علي كنعان: في صيف 2006 قرأت مقالا في دورية أميركية بعنوان “حدود الدم” Blood Borders، ولم أعبأ بما في ذلك المقال، ظنا مني بأنه من نسج الخيال، رغم أنه يتضمن مخططات جديدة تذكر بتقسيمات سايكس- بيكو بعد انهيار
الإمبراطورية العثمانية. وكان المقال مزودا بخرائط ملونة يبدو أنها حصيلة دراسات استراتيجية مطولة في أركان البنتاغون وأقبية المخابرات المركزية.
ولم يكن عبثا أن الكاتب أطلق على مقاله عنوانا صارخا، مضرجا بالدم، فقد أثبتت الأحداث اللاحقة أنهم كانوا يخططون بجد وإصرار للبدء عمليا في تحقيق أغراضهم، وكان لا بد من انتظار الفرصة المواتية لذلك. ويبدو أن حراك الشارع العربي، بدءا من تونس هو البشارة المدهشة والمفاجأة السعيدة التي لم تخطر على البال، مع أن أنظمة الاستبداد والفساد هي المناخ الطبيعي الملهم والدافع لكل انتفاضة شعبية قادمة.
كيف تم خطف تلك الحركات الاحتجاجية البريئة ودفعها إلى حمل السلاح وانتهاج العنف وإشاعة الفوضى والقتل والتخريب، ذلك أمر يحتاج إلى مراكز بحث عميق ودراسة متأنية، في المستقبل، لأن أهوال الأحداث الجارية عبر ساحات المدن العربية وضواحيها، لا تسمح بمثل هذا الترف الأكاديمي الرصين… ولعلي أستثني هنا مؤسسة “الأهرام” العريقة في مصر.. والأمل أن تبقى منيعة مستعصية على كل فكر ظلامي. إن الانحراف الخطير الذي ألمَّ بالحركات الشعبية من المطالبة السلمية بالحرية والكرامة وتوفير العيش الإنساني الكريم.. إلى الانخراط في معارك وحروب طاحنة، مدعومة بعشرات العصابات الإرهابية المتسللة من وراء الحدود، يطرح أسئلة شتى وتساؤلات موجعة حول الأسباب والعوامل الكامنة وراء تلك الحروب، فضلا عن الأصابع المشبوهة والأدوات المريبة والعناصر المدسوسة في أوساطها، من أجهزة المخابرات إلى مصانع الأسلحة وصفقات تجارها، وصولا إلى علة العلل وبؤرة السرطان متمثلة بمطابخ الإعلام وأبخرته السامة التي تملأ الأجواء.
ولا بأس هنا من تكرار البدهيات حتى لا ننسى ولا نستكين ولا نسمح بأن تطول الغفلة والاستغفال… إن الإعلام لم يعد سلطة رديفة تشغل الدرجة الرابعة في منظومة التوجيه والهيمنة والاستلاب، ولكنه احتل سدة القيادة واستأثر بمقاليد الأمور، وبخاصة بعد أن أصبحت مؤسسات التجسس والأمن والإدارة العليا، وحتى الأساطيل والقواعد النووية، جزءا من بطانة هذا الإعلام الجهنمي في معظم إمبراطورياته التي لا يعرف المتفرجون الدراويش، أمثالي، من أي الغيوم تنهمر على أصحابها كل هذه المليارات بالعملة الصعبة… وبين أصدقائنا شاعر مسكين كان يعلق متسائلا باندهاش: “هل هناك عملة غير صعبة؟!”
وفي هذه الصفحة المكشوفة أمام الدنيا، بلا أي قناع أو مواربة أو تجميل، أعترف أني بقيت مخدوعا بفضائية “الجزيرة” – وحتى ضرتها العروبية- سنة بطولها، مأخوذا بحراك الشارع العربي على أنه “ربيع″ حقيقي، رغم أقنعة “شهود العيان”، ورغم أن أحد البرامج الأسبوعية في تلك المحطة كان مخصصا للمصارعة البدائية المتحررة من كل شرط أو منطق أو قيمة فكرية أو روحية أو أخلاقية.
ولم يكن سرا أو أحجية أن تلك الفضائية مدعومة بقاعدة أميركية تحلم بالهيمنة على شطر واسع من هذه الأرض العربية المترامية التي رفعوا عليها لافتة “الشرق الأوسط” واستراحوا من الاسم وتبعاته، إكراما للذئبة الصهيونية المدللة.. وتأكيدا على أنها سيدة العواصم المحيطة، بها ونموذج الديمقراطية الفذ في هذا التابوت المزروع بالكمائن والسماسرة والألغام.
لولا هذه الفضائيات الموبوءة لما كان وطننا العربي، من أدناه إلى أقصاه، يعاني من هذا العنف الدموي الذي جعل تاريخ المغول أقرب ما يكون إلى مسرح الدمى، مقارنة بما يجري في أوطاننا من ليبيا إلى العراق، مرورا بسوريا واليمن وسيناء.
إن أنظمة الاستبداد والفساد التي صارت عبئا على أصحابها وعرابيها، كما أرهقت شعوبها، كانت في طريق التحول والزوال، كما أن الضغوط الدولية كانت كفيلة بتفكيك عقدها الشمولية وانحلالها، سواء بفضل نصائح الأصدقاء أو بإجراءات الحصار ومواقف الأعداء من دول الناتو وتوابهعها في الأمم المتحدة.
ويبدو أن “لو” و”لولا” لا يجوز استعمالهما في الأحداث التاريخية، لأن العصا وقعت في الرأس، والمكتوب على الجبين لا راد له بالأدعيات والنذور والقرابين، ولو كانت بمئات الآلاف من الضحايا.. وبملايين الدولارات وأسراب الحور العين! ثم جاءت مواقع التواصل الاجتماعي، ويمكن أن أطلق عليها بلا تردد مواقع التخريب الفردي والاجتماعي وحتى اللغوي، أقصد لغتنا الأم تحديدا. هذا موقف رجعي، بلا ريب.
وأنا أعترف بأني رجعي من قمة صلعتي حتى أخمص قدمي، ولا رجاء في توبتي أو إصلاحي، ما دمت أقف على حافة الهاوية، ولا أحتاج لأكثر من دفشة خفيفة حتى أتوارى في حفرتي فأريح وأستريح. همسة أخيرة: هناك إشارات وتصريحات توشك أن تكون مؤكدة بأن سوريا معرضة للغزو، بدءا من الجنوب.
وأنا على يقين أن أرض الجنوب ستكون مقبرة للدخلاء والغزاة المغامرين، و”معركة المزرعة” في مواجهة القوات الفرنسية قبل تسعين سنة ما زالت وهاجة مشرقة في الذاكرة. إن شعبنا، إلى جانب قواته المسلحة، سيظل سهران جاهزا لمواجهة كل عدوان، لا دفاعا عن أي سلطة أو زعامة أو نظام، وإنما دفاع عن تراب سوريا.. لئلا تدنسه ظلال المرتزقة والأعداء الطامعين.
نقلا عن صحيفة رأي اليوم اللندنية
|