وفاء صندي على الرغم من مختلف القراءات والتحليلات، لا يختلف اثنان على ان داعش هي نتاج الصراع الطائفي في العراق والمنطقة.
وهي تقتات اليوم من مخلفات الاحتلال الامريكي للعراق الذي نجح في جعل الطائفية لون العراق وهويته ولغته السياسية وزيه العسكري، في الوقت الذي تهاوت فيه مؤسسات الدولة وتلاشت الوحدة الوطنية.
وما هروب الجيش العراقي المجهز بأحدث الأسلحة وتعاطف وتعاون العشائر مع ميليشيات داعش التي تقوم بمجازر ضد الانسانية سوى تعبير ليس فقط عن الضعف المؤسساتي بعدم الولاء للدولة والوطن، بل نتيجة حتمية لما تولده السياسات الطائفية من هوية طائفية وهوة وطنية، ومن احتقان اجتماعي وشعور بالغبن السياسي والظلم والتقسيم المجتمعي الذي يمكن ان يتحول الى عداء وانتقام من الدولة في شخص رموزها واتباعهم.
اما استيلاء داعش على محافظات العراق فلا يعني أنها قوية، بل هي في الواقع محدودة من حيث العدد والمعدات، ويعني أكثر أن ثمة أمر ما دار في الخفاء لتنفيذ هذا الهجوم وذاك الفرار. العراق يدفع اليوم ثمن تموقعه بين اصوليات متشابكة، حكومة تكرس للدولة الطائفية، وايران المتغلغلة في كل مكان، والسعودية ودول الخليج التي تدافع عن امنها السني من داخل الحدود العراقية، والتنظيمات الشيعية المسلحة التي تقاتل هنا وهناك، وداعش التي تقوم بعمليات قتل وترويع وتفجير بحجة انها ضد حكومة المالكي وأنها تريد إقامة الدولة الإسلامية. وكلها في الحقيقة مجرد اصوليات قاتلة لا تصنع اوطانا ولا تبني دولا، بل خلقت من اجل خلق توازنات وتصفية حسابات وورقة ضغط يتم استعمالها لتحريك خيوط اللعبة وقت اللزوم.
وما يحدث الان في العراق سوف يكون له تداعياته على المنطقة المهددة بحرب مذهبية وعلى امن دول الخليج، التي توجد بها أقليات شيعية مهمشة، ستجد لها في احداث العراق الطائفية محرضا للحراك، خصوصا اذا ما علمنا ان الجهود المبذولة حتى الآن في التعامل مع الأزمة تكرس للطائفية التي هي سبب اساسي في اندلاعها أكثر من معالجتها الجذرية لها. فرئيس الحكومة العراقي الذي فشل في فرض حالة الطوارئ، نادى في المقابل بتكوين ميليشيات مسلحة للدفاع عن العراق بمساعدة “الحرس الثوري” الإيراني حيث بادرت ايران بالإسهام في تأسيس الميليشيات الجديدة وتدريبها، كما فتحت مراكز التسجيل للمتطوعين الذين يريدون الذهاب للقتال في العراق، تحت شعار سمته “الدفاع عن المراقد الشيعية في كربلاء، والنجف، وبغداد، وسامراء”، مما يهدد بحرب تهدد المنطقة بأكملها، وتزيد من نسبة النازحين العراقيين الذين يشكلون ازمة لاجئين لدول الجوار وخصوصا الكويت.
اما من ناحية اخرى، وهو ما اعتبرته في مقال سابق كون داعش، التنظيم الارهابي، بديلا لـ “الربيع العربي” او “الربيع الاسلامي”، وهو المصطلح الذي أوجع البعض، (مما فيه نقد كاشف لقواعد اللعبة الدولية التي لم تنتهي بعد في منطقة الشرق الأوسط، والتى طالما تبحث عن بدائل لتنفيذ نهاية اللعبة كما أريد لها)، من المنتمين او المتعاطفين مع الجماعة المحظورة في مصر، والذين تحولوا من محام دفاع عن شرعية مرسي الى دفاع او تشجيع لداعش وجرائمها المرتكبة في العراق.
مما يعني تغذية الفكر المتطرف وإعادة النظر ايجابا نحو الجماعات الجهادية، سواء لدى الجماعات الاسلامية التي فقدت السلطة بعد اول سنة حكم وتجد اليوم في داعش فرصة للأنتقام من الانظمة الجديدة وحلم جديد لتأسيس دولة الخلافة، او لدى قطاعات شبابية غاضبة اصيبت بالاحباط بعد خوضها ثورات لم تحقق فيها ما كانت تصبو إليه وتجد اليوم في داعش وغيرها امتدادا سياسيا للعنف كفكرة قادرة على استحواذ الحكم وتطبيق الحاكمية.
وماذا بعد؟ نصف مليون قتيل هي تقريبا محصلة ما جنته المنطقة العربية من ارواح معظمها من مدنيين عزل خلال اقل من اربع سنوات من الفوضى والعنف والصراع من اجل السلطة، وما يحدث في العراق سيجعل هذه المحصلة تتزايد بسبب توجه تنظيمات متطرفة الأخرى على القيام بعمليات مماثلة لتلك التي تقودها داعش في العراق، حتى لا تفقد موقعها ومواردها البشرية والمالية، وخصوصا ان في كل بلد عربية نزعة طائفية او فتنة نائمة تنتظر فقط من يوقظها ليستيقظ معها العنف، وداعش ومثيلاتها تتحرك بشكل تكتيكي مستغلة مختلف الاضطرابات التي تعرفها المنطقة من اجل بناء قواعد في كل مراكز وبؤر التوتر. وخطر داعش او الجماعات الدينية الراديكالية لا يلاحق فقط منطقة الخليج، ولكن ايضا دول الثورات وخصوصا اليمن ومصر.
اليمن التي يمكن اعادة انتاج التجربة الداعشية فيها بسبب الفراغ السياسي والامني للدولة، وزيادة معدلات التوظيف السياسي للشعارات الدينية، وانتشار المد القاعدي الأصولي، مقابل اتساع نفوذ القاعدة في المناطق الحدودية وسيطرة الميليشيات على مناطق الصراع.
اما مصر التي يجد فيها العنف والارهاب ارضا خصبة لنفوذ الجماعات المتأسلمة داخل طبقات المصريين الأكثر فقرا وجهلا، بسبب صراع ظاهره ديني وباطنه صراع على السلطة، وقدا زاد توتر هذه الجماعات بعد عزل مرسي وملاحقة عناصر الجماعة واعلانها ارهابية واقصاء او تخوين كل المنتمين وحتى المتعاطفين معها، مما خلق حالة من الحقد والكره بين من يتقاسمون نفس الوطن ويختلفون حد التخوين في الايديولوجية او الانتماء السياسي. وبناء مجتمعات على اساس التخوين او الاقصاء والتهميش هو مثل صناعة الطائفية، ومثل صناعة الإرهاب من السهل خلقها/ اختلاقها وترويجها لكن من الصعب القضاء عليها او التخلص من تبعاتها.
والعنف لن يولد سوى عنفا اكبر، والتهميش او اقصاء فئات من المجتمع لن يولد الا كرها ورغبة في الانتقام وما يحدث في العراق خير مثال. إن الارهاب يقتات دائما من الجهل والفقر والاحساس بالظلم والتهميش، ومنطقة الشرق الأوسط تستطيع تفادي المستقبل الاسود الذي يولده الغبن المجتمعي كما الطائفية بقليل من اتساع الرؤية، وفهم جيد لقواعد اللعبة الدولية التي يديرها الأقوى في المنطقة بهدف التخديم على مصالحه، وعلينا ان ندرك هذه القواعد في خطاباتنا وحواراتنا مع الاخر سواء في العلن او في الغرف المغلقة، وان نكون فاعلين ومشاركين من منطلق القوة التي نمتلكها وهي على الأقل قوة البترول وقوة الموارد البشرية واستثمارات العرب في اوروبا وامريكا، وهي استثمارات تشكل قواعد اقتصادية هائلة تسيطر على الاقتصاد العالمي، فقط نفتقد للأسف الى امتلاك الروح الوطنية الحقة التي تجعلنا نقدم مصالحنا الضيقة واطماعنا في الاستحواذ الابدي على السلطة على حساب أوطاننا ومصالح شعوبنا.
|