حسين قبيسي
مشكورة هي الجهود التي بذلتها صحيفة السفير، بعد 40 عاماً على صدورها، لإصدار ملحق شهري باللغة الفرنسية. لكن تسمية الصوت الجديد، الملحق بـ”صوت الذين لا صوت لهم”، بـ”السفير الفرنكوفوني” (Le safir francophone) تبعث على التأمل في الفرنكوفونية وغموض معانيها، وتوفّر مناسبةً جديدة للتأمل بهذه التسمية، لجهة بعض اللبس فيها؛ فحديث الفرنكوفونية يبدأ ولا ينتهي، كأنه أوقيانوس، مَن يُبحِر فيه يخال أنه وصل إلى الهند حين يصل إلى أول شاطئ يابسة. والوصول إلى الفرنكوفونية لا يعني الرسوّ على شاطئ “المنظمة الدولية للفرنكوفونية”، بل يعني خدمة الثقافة العربية بوسيلة لغوية غير عربية.
يبدأ الحديث عن الفرنكوفونية بالتسمية نفسها، إذ إن تسمية الملحق الصادر بالفرنسية عن جريدة السفير يُضفي عليه وصفاً فضفاضاً، يتعدّى مجرّد صدور ملحق مكتوب بالفرنسية؛ فعلى نحو ما يُقال “صدَر بالفرنسية” أو “بالإنجليزية” أو “بالعربية” لأيّ كتاب يصدر مكتوباً بإحدى هذه اللغات، كان من الأفضل ـ على الرغم من صحة التسمية، من حيث العمومية والشمول ـ لو سُمِّيَ هذا الملحق الجديد بجريدة السفير، المكتوب بالفرنسية، بـ”ملحق يصدر بالفرنسية عن جريدة السفير” بدلاً من “السفير الفرنكوفوني” (Le safir francophone)؛ فعبارة francophonie تدلّ على النطق بالفرنسية، أي بالفرنسية المحكية، أما الفرنسية المكتوبة فثمّة عبارة أخرى للدلالة عليها، هي Francoscriptie. والتمييز بين النطق والكتابة، بين الفرنكوفونيا والفرنكوسكربتيا، إنما هو تمييز بين الكلام (langage) واللغة (langue)، بين الكلام المحكيّ/ المسموع، واللغة المكتوبة/ المقروءة.
فللدلالة على الراغبين، من غير العرب، في تعلّم العربية، تُستخدَم عبارة “تعليم العربية لغير الناطقين بها” (non arabophones)، ولغير الفرنسيين الراغبين في تعلّم الفرنسية يُقال non francophones أي غير الناطقين بالفرنسية.
ومعلومٌ، منذ زمن ابن خلدون، أن الهيمنة الاقتصادية والعسكرية، تستتبع هيمنة ثقافية، من عناوينها البارزة التبعية اللغوية، وأن فرنسا الظافرة أنشأت “المنظمة الدولية للفرنكوفونية” حفاظاً على سلطانها الثقافي المواكب لسلطانها الاقتصادي والعسكري، سواء في حالتي التقدّم أم التراجع، أي حفاظاً على العلاقة التي تربطها بمستعمراتها الممتدّة من جنوب شرق آسيا (فيتنام..) إلى أميركا الوسطى (بلدان “ما وراء البحار” أو الـ”دوم توم” كالدومينيك وغوادلوب..)، ومن أفريقيا (السنغال، ساحل العاج..) إلى سواحل أستراليا، ومن المغرب العربي (الجزائر، تونس، المغرب..) إلى المشرق العربي (لبنان وسوريا بخاصة). لذا اتسعت دائرة الفرنكوفونية لتضمّ، علاوةً على فرنسا الناطقة بالفرنسية، بلداناً وشعوباً ذات لغات أصلية شتّى، تتراوح علاقتها بالفرنسية بين النطق بها جزئياً أو كلياً، وبين القراءة بالفرنسية من دون التكلّم بها قط، وبين الكتابة بها أحياناً فقط، أو غالباً، أو على الدوام. حينما يُقال إن بلداً ما يقع في دائرة الفرنكوفونية فإن ذلك لا يعني حتماً أن أبناءه يتكلّمون الفرنسية، بل إن صلتهم بها، لغةً وثقافةً، تتدرّجُ كتدرُّج صلتهم بلغتهم الأم، بين الجهل بها (الأمية اللغوية) وبين التعمّق في معرفتها، أو بين الاكتفاء بالنطق بها، وبين تجاوز النطق إلى القراءة، ومن ثَمَّ ـ ربما ـ إلى الكتابة بها، فتندرج تلك العلاقة في مستويات ثلاثة: مستوى النطق ومستوى القراءة ومستوى الكتابة: فالفرنكوفونية (Francophonie) هي النطق بالفرنسية والتكلّم بها، أما “الفرنكوليرية” (Francolirie) و”الفرنكوسكريبتية” (Francoscriptie) فهما عبارتان استحدَثهما الفرنسيون لسد الحاجة إلى تسمية الذين يقرأون الفرنسية (فيوصَفوا بأنهم “فرنكوليريون” Francolisant) أو للدلالة على الذين يكتبون بها، من دون أن يتكلموا بها بالضرورة (فيوصَف أصحاب هذه العلاقة بأنهم “فرنكوسكريبتيون” Francoscriptes). أما الفرنكوفيلية (Francophilie) والفرنكوفوبية (Francophobie)، فهما صفتان أو معياران أخلاقيان يصفان الموقف من اللغة الفرنسية وثقافتها، فتعني الأولى الحب الذي يكنّه المرء للفرنسية، والثانية تدلّ على نفوره منها. وربما كانت فرنكوفونية الكثيرين من هذا الباب أيضاً.
فيكون واحدهم فرنكوفيلياً، ويحسب نفسه فرنكوفونياً. ولا تختلف “القارة” الفرنكوفونية عن أي قارة ثقافية / لغوية أخرى، راهنة كانت أم غابرة، نشأت في هذه اللحظة أو تلك من لحظات التاريخ، كالأنجلوفونية و”العربفونية (إذا جاز التعبير) و”التركفونية”.. حينما كانت تسود لغة ثقافة ما لأنها كانت ظافرة عسكرياً واقتصادياً.
ومعلومٌ أن شعوباً شتى أسهمت، فيما مضى، في إنتاج الحضارة العربية الإسلامية باللغة العربية، كما تُسهِم اليوم شعوب شتى أيضاً في إثراء الحضارة الغربية بلغات شتى، في مقدمها الإنجليزية والفرنسية.
وحيث إن الأمر على هذا النحو، فلنتحدّث بحرية أكبر نسبياً عن الانتماء السوسيولوجي إلى الفرنكوفونية في سياق الحديث عن معانيها ومستوياتها. لا يجوز أن يصادر مستوى علاقة النطق بالفرنسية مستويَيْ العلاقة الأخرى بها، ولا يجوز أن يشمل مستوى الفرنكوسكريبتية حكماً المستويين الباقيين، فلا تستوي “طانط لوريس” مثلاً، التي اكتسبت الفرنسية وتكلمتها أثناء فترة الانتداب الفرنسي على لبنان في القرن الماضي، أو “ابن أبو علي البُبّ” الذي تكسَّب الفرنسية خلال عشر سنوات هجرة وعمل قضاها في أبيدجان، أو طالب الدكتوراه في الأدب العربي من إحدى جامعات باريس، وعاد إلى بلده وفي فمه بضع كلام بالفرنسية، مع أدباء عرب وأفارقة كتبوا بالفرنسية، مثل جورج حنين وجورج شحادة ومالك بن نبي وفرانز فانون وألبير قصيري وصلاح ستيتية ورنيه حبشي وتوفيق فهد وكاتب ياسين وأمين معلوف.. وكثيرين غيرهم.
وإدراج تلك المستويات المختلفة في خانة واحدة، تحت تسمية “الفرنكوفونية”، لا يخدم حُسنَ فهمنا لأوجه العلاقة، النظرية والعملية، مع الثقافة الفرنسية. قد يكون المرء مجرد قارئ بالفرنسية، من دون أن يكون ناطقاً بها ولا كاتباً. ومعظم المثقفين اللبنانيين، بل العرب، “الفرنكوفونيين”، وأنا واحدٌ منهم، إنما ينتمون إلى مستوى “الفرنكوليرية”، الذي لا بدّ من تصنيفه في مستوى مستقل، لإزالة الضبابية عن هذه التسمية “الغائمة”: الفرنكوفونية، التي تغلّب النطق على القراءة، والأصح أنها تطمس الفرق بينهما، إذ تتجاهل (بل ربما كان بعض أطرافها يجهل بالفعل) فرقاً أساسياً بين الثقافتين، الفرنسية والعربية.
ففي حين لم يعد وضع الثقافات الأوروبية والغربية يسمح بالتساهل حيال الأميّة، بحيث صارت القراءة ـ منذ وقت طويل، بدأ مع ازدهار الطباعة ـ مصدر المعرفة الأول في هذه الثقافات، ما زال السماع أو السمع، وعماده النطق والكلام، لا القراءة، هو المصدر الأول للمعرفة في الثقافة العربية. ومن دون إنكار دور السماع في تكوين المعرفة لدى المتعلّم، كان المعلّم سبينوزا، منذ زمانه البعيد، قد جعل المعرفة بالسماع من الدرجة الـ”تيرسو”، أي أسوأ المعرفة، في حين ظلت الثقافة العربية، حتى زمن قريب، تصف إنسانها المتعلّم (“المثقف”) بأنه “سمع سماعا كثيراً”.
ولا يقتصر تغليب السمع على القراءة في ثقافتنا على المعرفة “العامة”، أو المخصوصة بمن يسمّونهم أيضاً ذوي الحس السليم، بل إنه في واقع الأمر لا يزال ضارباً أطنابه في أعتى المعاقل الأكاديمية العربية، حيث لا يزال السماع يطغى على القراءة.
وما يزيد الطين بلةً أن الثقافة العربية، من حيث علاقتها بالطباعة، وصل بها الأمر إلى وضع عجيب، لكثرة الأخطاء الطباعية واللغوية والنحوية والتعبيرية.. بحيث إن قراءة الصحف والكتب باتت تسبّب أمراضاً عصبية لقرّاء العربية السليمي الذهن، وباتت المطبوعات العربية الخالية من الأخطاء قطعاً نادراً، إذ لم تعد كثرة الأخطاء (على أنواعها) مشكلة تقنية فحسب، بل باتت مشكلة بنيوية تشمل مستويات التعليم، والعلاقة بالثورة الرقمية والإنترنت، والخدمات الاجتماعية والسياحية… بيت القصيد، من وراء ذلك كلّه، هو اللغة العربية ومشكلاتها، بوصفها ذلك العنصر الثقافي الرئيسي الذي لا ثقافة لي من دونه، فإذا كنتُ معنياً بالجانب الفرنكوليري من ثقافتي، أو بالجانب الفرنكوفيلي، فما ذلك إلا من قِبَل اهتمامي بل “انهمامي” المركزي والشخصي بثقافتي وبلغتي العربية، وهو انهمام لا يمليه انتمائي العام إلى هذه الثقافة، بل يمليه أيضاً انهمامي الخاص باللغة والثقافة، بحُكم وضعي، سابقاً، وعلى مدى عشرين عاماً، مدرّساً للعربية، للناطقين بها، في المدارس الرسمية والخاصة في لبنان، ولغير الناطقين بها، في فرنسا؛ وبحكم مهنتي حالياً، صحافياً وباحثاً، أيضاً، وكذلك بحكم دوري في المجتمع، فأنا أعيش فرنكوفيليّتي من دون عقدتَيْ الدونية والفوقية، أي بلا تفاخر ولا تثريب، وذلك لأنني حينما تعلمت الفرنسية لم يكن ذلك من اختياري ولا من صنع عقلي وإرادتي وأهوائي… وإنما تطوَّر تعلُّمي لها إلى نوع من المحبة والاستئناس، ربما لسبب نفعي صرف، وهو أنها مكَّنتني من فتح نافذة (واسعة) على العالم بكل ما فيه، لم يكن للغتي العربية أن تطلّ بي عليه.
وفرنكوفيليّتي، هي تلك المودة التي أكنّها للغة الفرنسية، واستطراداً للشعب الفرنسي، من دون أن يعني ذلك بالضرورة لدولة فرنسا، أو للمنظمة الدولية للفرنكوفونية. ولئن كنتُ عربياً أو مسلماً، سوسيولوجياً، فأنا فرنكوفيليٌّ سوسيولوجياً (francophile sociologique) أيضاً، وهذه انتماءات لا شأن للمرء فيها كفرد أو شخص، على الرغم من أنه قد يعيد النظر فيها، أو لا يعيد.
وربما كانت فرنكوفونية الكثيرين من هذا الباب أيضاً. فيكون واحدهم فرنكوفيلياً، من دون أن يدري، فيحسب نفسه فرنكوفونياً. بيت القصيد، في هذا المعنى كله، هو اللغة العربية والمشكلات التي تعاني منها، على مرأىً ومسمع من الجميع، من دون أن يحرّك أحدٌ ساكناً، وإلا فما معنى أن يمضي على وجود الفرنكوفونية في بلد معيّن أكثر من قرن من الزمن، من دون أن يكون أبناؤه قادرين على أن يقرأوا بالفرنسية ـ أو بلغتهم، عبْر الترجمة ـ كتاباً واحداً لديدرو أو فولتير، أو لمونتسكيو وروسّو، أو لبيار بورديو ومارسيل غوشيه؟ والحديث عن الفرنكوفونية موصول حتماً بحديث “حوار الحضارات”، الذي فيه من المغالطات والأكاذيب ما يستوجب الإيضاح والتبيان، ولكن لكل مقام مقال، ولكل مقال إبّان.
*مؤسسة الفكر العربي
|