في أفريقيا.. الكرة والسياسة
الخميس, 10 يوليو 2014 17:05

حلمي شعراوي

حلمي-شعراوي

كنا نقول إن الاقتصاد، والرأسمالية خاصة، يدفع المجتمعات للاندماج والتوحد، داخلياً وإقليمياً، بما قد يسبق السياسة بأشواط.. ولم تنجح هذه المقولة بسهولة، بسبب الجمود الاجتماعي نفسه، أو ربما بسبب قلة عائدها السياسي! فرُحنا نقول إن العملية السياسية وخاصة حول مقولات كبرى مثل الوحدة الأفريقية أو العربية، قد تكون دافعاً سريعاً للتوحد، ولكن تجارب كبرى أيضاً في المنطقتين لم تثبت صلابة تلك المقولة!

وبحثنا أحياناً عن عناصر فرعية، ثبتت قدرتها التدريجية على فعل التوحيد، فكان الأدب مرة، والفكر السياسي تارة أخرى، ثم كانت السينما على المستوى العربي مثالاً قوياً، مثلما كانت الموسيقى على المستوى الأفريقي.

وكل هذه العناصر بدت جزئية، ولم تشغل الرأي العام الأفريقي أو العربي دفعة واحدة، إلا العنصر الجديد المسمى كرة القدم، ومسابقاتها الاقليمية! والآن.. الدولية.. وها هي الجزائر تحظى بالمهمة التاريخية، لتوحيد الرأي العام العربي والأفريقي على السواء.. وتتعلق بسيقان أبنائها أنفاس الملايين، شيباً وشباناً، فتتجاوز السينما والاقتصاد والسياسة في ضربة واحدة، كنا نتمنى أن تكون الضربة الصاعقة لفريق «المانشافت» الألمان.. ولكنها على أي حال وقفت عند مشارف «العالمية» الرائجة… وسط احتفالات «العولمة» بإنجازها البارز في إدارة «المونديال»!

 

كان قدر من السذاجة الشعبوية قد دفعني منذ بضعة أسابيع إلى تصور أن انعقاد مؤتمر وزراء خارجية دول عدم الانحياز بالجزائر أواخر مايو الماضي، تمهيداً لقمة عدم الانحياز بالبرازيل بعد بضعة أشهر، هو الذي سيجعل من الجزائر والبرازيل، نافذة النظر الأحدث إلى إطلالة «العالمثالثية» أو كتلة الجنوب مجدداً وسط التحولات العالمية الكبيرة الجارية، بل وإزاء مأزق العولمة القائم في مناطق مختلفة من العالم «الشرقي» أو «الغربي»، ورحت أقول إن الجزائر هي صاحبة أفكار «العالمثالثية» القديمة، ومقر المؤتمر الأول للدول النامية والدعوة للنظام الاقتصادي العالمي الجديد منذ أواخر الستينيات، وإنها تستعيد بالتحرك الجديد مكانة متجددة بين بلدان الجنوب يمكن أن تتحرك بينها دول ذات تاريخ في القضية مثل الجزائر، ومع دول ذات ثقل اقتصادي وسياسي كبير مثل البرازيل. وها نحن نرى «المونديال» وعولمته الكاسحة يغطي الصورة ويسيطر على الأضواء، لتظل «الكرة» الذهبية «هي العنصر الجامع لما لم تجمعه السياسة أو الاقتصاد حتى الآن.

وكدت أتجاهل موضوع «المونديال» لعدم معرفتي بأي من العناصر الكروية لسوء حظي، ولكن بات يشدني بالضرورة أن الأحاديث الكروية تقترن في السنوات الأخيرة بلغة تجارية فجة، من «بيع» اللاعبين، إلى احتراف «أشاوس» في غير أوطانهم، بما قد يجعل الموضوع غير ذي صلة بالمرة بالسياسات التي نتحدث فيها. ولكني فوجئت مع استعراضي لأدبيات هذا «الفن» أن جامعات كبرى مثل «ديوك» و«أوهايو»، بل وجامعات خاصة في البرازيل ومؤتمر مثل ذلك الذي عقده المجلس الأفريقي «كوديسريا» بالقاهرة حول الرياضة، ومجلات متخصصة كبرى عن أفريقيا، تخصص مواقع دائمة لبحوث هذا الموضوع، والبحث بوجه خاص عن علاقة «المسألة الكروية» وسوسيولوجيا الكرة بالهوية القومية، أو الكبرياء الوطني أو الكاريزمات السياسية!

وبعض هذا بات معروفاً مثل بناء «الاستاد» الوطني كأول معالم الاستقلال، أو تحية الفرق القومية بشكل خاص بأسماء وطنية مثل «النجم الأسود» في غانا، أو «أفيال» الكوت ديفوار، أو «فراعنة مصر»! ولكن ما وجدته إضافة في هذا الموضوع هو بعض ملامح «السوسيولوجيا السياسية» مثل علاقة الفرق الكروية بنشاط حركة التبشير المسيحية في أفريقيا مع بداية التسلل الاستعماري، ورغبة الإدارة الاستعمارية في استعمال «الفن الكروي» للتدريب على النظام والانضباط! وقد يفسره البعض على أنه إدخال «لآليات الحداثة» خارج جدوى الحداثة المباشرة للتقدم الاجتماعي السياسي، أو أنه آلية بديلة عن السياسة لأسباب مفهومة!

فهمت هذا من ظهور المسألة الكروية مبكراً في مناطق صراع عنصري أو عرقي في الجنوب الأفريقي (روديسيا) وحتى في زنجبار. وفي مناطق التحدي الثقافي أمام الفرنسيين في مستعمراتهم، وفي الجزائر نفسها أيضاً!

وقد قرأت عن جولات لزعامات أفريقية شهيرة مثل «نامدي أزيكوي» في أنحاء نيجيريا مع فرق كروية في الثلاثينيات والأربعينيات للتعبئة حول الوحدة الوطنية مرتبطة بتأييد بريطانيا في الحرب، مقابل وعد باستقلال نيجيريا عقب ذلك!

ثم تجسد البعد الوطني ضد العنصرية في جنوب أفريقيا نموذجاً للتحدي الأفريقي بمجرد تحولها السياسي، عندما اعتبر انتصارها في تنظيم «الريغبي» والفوز به 1995، سمعة مبكرة لهذا التحدي رشحها ضمن عناصر أخرى لتكون مقراً لمونديال 2010، ورأينا كيف اقترنت دبلوماسية «ثابو مبيكي» وكاريزما «مانديلا» لإنجاح هذا العمل الكبير.

وقد خلقت الفرق الكروية رموزاً قومية في لحظات انهيار الاندماج الوطني، وكانت شخصية «دروجبا» في ساحل العاج منقذاً مهماً لهذه الدولة في لحظة انهيار مفاجئة لتكوينها الاجتماعي، والصراعات العرقية التي أصابتها مع مطلع القرن.

وبقدر ما تكون «اللعبة» مجالاً للاندماج الإقليمي أو القومي، صارت في العالم العربي أحياناً مجالاً للعبث بالقيم القومية في صراعات، دامية أحياناً، أو محاولات لاستغلالها السياسي الداخلي أو الإقليمي بأبعد مما تتحمل!

وفي موقع آخر، استثمرت «أنجولا» مباريات الكأس الأفريقية عندها عام 2010 سابقة على جنوب أفريقيا، كجزء من منافساتها الإقليمية من جهة، ولكن الأهم أنها نظمت المباريات في منطقة «كابندا» المهددة بالتمرد أو الانفصال، لإثبات قدرة الدولة على السيطرة بشكل ملموس على إقليمها، وتحملت أزمة كبرى مع «الفيفا» و«الكاف» ضد التوجو حتى حولت الموقف لصالحها دليلاً سياسياً على استقرارها.

وهكذا تتحول «الكرة» إلى سلاح يهزم أحياناً السياسة والفن والاقتصاد. والمأساة في موضوعها الآن أنها تتحول إلى سلاح للعولمة يهزم القيم الوطنية والشعبية، التي نشأ فيها هذا الفن، سواء بتقدم الهيمنة للأوروبيين فيه، وعزلة الآسيويين النسبية عنه حتى الآن، أو بنظام الاحتراف، بمعنى أن يبقى الرأسمال العالمي هو النافذة على هذا الفن الوطني الذي يبدأ أو كان يبدأ في بلادنا -بجري مدرب وطني همام في حواري السيدة زينب وشبرا والقلعة، لالتقاط لاعبي «الكرة الشراب»، أبطال المستقبل للفريق الوطني!

 

* نقلا عن “الاتحاد” الإماراتية

فيديو 28 نوفمبر

البحث