فاطمة وشاح: في قتال الملل قد نصنع قوارب ورقية أو نرسم المكعبات ونبتكر توقيعا ما ، وقد نتجرع كثيرا من القهوة أو كثيرا من الخمر … في قتال الملل نغفو في مساحة الوقت بين فقرتين من كتاب ما ، تلك هي الغفوة و الغفلة بعد الحب
وقبل المنطق ، نعد الوقت ونجلس على رصيفه قسرا فنحدق في أعين الغرباء كالفضوليين ونتطفل على إيقاع خطاهم ، ونحدق جيدا في الفراغ ، نتفحصه ونقيس كتلته التي يصنعها فوق قلوبنا … في قتال الملل نصنع التفاصيل لملء شساعة الفراغ الرتيب ، تغير الفتاة تسريحة شعرها ، ويغير الشاب الفتاة ، ثم يصبح لاسم الحبيبة على الخليوي حروفا أخرى حيث تتساوى المعاني والإيقاعلت جميعها ، ترتب الأم أثاث البيت للمرة العشرين وقد تشتري سكاكين جديدة أو غطاء للسرير ، ويغير الأب قميص العمل وموعد عودته الى المنزل .. يشتري المراهق فيلما ممنوعا ، وتملأ المراهقة دفتر مذكراتها بتجربتها الأولى في الحب وقد تستبدل صور المغنين بأشعار لنزار قباني … في الشارع قد نسمع أغنية جديدة قد انطلقت من مسجل إحدى السيارات تتكلم عن الجنس بطريقة أكثر ” تحررا ” !
أو قد نلحظ أن لافتة الدكان قد تغير لونها من البياض إلى الصفار وتحولت من بقالة ” أبو محمود ” إلى بقالة ” ذوي الدخل المحدود ” .
في السوق ، تتبدل أساليب الشحاذين ووجوههم حيث يصبح الألم أداة مستغلة للاستدرار العاطفي ، ونلاحظ إقبالا أكثر على محلات التصفية ، تتناثر البسطات بازدياد مستمر حتى تشمل جميع الاحتياجات الممكنة من الملابس الداخلية الى فساتين السهرة ” المشخلعة ” .
في قتال الملل نحاول أن نقتنع بأن التغيير قد اكتسب ليونة أكثر وربما عضلات أكبر قادرة على حمل خططنا الطموحة وأحلامنا الجميلة ، فقد أصبح لحيوان القرن الواحد والعشرين ” الاجتماعي ” خصائص بيولوجية قادرة على استنبات قرون أخرى إلى جانب قرنه الوحيد القابل هو أيضا للتدرن – كالبطاطا – وذلك بواسطة عمليات التلقيح المتحررة حيث نتزاوج ونتواصل مع الكائنات الأخرى ” الحية منها والميتة ” دون تمييز وبديمقراطية وطرق تضمن تكافل فرص التبادل المعوي ، حتى تصبح الأمعاء أكثر قدرة على ابتلاع أي شيء وكل شيء ابتداء من الكتب المتأرضة مرورا بالمسلسلات التركية وانتهاء بالهمبرغر المصنوع من روث الحيوانات ” التي نحترمها هي الأخرى ” ونتشرب البيبسي لزيادة قدرة المعدة على الانتفاخ بالغاز عوضا عن الغاز الذي يستمر سعره بالتزايد .
في عصرنا ، حيث يرتفع دخل الفرد ويتحسن مستوى المعيشة ويصبح الإنسان من الغنى ليبذر وقته وكلامه على الفيس بوك في ثرثرات مع مجهولين ووضع صور لبيت الأحلام ، وقد أصبحنا من الحرية بمكان حيث يصلي المتدين والملحد والشيوعي والرأسمالي في سجن واحد ، ويتلوى التمرد آيات على وقع السياط ، ولا ينجو إلا المسلم بنظرية تدرن وحيد القرن ، والمؤمن بقدرة الطب على زراعة أمعاء في المخ غير محدودة القدرة على الابتلاع والهضم والتشرب وبدون أي أعراض جانبية تشي بأي ارتداد أو استرجاع أو استفراغ ، فنمتلئ حد القرف دون أن ينز منا شيء ، وتزداد أوزاننا من شدة الفراغ الذي ينتفخ في الداخل ويتورم كالسرطان ، إلا أننا على الرغم من هذا الامتلاء أو بسببه نبقى النصف الفارغ من الكأس ، أما النصف الممتلئ فهو هذا العالم البخيل الذي لم يترك لنا متسعا للاختيار لنكون جزءا منه لا أداة لتحقيق ديناميكيته المستمرة.
ومساحة الكأس الفارغة هي المكان الذي نمضي فيه وقتنا الفارغ ، كأننا هواء يحفظ الماء تحته من الفيضان ليس إلا . ونجتهد في تفسير ماهيتنا ووجودنا وعلته ، فنقول تارة بأننا ماء أكثر خفة وتساميا لذلك نحن في النصف الأعلى من الكأس ، وتارة نقول بأننا هواء فراغ لا شيء ونشك في وجودنا كأننا هباء ، ولن نكون ماء أبدا إلا بالتحول والخروج عن طبيعتنا ، لنكن حجرا غارقا في قعر الكأس أو عشبا ناميا فيه أو مطرا أنقى وأسمى ، أو شمسا محرقة تنتقم من برودة هذا الماء … ليس لنا أن نزيد أو ننقص من الماء شيئا إلا بالحركة فنكون هواء متحركا ريحا تحرك الماء تحتها وتخلق فيها أمواجا ودوامات ، تقلب الكأس رأسا على عقب وتدلق الماء ، إلا أن هذا القلب والدلق من مهمة الخالق في يوم يسمى ” القيامة” .
هكذا سقطنا في الكأس بسبب تفاحة وشيطان ، وتحولت الأبدية من نعمة إلى لعنة عندما دخل الثواب والعقاب ، ورضينا بالأمانة عن خيار ” تعجرفا وغباء “، فضربت علينا الذلة وتهنا في صحراء السراب وفي أوهامنا بين كل شيء جعله الله من زوجين اثنين ، وعلمنا أن هذا الوهم بين الثنائيات هو المخاض الذي يلد المعرفة التي تبقى متأرجحة بين الشك واليقين … نعتصر غربة من غياب كل شيء ومن بقاء الحنين طللا للذاكرة ، ونكتشف أننا البشر كلنا عرب عاشوا ليقفوا على الطلل ففيه بداية القصيدة والقصيدة ، كأن العمر كله ماض سبقنا وأننا عندما جئنا نسي الطبيب أن يجعل العمر في مواجهة وجوهنا فأصبح العمر وراءنا لا أمامنا ؛ كلما ركضنا زدنا ابتعادا عنه ، فاستقبلنا الموت بدلا من الحياة ولم نبدأ بعد … هناك كثير من الطلل في وجهي وفي صدري ألف مرثية ، والقلب قبر ، والعقل آخر خيط للروح يلتف حول عنقي ، ويختنق النداء.. هذا العمر صحراء بعيدة ، وأنا أركض أركض نحو ماضي لأرى سراب حلمي ، فأتأخر ، لأنني إن هرعت نحو عطشي سأتكسر ، بالخوف تنجو آخر الأحلام والأوهام من نهايتها ، من موت محتم ، موت الماء المؤجل بعد مسافة أخرى : سرابا ” .
يمر الوقت غليظا مفرغا من كل ما أنتظر فأموت ألف مرة عطشا وخيبة ، تكبلني العقارب نحو انتظار طويل فارغ للمستحيل ، انتظار أفرغ منه الشغف وتحول خيبة وحسرة ، لم أكفر حتى ألقى الله عند هذا السراب بغتة ، سأصل .. لم امت بعد ، ولم يمت سوى أطفال وحيدون تجعدت وجوههم وتآكلت أجسادهم.
لم أمت بعد ، لأن الأمل ما زال يثقلني ، أمل ثقيل بالتغيير يجعل من التفاصيل هوية ووجود ، فنهرع لنضع الدوائر حول الفروق والاختلافات ، تفاصيل صغيرة مختلفة تثبت حركة الزمن ، ونحيا نحن باستخدام عجزنا المنتج أو ترفنا الفاعل ( الفن ) فهو سيد التفاصيل والإيجاز المكثف ، محارب الوقت عدوه الأول ، يشده ويوثقه الى عمود قصيدة يكبله بالمجاز ، وينثره خطوطا وألوانا على لوحة ، وتصبح مشاعرنا لحنا ننسى فيه الوقت والملل .
|