديثة.
و في موريتانيا يتأكد يوما بعد يوم أن السياسة مجرد وسيلة للتكسب و التواجد في مفاصل الدولة و ضمان الحضور في عملية التسيير الجائر للمال العام و الدخول في نوادي و لوبيات و دوائر الفساد و الترفع في الالتحاق بنادي الميسورين في أحياء الشاطئ على الشعب و أحيائه المكتظة الصاخبة الوسخة و صيدلياته التي تبيع بلا رقيب الأدوية المزورة.
و السياسة بهذا المنطق المنحط هي شأن قبلي خالص بامتياز حيث تُرَى كلُّ قبيلة تَجمع أفرادها و شتات المتمردين و المغبونين فيها و تُضافر جُهودها لتكسب رهان هذا الحُضور المُشتهى الذي يضرب بحجر عصفورين هما عصفور ضمان التواجد و عصفور تدارك تقوية الجانب القبلي و ترميم و دعم أركانه التي ألمت بها عوامل الانشغال و النسيان.
و بالطبع فإنه ثمة قبائل كما كان الحال في الماضي/الحاضر تجيد اللعبة في هرمها إلى حد أنها قد تُقَدِّمُ راضية إلى الصف الأمامي من هو أضعف منها وجودا تقليديا و أقل عددا و لكن أكثر حدة؛ و هناك قبائل ـ من غير القابعة و منذ بعيد في قعر المستنقع المجتمعي ـ و إن كان صيتها النظري كبيرا إلا أنها تحمل داخل تركيبتها طبيعة التنافر و حدة شعور الاستعلاء الوهمي أسباب تفككها و غبنها و عدم قدرتها على الانضمام إلى نادي القبائل "الكاطعة" التي تتجاوز الخلافات البينية وقت الجد و التنافس و لا تعير أسنانها إلا أن تقضم جزء كبيرا.
و تشهد موريتانيا اليوم إحدى تلك المناسبات أو المواسم المفضلة لأهل فضول "سياسة العربدة" على الوطن، مواسمُ تحيي موات القلبية و لذيذ الصراع على كسب أماكن متقدمة في الركب المتجدد و تطبيق المثلين اللصيقين بجوهر شخصية أهل البلد: "ويل امك يالوراني" و "لطاح الما سندو اذراعو"....
..و مرة أخرى تسعى القبلية المأفونة بطبول حربها و مزامير نفاقها إلى تمريغ وجهَ الوطن في وحل الانتكاس.