مازالت تركيا تحظى بمكانة الدولة المركزية في التوازن الجيوسياسي العالمي حسب الاستراتيجية الأمريكية للعقود القادمة لموقعها على ثلاثة خطوط تماس بين دول حلف شمال الأطلسي وروسيا : منطقة البلطيق، البحر الأسود وشرق البحر المتوسط. نفس المكانة والاهمية مازالت تحظى بها القوة العسكرية التركية ضمن التصور العسكري والامني المستقبلي لحلف شمال الأطلسي من منطلق التعداد البشري والجهوزية العالية لافراد الجيش التركي كثاني قوة بشرية في الحلف بعد الولايات المتحدة الأمريكية. كما اكتسبت تركيا دورا آخر محوريا في الحلف في إطار السياسات الأمنية في مكافحة خطر الإرهاب المتصاعد عالميا.
هذا الدور الإقليمي “الاطلسي” لتركيا لم يمنعها من امتلاك تصور استراتيجي خاص ترجمته على أرض الواقع أحيانا بالقوة العسكرية وأحيانا أخرى بالقوة الناعمة، لكن مع الحرص و الحذر من عدم تضارب الدورين (الأطلسي و التركي).
فالتدخل التركي العسكري شمال العراق ابتدأ من أوائل التسعينات بعد خروج منطقة كردستان عن سيطرة الحكومة المركزية في بغداد أثر حرب الخليج الثانية، ووازن هذا التدخل من جهة بين محاربة حزب العمال الكردستاني التركي الذي كان يتخذ من شمال العراق ملاذا امنا (المصلحة التركية)، و بين التصدي لتمدد النفوذ الإيراني شمال العراق من خلال التحالف مع الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي ضد الاتحاد الوطني الكردستاني حليف إيران. أما ال 3000 جندي المنتشرين في قاعدة بعشيقة شمال العراق منذ 2015، فإن تركيا تصرح انهم موجودون للتدريب والمساعدة على التصدي لخطر تنظيم الدولة الإسلامية (دور يخدم المصلحة الامريكية)، تبرير لم يقنع الحكومة العراقية التي اشتكت إلى مجلس الأمن هذا التواجد بتحريض ايراني.
في سوريا، وبعد التردد والاقتصار على استقبال اللاجئين والدعم اللوجستي لفصائل الثورة السورية (دون ان يرقى إلى دعم مؤثر على أرض المعارك)، أطلقت تركيا عملية درع الفرات صيف 2016 عندما سيطرت قوات الحماية الكردية على مناطق شرق الفرات ووضعت يدها على المعابر الحدودية مع تركيا، التدخل العسكري التركي يخدم كالعادة دورا اطلسيا من خلال محاربة تنظيم الدولة و حقق هدفه الأساسي المتمثل في مثلث الأمان (من جرابلس و اعزاز إلى مدينة الباب). إلا أن طموح تركيا للعب دور أكبر في سوريا (يخدم المصلحة التركية المتمثلة في رفض قيام حكم ذاتي كردي شمال سوريا) ويمتد لما بعد مدينة الباب، ووجه برفض أمريكي بعد أن حسمت امريكا أمرها و اختارت التعويل على قوات سوريا الديمقراطية في معركة الرقة، الشيء الذي سرع بإعلان انتهاء عملية درع الفرات. حتى التقارب الأخير بين تركيا وروسيا والذي تعزز بعد محاولة الانقلاب الفاشلة ضد السلطة التركية فإنه لا يندرج في إطار التنافس بين روسيا والحلف الاطلسي، بل على العكس يسهل هذا التقارب والتنسيق من مهام الحلف في حربه ضد الدولة الإسلامية العدو المشترك مع روسيا.
القاعدة العسكرية التركية في الصومال التي أنشئت لتدريب 10 آلاف جندي صومالي تخدم انفتاح تركيا على القارة الإفريقية دبلوماسيا و اقتصاديا، إلا أن هذا لا يخفي دورا تركيا استراتيجيا (اطلسيا) في منطقة القرن الأفريقي ذات الأهمية القصوى من ناحية إشرافه على مضيق باب المندب الممر المائي عالي الاهمية، و تسعى تركيا إلى تعزيز علاقاتها مع إثيوبيا بما تمثله من دولة منبع لمياه النيل، وفي الآن نفسه تنافس النفوذ الإيراني المتزايد في البحر الأحمر (الجزر الاريترية).
نأتي أخيرا إلى القاعدة العسكرية التركية في قطر، التي وأن تم التسريع في إرسال الجنود و العتاد العسكري لها بعيد اندلاع الأزمة الخليجية، إلا أن تركيا تحافظ من خلالها على توفيقها الدائم بين الطموح التركي و الدور الأطلسي المنوط بها. تركيا ظهرت من خلال المسارعة إلى دعم الموقف القطري عسكريا في موقف الحليف الذي يشعر بالعرفان للموقف القطري المساند إبان الانقلاب الفاشل ضد حكم اردوغان صائفة 2016، كما دعمت من النظرة لها كدولة تمارس دبلوماسية تعتمد على المبادئ قبل المصالح. هذا لا يجب أن ينسينا أن هناك دائما دورا اطلسيا بالموازاة مع أي تحرك عسكري تركي: عدم ترك قطر وحيدة في مواجهة دول الحصار لتجنب استدعاء قطر لتدخل ايراني يكون فاتحة لعبور إيران عبور الفاتحين الى الضفة الشرقية من الخليج العربي.
مادامت تركيا مكبلة بالادوار الاطلسية فيستحيل التعويل عليها للعب دور تحرري أو حتى استرجاع دورها الحضاري التاريخي في حماية أمن و وحدة الإمبراطورية العثمانية.
( كاتبة تونسية )