الوطن بين حصار العمق و أزمة الوعي لدى النخب / الولي ولد سيدي هيبه |
الخميس, 13 مارس 2014 20:09 |
كتب هذا المقال على بعض حصير متهرئ في أعماق عهن منفوش لتراب وطن مصلوب و تحديدا منه في المثلث الواقع بين “كوبني” و “عين فربا” و “تامشكط”. انتزعت حروفه من حجارة جباله المعذبة بفعل الرياح التي لا تهدأ و عيدان سقوف بيوت و هياكل أعرشة سكانه العاجزين بسبب تخلفهم الكبيرعن الإحاطة بواقعهم المزري و كبرياء بعضهم الرعناء المسكونة بادعاءات الماضي و استكانة بعضهم الآخر المعشعشة من إذلال ملازم و زرائب البهائم المصابة بجنون قلة الماء و ضعف المراعي. شاء المتعلمون و المثقفون و السياسيون و الواعون من أهل هذه البلاد التي ولدت بشكلها الحالي و بالاسم الذي تحمله بجرة قلم فرنسي ملهم لتحدها بالتساوي دولتان من المغرب العربي و اثنتان من الغرب الإفريقي، أم أبوا فإن وضع البلد الغير مستقر يعود بالأساس إلى عقليات أهلها أكثر منه عائد بالنتيجة إلى المخلف أو الإرث الاستعماري إن قبلت بوجوده في دائرة حياد “العقول المشبعة” بإشراقات التنوير يسارا أو يمينا و أجازته تعبيرا أو مصطلحا لـ”مفهموم” قائم بذاته شاءه أم أباه كل لون هذا الطيف من أصحاب الريادة. و بالطبع فإن هذه العقلية و إن صُرفت بضمير الجمع الموحد، فإنها تبقى في حقيقة الأمر متشعبة بتشعب المكونات و الطبقات و تفاوت درجات المعرفة بشقيها المحسوب على الدين و المرتبط بالتمدرس و الحداثة و بالبداوة الموغلة في القدم و الحداثة المطبوعة بجهل أساليبها و ضعف مقوماتها و وهن العقول عن إدراك مآربها. و هي العقلية المعتلة أيضا بغياب الوعي المدني. و لا تبدو تلك الحقيقة و من منطلق نفس الفهم المرتبك في ازدواجية ملمحه العام محل اهتمام أي من هؤلاء في خضم الصراعات التي يخوضونها على المصالح الأنانية الضيقة المستندة على اعتبارات متجذرة في الماضي و الاستخدام الغير سوي لمفاهيم الحاضر الثورية من ديمقراطية و عدالة اجتماعية و حوار و تشاور و غير ذلك من مظاهر التحضر السامية. و لا يتطلب إدراك هذا الأمر كبير عناء حيث أن “أعراض” الإخفاقات في كل المسار السياسي “ضعف” إن لم يكن غياب دور الطبقة المثقفة حقيقتان ماثلتان و أمران مخلان باستقامة هذه الدولة الفتية التي إن لعب فيها الالهام الفرنسي دوره فقد ضعف إلهام روادها عن تأصيلها دولة بخصوصيات فوق اعتباراته و مفندة لمشروعاته المستشرفة أيام التأسيس. أن ينتفض مواطنون نصرة لوطنهم في رفض قاطع للمساس بمقدساته أمر أكثر من مستحب بل و واجب مقدس. و لكن أن توضع تلك الانتفاضة في سياقاتها الظرفية و الاجتماعية و السياسية القائمة و في تريث “الكبش قبل النطاح” فإن ذلك لا بد عائد إلى حسابات تفتقد لمنطق و قواعد الحسابات التي تستند هي الأخرى إلى المنطق الكرتيزي و البراغماتية الايجابية. و أن تتسرع الجهات الحاكمة و لو بإملاء قاهر من وضع يخرج عن السيطرة و يهدد السلم عن بعض صوابها حتى تقع في شراك سياسة “التسلل” من كل فجوة، فذاك أمر قد يجُب ما كان من الحزم الذي أٌبدِي في محله و من التمكن إعادة الأوضاع إلى حالتها و حتى لا يترك للانفلات الأمني أي وجه ينفذ منه و ارتهان البلد في دائرة “التجاذبات” التي تولد خارج البلاد و تهاجر من ضعف عن مواطنها إلى بؤر غياب الوعي النضج و بعد التجربة والمؤهل الاستيعابي. و أن يظل الشعب في سواده الغالب الأعم “مقولبا” رغما عنه في انحسارية في “أوعية جامدة” لتلقف ما تصدره هذه النخب المتسلطة و المستأثرة بمزايا حراكها و دعوتها و في تجهيل قواعدها، أمر في غاية الغرابة و قد مر على قيام الدولة المستقلة أكثر من نصف قرن تشاركت حقبه ثلاثة أجيال مازالت نتف من “الأول” منها حية ترزق و إن شاخت و بعض من جيله الثاني يصارع و يناطح في الميدان جيلا “دونكشوتيا” بالرغم من حداثة سنه و قد استمد كل قيمه و مثله بكل تجلياتها و أوجهها دون تجاوز لأي منها من الجيل أعلاه بحد ذاته و و كأنه وريثه وريثه الشرعي. صحيح أن غالبية الشعب ما زالت قابعة بطيفها المتشتت في عمق البلاد و على أطرافها، كما هو صحيح أنها بتركيبتها التقليدية القبلية و الاثنية و الطبقية تشكل الطاقة و الظهير لأطماع متعلميها و مثقفيها و سياسييها و تجارها و ناشطيها في كل مساعيهم داخل الدولة المشتهاة و لا رجع من ذلك إلا ما يكون من عض النواجذ على العصبية و العشائرية و غيرهما مما يقوض كل مجهود وحدوي يخدم قيام دولة القانون و العدل و المساواة. و لا يمكن إغفال سلبية ما يلعبه مثقفو القرى من أدوار تحت غطاء التوعية و وقوفهم حاجزا منيعا بين السكان فيها و وسائل التثقيف من إذاعات و قنوات فضائية في البعض القليل منها الذي يستخدم الطاقة الشمسية حتى يبقوا وحدهم أصحاب و مصادر الإخبار و ربابنة الأدلجة و أسياد التوجيه التوجيه و المتفردين بالاستغلال؛ و لا ما يقوم به كذلك القيمون على التعليم في العمق من تراخ في المسؤولية الجسيمة التي حملوا على عواتقهم و بعثوا من أجلها في مختلف بلدات البلاد. و هو التراخي المنافي لسمو و قدسية الرسالة و المضر بالأطفال الذين يعلق عليهم ذووهم كبير الآمال في تبديل أحوالهم البدائية و الدولة لبناء المستقبل العلمي الذي ما زال بعيد المنال . و بهذا يبقى العمق رهين تجهيل ممنهج تسلط غير منطوق و استخدام المآرب الفئوية و العشائرية و الفردية. و ليس أقل كل تلك الأساليب التي يشترك فيها الجميع أن يدفع بالجموع التي ترحل للاستقرار في المدن الكبيرة فتغذي المسيرات و التظاهرات و الاحتجاجات في صياغ توجهاتها الفكرية في الأغلب الأعم أو هي تأخذ بعبارة أخرى صبغة “الحق الذي يراد به باطل” و ما أكثر الحقوق المهدورة و تنوع أوجه الاستخدامات السياسية الباطلة التي لا تخدم إلا المصالح الضيقة لقلة. و ليس ما يلحظ من نقص شديد في “الوعي الوطني” إن جاز التعبير و عجز عن إدراك الشعب لما يدور حوله من حركية تسمو به إلى العلا و تفصله بسرعة الضوء عن غياهب جب التخلف الذهني و التحريف “عن غير وعي” للدين الحنيف في سياقات تتراوح بين البعد عن التطبيق الصحيح له في بعض أوجهه و الغلو و الشطط و التطرف في أوجه أخرى إلا لأن أمر الدين عندنا أضحى إشكالية حقيقية لها وجه تعليل معادلاتي. و إنها للمعادلة التي يجب أن تكون محل اهتمام كل الأطراف من سياسيين و حكام و شعب علما بأن مصير البلد مرتبط كل الارتباط بها، و إنه لفي حين يتجاهل: الذين جرفهم تيار الفكر العالمي إلى ضفافه التي لا تعد فيها “المعتقدات” لازمة جوهرية في التعاطي مع معطيات الدولة و لا يكترثون له في بلادنا، فإن البعض الآخر قد ركب للموضوع مطية جامحة سرجها مستورد ولا وجود لمضمار تسابق يعدو فوقه، فالكل هنا من مشكاة واحدة و كل بقبول الآخرين مسكون بجني الكبر و عبقريه الذي لا يرفع مع ذلك إلى حد النفع العام و لا يهبط إلى حد الإضرار المطلق . و إنها للمعادلة أيضا التي إحدى لازمتها هي بكل جلاء و إن غيبت تظل اشتراك كل اثنيات البلد و طبقاته و على هامش توجهاته الأيدلوجية الوافدة منذ بداية الاستقلال من كل بؤر التأثيرات، تظل إذا المعتقد الإسلامي المشترك بدون استثناء و المذهب المالكي الموحد دون سواه. و لا سبيل إلى انسجام العمل السياسي الوطني، و نجاح مآربه “الشريفة” إن قدر لها أن تكون، و مهما كانت طبيعته و توجهاته، إلا بأن يدلي بدلوه في هذا الأمر الجوهري، و لكن شريطة أن يكون ذلك بناء على ما تمليه ضرورة الاستقرار و متطلبات الأمن و الحفاظ على الصف الوطني المستهدف عن قصد من لدن أطراف و عن غير قصد من جهات أخرى تمارس السياسية نشاطا مدرا و درعا واقيا، ناهيك عن ضلوع الشعب المرتهن في لا وعيه و بلا وعي قياداته بكونه وقود كل الأطراف في مساعيها الواعية و اللاواعية. |