عودة إلى الأرشيف: الإسلام والمخابرات الفرنسية |
الاثنين, 17 مارس 2014 01:44 |
الاهتمام الذي أبداه كثيرون بما اوردته في الحديث الماضي عن مخططات المخابرات الفرنسية شجعني على أن أعود للموضوع نفسه، والذي كنت اختتمته في الحديث الماضي بالتعبير الذي استعمله الأستاذ هيكل في كتاب “العربي التائه” وهو يقول: عندما جاء وقت الغنائم بعد عمليات السافاري لم يكن العرب هناك وإنما كانت هناك إسرائيل (..) فحصلت شركة إسرائيلية تعمل في أنغولا على ثلاثين موقعا للبحث عن الماس حجم الاستثمارات الإسرائيلية فيها نحو مليار دولار، وكان هذا فاتحة العودة القوية لإسرائيل لاختراق إفريقيا، والذي يظل الفضل الأول فيه للزيارة التي قام بها الرئيس أنور السادات للقدس المحتلة في نوفمبر1977.
ولعل من حقي أن أقول بأنه كان من حق الجزائر أن تكون أيضا في أنغولا وقبل كثيرين، فبالإضافة إلى دعمها العملي للكفاح الأنغولي، مع كفاح موزمبيق وناميبيا وروديسيا التي أصبحت زمبابوي، كانت هي التي جندت الجميع حول الزعيم الوطني أوغستينو نيتو، قائد الكفاح ضد المستعمر البرتغالي ورفضت اتهامه بالشيوعية، ولكن خوزيه إدواردو دوس سانتوس الذي حلّ محله في 1992 إثر وفاته نسى كل ما قامت به الجزائر من أجل أنغولا، ربما لأنه لم يجد من يذكره به.
وفي الوقت نفسه أسجل تقصيرنا في الاستفادة من إفريقيا، وقد سمعت الرئيس سامورا ماشيل يقول للرئيس الشاذلي بن جديد: أنا مستعد لكي أضع غابة كاملة تحت تصرفكم للاستفادة من أخشابها، وهي من أحسن الأنواع، لكن المكلفين بالتجارة عندنا كانوا يفضلون استيراد الأخشاب عن طريق فرنسا.
والمهم أن الملف الإفريقي كان الملف الأول في ذهن دومارانش. وكان البند الثاني في ملفه هو الإسلام والبند الثالث هو الفرانكوفونية، وكل من البندين يحتاج وقفة سريعة.
كانت الجزائر تمثل دائما أكبر جالية إسلامية في أوربا، وكانت ركيزة الجزائر مسجد باريس، الذي أسس بتبرعات جزائرية وافتتحه في 16 يوليو 1926 الرئيس الفرنسي غاستون دوميرغ (Pièrre-Paul- Henri-Gaston DOUMERGUE) الذي تحول من البروتستانتية إلى الكاثوليكية ليضمن بقاءه في منصبه بعد أن كان سلفه ميلييران (Alexandre MILLERAND) غير الكاثوليكي، قد اضطر للاستقالة بضغوط من اليسار الفرنسي (وهو أمر يثير تساؤلات كثيرة لأنه يحدث في بلد يرفع لافتة العلمانية ولكنه يتمسك بالكاثوليكية) وافتتح المسجد بحضور مولاي يوسف، والد السلطان محمد الخامس، وكان أول أئمته قدور بن غبريط وهوجزائري من سيدي بلعباس.
وكان المسجد قلعة روحية ينضوي تحتها أبناء الجزائر في المهجر خلال النصف الأول من القرن العشرين، وفي نفس المرحلة التي تم فيها تكوين حركة نجم شمال إفريقيا في إطار الحركة العمالية للحزب الشيوعي الفرنسي، ولعل هذا هو ما جعل والد الوطنية الجزائرية في العصور الحديثة، مصالي الحاج، يشعر بالنفور من المسجد ومن إمامه.
وأقفز سريعا إلى مرحلة الاستقلال حيث تميز الوجود الجزائري بتكوين ودادية الجزائريين في أوروبا، والتي أدارت نشاطها مجموعة من المناضلين وتألق على رأس الودادية السفير الجزائري الأسبق عبد الكريم غريب.
ولم يكن سرّا أن في فرنسا سلطات لا ترضي عن وجود جزائري فعال، ومن هنا فإن المخابرات الفرنسية كانت تفكر جديا في اختراق الساحة الإسلامية للالتفاف حول النظام الجزائري، الذي بدا مشاكسا وغير منسجم مع المطامع الفرنسية في المنطقة وفي القارة الإفريقية، وربما بدأ ذلك التفكير يتبلور أكثر فأكثر بعد التأميمات التي قامت بها الجزائر ابتداء من 1966 حيث أممت المناجم وانتهاء بعام 1971، عام تأميم البترول، وأرجو أن أذكر هنا أنه بعد تأميمات المناجم أنشأت الأكاديمية البربرية في باريس بحجة الدفاع عن الثقافة “البربرية” وهو ما لم تفكر فيه فرنسا منذ 1830، هذا إذا كان الهدف ثقافيا محضا، ولن أذكر بهوية الأعضاء المؤسسين وبتاريخهم في خدمة العلم الفرنسي والأهداف الفرنسية.
ومن هنا كان اتجاه الكونت نحو تشجيع إحدى الدول الإسلامية على الوجود في الساحة الفرنسية، بشرط أن: “يُحسَن اختيار الدولة ويكون مضمونا عدم تناقض نشاطها مع الاتجاهات الفرنسية”، ومن هنا فإن مدير المخابرات الفرنسية كان يرى أن الدولة المهيأة للقيام بهذا الدور هو السعودية (-العربي التائه – ص 125-) وكان وجود كمال أدهم بالتالي في مجموعة السفاري تحصيل حاصل، وهكذا أرسل إلى باريس علماءُ دين سعوديون، ولكن عملية الاختراق لم تتم كما أراد لها دو مارانش، وكان من الأسباب أن معظم مسلمي فرنسا مالكيون أشعريون، حتى ولو لم يكن معظمهم يعرف ما هو المالكي الأشعري.
وتتوالى الأحداث في قلب العالم العربي والإسلامي، وتكون المفاجأة هي قيام الثورة الإيرانية، التي أصبحت إسرائيل أكبر متخوف من آثارها ونتائجها، ويكون التجاوب الفرنسي معها أكثر من مضمون لسببين، أولهما أن الفرنسيين بشكل عام مصابون بعقدة ذنب تجاه اليهود، وهو ما أحسنت إسرائيل استثماره، وساهم في ذلك بشكل بالغ الوضوح العديد من يهود الجزائر الذين نزحوا إلى فرنسا بعد انتصار الثورة الجزائرية، وكان من بينهم من وضعه الفن في الواجهة مثل غاستون غارناسيا، المدعو أنريكو ماسياس.
أما السبب الثاني فهو ثورة الشارع الفرنسي ضد الرئيس دوغول، عندما نجح اللوبي الصهيوني في باريس في تجنيد شباب كانت مشاكله تتراكم في السنوات الأخيرة، وكان الهدف المقصود أساسا هو الانتقام من الجنرال الذي كانت تصريحاته في 1967 متجاوبة إلى حد كبير مع الحق العربي بقدر إدانتها للغلو الإسرائيلي، وكانت هذه هي أهم خلفيات أحداث مايو 1968 في فرنسا بقيادة كوهين بندت، والاسم يدل على المُسمّى، وانتهى الأمر بالاستفتاء الذي أجراه دوغول وكان أعرف من غيره بأن النتيجة ستكون خروجه من السلطة، تاركا مقاليد الحكم في يد جورج بومبيدو، الرفيق الدائم لأسرة روتشيلد اليهودية المعروفة.
وظل التفكير في اختراق الساحة الإسلامية عنصرا سائدا في السياسة الفرنسية، ولسبب ما سقط التفكير في الدور السعودي، وربما كان وراء ذلك خروج دو مارانش من موقعه وتغير القيادات المعنية، ويمكن أن يُضاف إلى ذلك نفور مفتي السعودية الشيخ بن باز مما قدم إليه حوله، وهكذا تغير الطرف الإسلامي فأصبح مصريا.
وكان الراعي العربي لعملية اختراق الساحة الإسلامية في فرنسا هو الأزهر، الذي لم يُعارض ولم يرفض، ولعله انتظر إشارة من الدولة تشير إلى ما تراه صالحا للأزهر وللبلد (-هيكل ص 128-) وكان واضحا أن هناك تجاهلا تاما لمسجد باريس، الذي كانت إمامته تنتقل من حمزة بو بكر في ظروف ملتبسة إلى العالم الجزائري الوحيد الذي حصل على وسام جوقة الشرف الفرنسي (La Légion d’Honneur) طبقا لما نشرته صحيفة لوموند الفرنسية، والذي توفي على كتف أبو عمّار في باريس عام 1989، ويحمل أبناؤه في فرنسا اليوم الجنسية الفرنسية، ثم وصلت عمادة المسجد إلى ابن الشيخ حمزة بو بكر، وهو فرنسي الجنسية ورجل طيّعٌ بالغ الانضباط مضمون الولاء، والتفاصيل كثيرة ونشاط المسجد وحمام المسجد وملحقات المسجد والمؤامرات حوله كثيرة، ولا مجال للتوقف عند كل ذلك اليوم، وأرجو أن يكون هناك من هم أقدر مني على تناول الأمر.
وبدا أنه كانت في الجزائر تناقضات همشت الاهتمام بمسجد باريس، والذي كان المفروض أن يكون سفارة شعبية للجزائر في أرض الغربة الأوربية كلها وليس في فرنسا وحدها، حيث نمتلك أكبر جالية مسلمة، وخصوصا عندما انهارت ودادية الجزائريين في أوروبا بعد العددية الحزبية، وليس التعددية، التي جاءت نتيجة لأحداث أكتوبر 1988، التي يدعي البعض أنها كانت سابقة الربيع العربي.
ولم يكن من الممكن أن يكون هناك نشاط إسلامي واعٍ يتكامل فيه الاتجاه نحو الخاصة مع الاهتمام بالكافة، بدون إستراتيجية رمزها الديني عبد الحميد بن باديس، وخلفيتها التاريخية الأمير عبد القادر وهويتها الوطنية جبهة التحرير، إستراتيجية تستفيد من الانسجام المذهبي الذي يعبر عن الإسلام بكل صفائه ونقائه في بلد يعتبر مركزا للزاوية التيجانية بكل ثقلها الإفريقي وزوايا أخرى لها امتدادات في الشرق والغرب، وعرف بملتقيات الفكر الإسلامي التي أطلقها العربي سعدوني في عهد هواري بو مدين وتحت إشرافه وتوجيهه، ثم تابعها مولود قاسم بكل اهتمام، وأصبحت نقطة استقطاب للعديد من العلماء البارزين.
وهكذا تجاذب القصور التقصير، وتكامل الإهمال واللامبالاة، واختلط الجهل بالتجاهل، وعجزنا عن تقديم الإسلام للغرب كما نراه وكما يجب أن يكون، بل ووصلنا في مرحلة ما إلى محاولة التبرؤ منه بعد أحداث اختلط فيها سوء التقدير مع سوء التدبير، بقدر ما عجزنا عن تنظيم أبنائنا في المهجر، بل وتركنا الجميع، هنا وهناك، نهبا للفتاوى المستوردة والأفكار الغريبة عن مجتمعنا وعن أخلاقياته، وكان هذا بكل صراحة أمرا لا يغتفر، دفعنا ثمنه غاليا وما زلنا ندفع الثمن.
فالبلد العربي الوحيد الذي كان قادرا على التحرك إسلاميا في أوروبا وفي فرنسا على وجه التحديد لم يكن مصر ولا غير مصر، مهما كانت الأموال المرصودة والنوايا الصادقة وحجم الإطارات المتوفر، ولكنه بلدان المغرب العربي، والجزائر في المقدمة بحكم حجم مهاجريها هناك، بشرط أن تكون هناك إرادة مخلصة بين المرجعيات السنية في الوطن العربي كله، وبعيدا عن حسابات البقالين ومناورات المخابرات وعناصرها، وإذا أمكن خلق التكامل مع المؤسسات الدينية في المشرق العربي ، وعلى رأسها الأزهر، بعيدا عن روح الاستعلاء الممقوت وإدعاءات الفوقية، وبشرط أن تكون تلك المؤسسات أكثر عالمية وأقل إقليمية وأبعد بقدر الإمكان عن إرادة السلطات التنفيذية في البلدان المعنية.
لكن الأزهر أدخل إلى الساحة تحت عنوان جديد تم اختياره خارج جدرانه وهو “حوار الأديان”، بدلا من العنوان السابق وهو الحوار الإسلامي المسيحي، ويقول هيكل تعليقا على ذلك بأن التجربة العملية أظهرت أن الحوار “المستجد” يقترب أكثر من اليهودية، ويتضح أن المشروع يومئ إلى أن القضية ربما لا تكون فرنسا ونبيذها القديم في قوارير جديدة، وإنما هو على الأرجح نبيذ جديد في قوارير قديمة توحي بأنه لا اختلاف، في حين أنه في الواقع أكثر من اختلاف (العربي التائه- ص 129).
وسيكون الأزهر القوة الدينية المدافعة عن الاختيار الإسرائيلي للنظم العربية، وخصوصا عندما تولى مشيخته رجل عرف باندفاعه وسلاطة لسانه وانبطاحه أمام قرار السلطة.
دكتور محيي الدين عميمور كاتب ووزير جزائري سابق |