تعود قصة الاستفتاءات الشعبية إلى بداية القرن الخامس عشر ميلادي، حين قرر اثنا عشر كانتونا (ولاية) من الاتحاد السويسري، اعتماد الاستفتاء الشعبي، لتمكين المواطنين من المشاركة في تدبير شؤونهم،
ومنذ تلك اللحظة، أصبحت سويسرا، الوريثة الشرعية الوحيدة لأثينا وديمقراطيتها المباشرة، ولم تعد هذه البلاد الساحرة، مهدا لألذ أنواع الشوكولا العالمية فحسب، بل وأضحت أيضا بلد البذخ الديمقراطي، من خلال استفتاءاتها الشعبية التي لا تنقطع، والتي تدس أنفها في كل صغيرة وكبيرة،
حتى أن وزيرا عربيا، صاحب نكتة، قال ذات مرة لنظيره السويسري، عندما دعاه الأخير على عشاء: "معالي الوزير، هل استشرتم الشعب السويسري، حول وجبات الطعام التي ستناولها هذا المساء؟"،
لكن "الاستفتاء الشعبي" لم يكن دائما فضيلة ديمقراطية وأسلوبا راقيا للتعبير، بل استخدم في أحايين كثيرة في مآرب أخرى، خاصة في الجزء الجنوبي من كوكبنا، حيث نقبع نحن وبقية شعوب الأرض المحتارة،
في الوطن العربي مثلا، ابتدعت الأنظمة السياسة المهلهلة، نسخا رخيصة ومغشوشة من الاستفتاءات الشعبية، تناسب مقاس "القائد الملهم"، ولأن الزعيم واحد ولا يجرؤ أحد على مزاحمته حتى ولو على بطاقة تصويت، كانوا يقيمون له كل بضع سنين، "استفتاء شعبيا" لتجديد البيعة،
وصلت نسب المصوتين ب"نعم"، في تلك الاستفتاءات الفجة، إلى مستويات مهولة فاقت كل التوقعات وتغلبت على كل الأرقام السوفييتية وغير السوفييتية، ووصل التهريج ببعض المطبلين والمسبحين بحمد الزعيم، لدرجة أنهم كانوا يقومون بوخز أصابعهم بالإبر، حتى يبصموا بدمائهم في الخانة المخصصة لنعم،
لكن الأمر لم يخل من بعض النكات الطريفة، التي يرويها لك الأشقاء، حين يطمئنون إليك ويتأكدون بأنك لست من أحد فروع المخابرات، التي تنافس أعدادها عدد المدارس الابتدائية في تلك الأقطار،
من تلك النكات، أن مواطنا جن جنونه وقرر ذات مرة أن يصوت ب"لا"، وعندما رجع إلى بيته انتابه خوف شديد، وأسر إلى زوجته بالأمر، فأشارت عليه بأن يعود من توه إلى مكتب التصويت، ويعتذر لهم ويصلح خطأه ذاك، حتى لا يرسلهم في "داهية"،
اختلى صاحبنا بالمشرف على مكتب التصويت، وقص عليه الواقعة وهو يرتعد ويتصبب عرقا، وقدم له كل أنواع الاعتذار، وقال له إنما كانت زلة قلم ولن تتكرر أبدا،
رد عليه المشرف قائلا: "لا عليك يا رجل، لقد تنبهنا للأمر وقمنا بإصلاح الخطأ"،
في موريتانيا وبعد انتخابات 1946، 1951 و1956، التي شهدت تنافسا محموما بين الكتلة الوطنية، بزعامة أحمدو ولد حرمه، والكتلة الموالية لفرنسا بزعامة إيفون رازاك ثم لاحقا سيد المختار ولد يحي أنجاي، جاء عام 1958 وقد حمل معه رياحا سياسية جديدة، لا عهد للموريتانيين بها،
ففرنسا التي أرهقتها الحرب العالمية الثانية والتي دخلت لتوها في جمهوريتها الخامسة، باتت تطمح إلى علاقات جديدة مع مستعمراتها، من خلال استفتاء يخير تلك المستعمرات، بين الانفصال عن فرنسا والاستقلال التام، أو البقاء تحت المظلة الفرنسية والاكتفاء بالاستقلال الداخلي،
كان ذلك هو أول عهد للموريتانيين بالاستفتاءات الشعبية، وستدور رحى معركة حامية الوسيط، بين معسكر"لا" بقيادة حزب النهضة المعارض ومعسكر "نعم" بقيادة حزب التجمع الحاكم، وسيشهد أكثر من شاهد من أهلها أن خيار"لا" كان ليفوز بأغلبية الأصوات، لولا أن وضع الفرنسيون أيادي وسخة في العجين، وحولوا صناديق الاقتراع إلى صناديق اختراع،
ففرنسا لم تكن لتتحمل صفعة أخرى، بعد تلك ال"لا" المدوية، التي صدح بها الرئيس الغيني شيخو تورى، في وجه ديغول، وجعلت جنرال بلاد الغال المدلل، يستشيط غضبا ويحزم أمتعه، ويرفض أن يبيت ليلته تلك في كوناكري،
بعد ذلك بسنوات طويلة، وبعد أن انتقل من القصر إلى الأسر ثم إلى المنفى، سيكتب الرئيس الراحل المختار ولد داداه في مذكراته: (ولعل سر إعجابي به "يعني شيخو تورى"، يعود بالأساس إلى تصويته ب"لا" في انتخابات ديغول 1958، فبذلك فعل الرجل ما كان بودي أن أفعله ويفعله معي المواطن الموريتاني، وهو مطمح ما كان لنا أن نتمكن منه في ذلك الوقت)،
منذ ذلك الحين ستفوز "نعم" في كل الاستفتاءات الشعبية اللاحقة، وسيعتذر كل الموريتانيين لأنفسهم عن عدم قول "لا" إلا في تشهدهم، تماما كما فعل رئيسهم المختار، وفي كل مرة، سيكون هناك ألف سبب وسبب، يمنع اللاءات من أن تطل برؤوسها أو تمد أعناقها،
بين أيلول/سبتمبر 1958 وآب/أغسطس 2017، ستكون ستة عقود قد انقضت، ستون عاما من الانتخابات والانقلابات والاستفتاءات والصراعات وأشياء يمكن تصورها وأخرى لا تخطر على بال،
وحتى نكون دقيقين، هي بالضبط تسعة وخمسون عاما وأيام معدودات، ولكنك وأنت تقرأ في أحداث 1958 ستصاب بدهشة رهيبة، وستمط شفتيك وأنت تقول لنفسك، ما أشبه الليلة بالبارحة،
هي نسخة طبق الأصل حتى الضجر، ذات الاستقطاب السياسي الحاد، نفس الصراع المرير بين نخبنا الدينية والسياسية والثقافية، ذات الثقافة الضحلة الموغلة في حفر الخنادق وشحذ المدافع و البنادق، بدل مد الجسور وشق المعابر والقناطر،
ستون عاما، وكأن الزمن لم يتزحزح من مكانه في هذا الجزء من العالم، حيث يمارس الناس السياسة، بطريقة لا يعادلها بؤس في هذه الدنيا،
ستون عاما، والشاعر سالم ولد بوبوط، ما زال يمشي بين مضاربنا، ينشد (كافه) الشهير، تلك النصيحة العابرة، التي تعكس بصدق، الصراع الذي يحتدم في داخل كل واحد منا:
وي ونون ألا خيارات،
والمخير ماه مغبون،
وي أمحاليه فالحسنات،
وأمحاليه فالفظه نون،
أحيانا، أقول لنفسي، إن الشيء الوحيد الذي تغير في هذا الوطن هو الدساتير، أما كل الأشياء الأخرى فبقيت كما هي على حالها، ربما الحل، أن نجرب، ولو مرة واحدا، أن نترك الدستور كما هو، وأن نحاول أن نتغير نحن...