المقاربة الأمنية لمواجهة الإسلاميين إلى أين؟ / محمد الحافظ الغابد
الاثنين, 17 مارس 2014 19:41

جاء إغلاق جمعية المستقبل للدعوة والثقافة والتعليم في سياقه الطبيعي وضمن حملة تثير الكثير من علامات الاستفهام ولكنها تجري على سنن واضح يهدف إلى ضرب مكانة الدين في نفوس الموريتانيين تقدمة لخنق ظاهرة التدين والمتدينين

تحت ذرائع مختلفة يجري الآن تأصيلها ضمن الخطاب الإعلامي العمومي الرسمي مترسمة خطى التجربة البائسة لنظام الرئيس السابق معاوية ولد سيدي أحمد الطائع الذي انخرط في تجربة فريدة من نوعها لاستئصال التيار الإسلامي بكل تجلياته من الوجود في الحياة السياسية وضمن التعددية الفكرية الموريتانية المعروفة بالثراء والتنوع.

 غير أن التيار العريض في الظاهرة الإسلامية الموريتانية قدم نموذجا متميزا في ممانعة السلطة ومواجهة المصادرة بصبر وإصرار حتى أسهم ذلك في التمهيد للتغييرات السياسية التي جرت بدئا بالإطاحة بولد الطائع نفسه والبدء بإرساء قواعد نظام مدني أكثر رسوخا في تجربة التعددية السياسية ويقود لفطام العسكر عن الممارسة السياسية وهو ما حصل جزئيا أو شكليا على الأقل في عهد الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله غير أن التنافس السياسي بين الفرقاء وتحريض التيارات القومية للعسكريين واحتناك اليساريين للرئيس المدني المنتخب حديثا كلها وغيرها من العوامل قادت إلى انهاء تجربة عودة الحكم المدني للبلاد التي ارتد بها العسكريون لتجربة ولد الطائع ذاتها من جديد من خلال انقلاب السادس من أغسطس 2008 وما تلا ذلك من تبني العقيد الهالك معمر القذافي لهذه الردة الديمقراطية ودعمها بمباركة واسعة من دكتاتوريات الإقليم والدول الغربية خصوصا فرنسا واسبانيا.

 

الجنرالات وصناعة المؤامرة

 

يرتبط حكم الجنرالات الحالي للبلاد منذ العام 2007 بسلسلة من الأحداث الغريبة التي لا تجد تفسيرا مقنعا يفك طلاسمها ويرجح العديد من المراقبين أن تكون كلها قد صنعت صناعة لخدمة أهداف النواة الصلبة في المؤسسة الأمنية والعسكرية الحاكمة حاليا والتي ترتبط بأجهزة عالمية مؤثرة وتخطط باستمرار للبقاء في السلطة لأطول فترة زمنية ممكنة.    

 

ومن أبرز هذه الأحداث الغامضة والمدبرة لتحقيق أهداف متعددة والتي لاتزال بحاجة لتتبع ورصد دقيق للسياق السابق واللاحق ومقارنة السياقات المختلفة التي تسبق كل حدث أو التي تعقبه للوصول للسلوك وبصماته وخصائصه المشتركة ونواتج هذه الأحداث ومثيلاتها وفي مصلحة من كرست السلطة والنفوذ.

 

1-   ثورة الجياع: في العشرين من نوفمبر(20-11-2007) اندلعت ثورة الجياع في موريتانيا  ولم تستثن أيا من أقاليم البلاد وأدت إلى مقتل الشاب شيخنا ولد الطالب النافع في كنكوصة والراجح أن تلك الأحداث كانت تهدف إلى ترويض سيدي ولد الشيخ عبد الله وإشعاره بالحاجة للمؤسسة الأمنية والعسكرية خصوصا وأن الرئيس آنذاك تبرم من أول يوم بشخصيات العسكريين المقترحة في الطاقم الرئاسي وتشاءم بشركائه العسكريين وبأساليبهم الرديئة والمستقبحة في العمل السياسي والإداري.

 

2-   افتعال الإرهاب: مقتل الفرنسيين في ألاك (24/12/2007) والذي تم بترتيب لا يخلو من بصمات الصناعة والتدبير والراجح أنه تم لدفع الفرنسيين والإسبان إلى الاقتناع بدعم الجنرالات في المؤسسة الأمنية والعسكرية وإقناع الرئيس ولد الشيخ عبد الله ساعتها باستحالة الاستغناء عن حضن المؤسسة العسكرية الدافئ لحمايته وحماية البلاد من مخاطر التهديد المستقبلي للإرهابيين في الوقت الذي كانت فيه حالة الجماعات السلفية أبعد ما تكون عن نقل المعركة لداخل البلاد بينما تم الكشف عن مجموعات بعيدة نسبيا عن نشأة هذه الجماعات وكانت دائما في الهوامش وتحوم حولها الكثير من الشبهات ويكاد يكون من الراجح اختراق هذه الجماعات بعناصر ذات سوابق في الخدمة الأمنية.

 

3-   التورط في ملف المخدرات: تعتبر المعالجة الغامضة لملف المخدرات لحد الساعة من الطلاسم التي يصعب فكها فقد قام النظام بإطلاق سراح العديد من المحبوسين في الملف وحمل المسئولية للقضاة الذين نفذوا هذه المهمة وأوقفهم عن العمل إثر جلسة للمجلس الأعلى للقضاء وهو اجراء مزدوج يهدف إلى تحقيق مطالب المافيا الدولية من جهة والنأي بنفسه عن هذه القضية وفي ذات الوقت إرهاب القضاة واستتباعهم لأن مصير المفصولين ينتظرهم.

 

4-   أحداث الجامعة : نتذكر جميعا أحداث الجامعة 25-04-2011 ذات الطابع التحريضي العنصري والتي تأتي تاريخيا في سياق الحراك الشبابي المتأثر بالربيع العربي والتي جاءت بتدبير من ذات الجهات التي صعدت خلال الأسابيع الماضية إلى قيادة حزب الرئيس ولد عبد العزيز في ظروف غامضة لم يبتهج بها نشطاء الحزب وشكلت جزاء سنمار للقيادات الوازنة والمؤثرة التي كانت تنتظر أن يتم التعامل معها بأسلوب يحترم نضالها وصورتها أمام الرأي العام ولكن رعونة الاستبداد عصفت بها لذلك يلاحظ الجميع الوجوم المرتسم على وجوه القوم وغياب الابتسامة وبروز الأوجه كالحة مكفهرة من صعود الأسافل والمرذولين في موريتانيا الجديدة.

 

5-   محرقة الكتب: وهي أكثر هذه الأحداث وضوحا لأن صناعها كانوا في لحظة رعب ويبذلون كل ما يستطيعون للحيلولة دون سقوط النظام المتهاوي وسط إقليم مضطرب.

 

6-   الرصاصة الصديقة: وهي من الأعاجيب وتؤكد أن هشاشة النظام متأصلة ذاتيا وربما كانت قوة النظام في ضعفه أكثر من اعتماده على عناصر اخرى للقوة الذاتية.

 

7-   حادث المقالة المسيئة: للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وسياقها السياسي الذي كان يتسم بفشل سياسي واضح لدرجة الفضيحة الكبرى التي شكلتها اللجنة الانتخابية وما ارتكبته من تزوير وتحكم في الخرائط الانتخابية حسب هوى النافذين في النظام ماليا وسياسيا.

 

8-   حادثة تمزيق المصحف: تبدو بصمات الصناعة واضحة في هذه الحادثة الخطيرة التي أخطأ صناعها في التقدير لجهلهم بمكانة النص القرآني وتأثيره في التاريخ وما من شك في أن مهلكة عظيمة باتت تلقي بظلالها على النظام الموريتاني جراء هذا الحادث ويقول العارفون بأسرار التاريخ أنه إذا كان لأحد أجهزة النظام دور في هذه الأحداث فلن يطول بقاؤه ولن يفلت من العقاب الرباني خصوصا وأنه حدث أشفع بظلم كبير وجعل تكأة لمحاربة الدين والمتدينين في مجتمع مسلم.

 

ابتزاز الأحزاب

 

إن استهداف جمعية المستقبل هو استهداف للدعوة والثقافة والتربية والتعليم ولا يمكن فصله عن هواجس النظام و"فزعه" من الظاهرة الإسلامية التي تتطور بشكل هادئ ساهم في امتصاص التطرف والغلو من جهة وأضعف صولة التغريب والتنصير وكل التهديدات التي تواجه الهوية العربية الإسلامية في البلاد.

 

كما أن المتتبع لخطاب الحزب الحاكم أثناء حملة الانتخابات يدرك القلق الكبير لانعكاس شعبية تواصل لدى قيادة الحزب الحاكم التي فاجأها الحضور الواسع للتعاطف الشعبي مع لوائح التيار الإسلامي في عشرات المناطق داخل البلاد وربما تكون النواة الصلبة للحكم العسكري قد توصلت مع الشركاء الأجانب وبتوصيات فرنسية إلى ضرورة العمل على ضرب التيار الإسلامي المعتدل وابتزازه عبر معادلة الحرية والأمن وهذا ما أثاره وزير الاتصال في المؤتمر الصحفي السابق على حل الجمعية المستقبل بعدة ساعات فقط.

 

إن الحكام العسكريين وحلفاءهم من "رجعيي" الحركات السياسية بكل توجهاتها باتوا يدركون بشكل واضح أن تحولات المجتمع الموريتاني القادمة لا يمكن التحكم فيها بأساليب الفساد والمحسوبية والنهب المنظم لثروات البلاد دون أداء حكومي مقنع يعوض ضعف الشرعية السياسية للنظام العسكري بشرعية انجاز حقيقي مقنع يسوغ بقاء حكم الطغمة العسكرية وعرابيها من ساسة فاشلين وتأكدوا أن ضمان البقاء في السلطة لعقود قادمة يتطلب إعادة صياغة التحولات المدنية الجارية وفق ما يخدم استراتيجية البقاء بأساليب ناعمة تحفظ استمرار بقاء الشكل الذي يحقق احترام الحريات شكلا ومصادرتها مضمونا وجوهرا والهدف نزع فتيل فاعلية المعارضين وابتزازهم لتحقيق أهدافهم السياسية المنافية للتعددية والديمقراطية ومقتضيات الدستور فيما يتعلق بالحريات العامة.

 

وبات مستقبل بقاء هذا التحالف في السلطة بحاجة لمشروع جديد يبعث فيه الحيوية والنشاط وهو امر بدا شبه مستحيل في مأمورية الجنرال الأولى ولذلك فإن العودة لأساليب المناورة و إعادة التحكم في صياغة العديد من المشاريع المجتمعية عبر سياسة العصا والجزرة هو أهم ضامن للبقاء في عرف هذا النوع من الأنظمة وهذه المقاربة اعتمدت منذ سنوات وأعطت نتائج سياسية مبهرة على مستوى حزب تكتل القوى الديمقراطية الذي تم اضعافه وتفكيكه واعتمدت بشكل أكبر فاعلية على مستوى ثاني أهم مجموعة سياسية في البلاد والتي يمثلها حزب التحالف الشعبي التقدمي وأعطت نفس المفعول الذي وصل اليوم لحد إدراج الرمز التاريخي لحركة الأرقاء السابقين في أكفان المجلس الاقتصادي والاجتماعي ولحده هناك لكي يتمكن النظام باستمرار من الشق عنه واستخراجه من الثلاجة لتوظيفه في اللحظات المناسبة وعند الحاجة لدوره ورمزيته التاريخية المؤثرة .

 

ظروف مواتية

 

يستفيد النظام الآن من ظرف امراتي سعودي مصري صنع أزمة عميقة في أهم قطر عربي يواجه اسرائيل تاريخيا ويشكل قاطرة للتقدم والنهضة العربية منذ عقود وهي أزمة ستأخر هذا المجتمع المنهك بالاستبداد ولكنها لن توقف قدر الله الغالب بزوال إمارات بناها الإنجليز وشكلت عبر تاريخها الممتد أهم ذخر للإمبراطورية الأمريكية بل لربما نبهت نخب الأمة إلى ضرورة تغيير تلك الأنظمة المتخلفة أولا شرطا لبناء نهضة جديدة في العالم العربي وهذا ما تبدوا بشائره في المخاض المقلق للنافذين في تلك الأسر الخليجية التي تحرضها دائر صهيونية وماسونية للإلحاق أكبر أذى بالحركات التحررية الإسلامية التي قادت الربيع العربي ووجهته لخدمة قضايا الأمة الكبرى .

 

إن زيارة وزير الداخلية الموريتاني لفرنسا ساعات قبل اغلاق جمعية المستقبل واجتماع الرئيس ولد عبد العزيز بالسفير السعودي يوما واحدا قبل صدور قرار حل  جمعية المستقبل يؤشر إلى أن حل الجمعية جاء تلبية لرغبة أجنبية لا يسعدها الدور الأصيل لعلماء هذه البلاد بقيادة الشيخ محمد الحسن الددو المستهدف بهذا الحل هو وتلاميذه وتياره.

 

تبا لحكم الجنرالات البائس فقد باع الجنرال محراب الذكر والدعوة والتربية في البلاد بدريهمات معدودة وأغلق جمعية العلماء تقربا لحكام نجد قرن الشيطان بتنسيق ورعاية من طاقم السفارة الموريتانية في الكيان الصهيوني الممسك حاليا بالجهاز الدبلوماسي والجهاز الأكثر تأثيرا في الرئاسة الموريتانية في مسعى للانتقام من دعوة اسلامية معتدلة ظلت دائما تشكل حضنا للآلاف الشباب الموريتاني وشكلت أبرز نصير للقضية الفلسطينية وأبرز رافض للتطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل لأرض الرسالات السماوية في فلسطين.

 

وكم يدفع بريق الريالات السعودية والدراهم الإماراتية نظام الرئيس ولد عبد العزيز إلى حتفه عندما تمتد يده للدين متاجرا بمصدر السكينة في المجتمع ومصدر الاستقرار في البلاد كأنما يكفر نعمة الله عليه ويستهتر بها ويجعل الأحرار هدفه وهو الذي تعود من أول يوم أن يتعامل مع كل شيئي في هذا البلد بوصفه سلعة للاستهلاك وآلية للتحكم والسيطرة والنفوذ والتدوير للحصول على المال ولا غير المال.

 

البسالة تنتصر

 

تمتاز عمليات الجنرالات الأمنية في موريتانيا بالارتباك الكبير في اجراءات التنفيذ عندما يتعلق الأمر بمضايقة أي طرف وتعودت الأجهزة الأمنية حالة الابتزاز التي تتبعها المؤسسة الأمنية والقائمة على أسلوب عصابات المافيا المتخصصة في الخطف والسرقة والنهب وعادة ما يجري استهداف جهات بصورة مفاجئة ومباغتة حتى يظن الطرف المستهدف أن السماء وقعت على الأرض ثم يجري التراجع السريع عن تلك الإجراءات حدث هذا بالنسبة لجهات وقبائل وحدث أيضا بالنسبة لجهات تجارية كما حصل في قضية رجال الأعمال من أقارب الرئيس ولد الطائع الذين استهدفوا من طرف ولد عبد العزيز بإغراء من نافذين من أقاربه يريدون إخلاء الساحة التجارية وإرباك التجار القدماء ليتقدموا هم على انقاض حرب الجنرال الجبانة على منافسيهم غير أن الممانعة القوية والرفض الذي تواجه به هذه الأطراف الجنرال كانت دائما تردعه وتوقفه عند حده بل وتجعله يتراجع في إجراءاته الظالمة بحق هؤلاء وتصلح قضايا رجال الأعمال نموذجا لانتصار الإرادة الباسلة من رجال أعمال أقوياء  يملكون فقط "رأس المال الجبان" ولكنهم أدركوا حجم اللصوصية والابتزاز المتأصل في نفسيات خصومهم فلم ترهبهم آلة الدولة المستخدمة لإرعابهم  فتشبثوا بحقوقهم وعندها انتصرت إرادتهم على ابتزاز اللصوصية الرعديدة لضباط فقراء تحلوا فجأة إلى تجار أغنياء يجلسون في قمرة سفينة مضطربة لا يتحكمون إلا بأجزاء يسيرة من اللعبة الحاكمة لمسارها النهائي في منكب برزخي ذي مزاج سلطوي قــُلـب.

 

إن من الخطأ القاتل في هذه الحال الاستسلام للص رعديد لن تزيده ليونة ضحيته تجاهه إلا مزيدا من المبالغة في الإيذاء دون توقف وعادة ما يكون هذا النوع من الخصوم الجبناء أنذالا حقراء لا يردعهم إلا السلوك المجانس لسلوكهم.

 

إن دعاة جمعية المستقبل قد أسسوا للانتصار بصبرهم وكظم غيظهم في هذه المحنة وتفوقوا على الإرادة المرتبكة للنظام وسجلوا بخطابهم القوي وفاعليتهم الميدانية موقفا استوعب اللحظة ولم يقع تحت الصدمة وردة الفعل وكانوا أكثر مسئولية تجاه المجتمع من النظام الذي جاءت خطواته متلعثمة وفاقدة للمصداقية لأن الوضعية القانونية للجمعية أفضل بكثير من وضعية آلاف الجمعيات التي يملكها الفاعلون في النظام وتشكل أذرعا سياسية مساندة لسلطة الجنرال وهي من تراث الحزب الجمهوري وبعضها لا يملك ترخيصات أصلا ولا توجد لها حسابات إلا الحسابات الشخصية لمؤسسيها وهذا المستوى من خرق القانون تمارسه حتى مؤسسات ناشطة وقوية في خدمة النظام من بينها مؤسسات اعلامية يملكها مقربون من الرئيس ولد عبد العزيز نفسه. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.