علي الدربولي
العروبة:
لضرورة البحث ذي الصلة بما يحدث من تجاذب ثقافي على مستوى العروبة والإسلام في هذه الأيام العصيبة من تاريخ المنطقة، أذهب إلى تسليط الضوء على دور العروبة كانتماء فاعل في تقرير التزامات حامليها كقومية على طول مسارها التاريخي منذ العهود القريبة من تاريخ نزول أول وحي على رسول الإسلام محمد(ص) ومن ثم النظر إلى دورها المرافق للإسلام حتى نتبين حقيقة دورها على هذا المستوى.
انقسم العرب في الأصل إلى جذرين رئيسين يعودان في أصلهما إلى نسل ابراهيم (ع)هما: اليمنيون(عرب الجنوب) المتحدرون من قحطان، والنزاريون (عرب الشمال) المتحدرون من اسماعيل (ع) ومن فروعهما كانت قيس وقريش من النزاريين، ومن اليمنيين كانت لخم وكندة وغسان.. هؤلاء العرب الذين تحولت عقائدهم إلى الإسلام وما بقي منهم إلا القليل على ديانته السماوية الأخرى من يهود ونصارى وصابئة، وذلك بفضل الدعوة النبوية إلى الإسلام، وما رافقها من أعمال حربية انتهت إلى فتح مكة، ومن ثم عبرالفتوحات الإسلامية في كافة الاتجاهات الجغرافية بعد وفاة الرسول عام (632) بدأ عهد الخلافة الراشدة الأولى، حتى إسقاط الخلافة العباسية في عام (1257) على يد غير العرب، فتكون هنا الخلافة الإسلامية في ظل الراية العربية قد عمَّرت ستمائة وخمس وعشرون سنة، ومما هو جدير بالإشارة هو تولي الشعوبين، أي غير العرب، شؤون الحكم في الثلث الأخير من عمر الخلافة العياسية حتى غدت خلافة إسمية لا حول لشخص خليفتها ولا قوة، فاختلط عندها حابل الأعراق بنابلها فلم تعد لحملة الإسلام صورة واحدة جامعة مثلما كانت العربية، الكل ينقلب على الكل، والكل يتفيأ بشخص الخليفة العباسي الضعيف الذي لخصت حاله في النهاية جملة (بغداد تكفيني).!
المرحة المختلطة:في ظل الخليفة العباسي قامت خلافة الفاطميين العربية انطلاقا من المغرب العربي عام(909) إلى مصر عام(969) حيث طردوا الإخشيديين، ولقد دامت خلافتهم حتى عام(1171) عندما طردهم الأيويون من مصر. تعرضت البلاد الإسلامية إلى غزوات أقوام من غير العرب كالصليبيين في بلاد الشام، وكذلك البويهيون والسلاجقة والأتابكة كحكام للمقاطعات في الشام والعراق وأرمينية وفارس والزنكيون في العراق الأعلى الذين تابعهم صلاح الدين الأيوبي وحكم مصر وبلاد الشام ثم المغول الذين اجتاحوا المنطقة (1092-1327) وأنهو بالضربة القاضية الخلافة العربية في عام(1257) ثم العثمانيون الذين كان فتحهم للمنطقة في عام (1516).
الإسلام:
دام حمل العرب للواء الإسلام كخلفاء وولاة أمر وحكام من تاريخ أول خلافة راشدة عام(632) حتى تاريخ آخر خلافة عباسية عام (1257). بينما حمل لواء الإسلام من غير العرب:السلاطين والأمراء والحكام ثم الخلفاء من تاريخ سقوط الخلافة العباسية سنة (1257) حتى الثورة العربية الكبرى عام (1916)…
المدقق في هذه التواريخ يلاحظ أن مدة حكم غير العرب أطول من مدة حكم العرب بقليل، إلا أن القاسم المشترك بين جميع ولاة الأمرمن العرب وغير العرب، هو الإسلام، كدين ونظام حكم من خلال تطبيق الشريعة الإسلامية، ولقد كان للعرب أهمية كبرى وحيوية في هذا السياق من حيث تلقيهم للإسلام ابتداءً، والدفاع عنه ونشره، وذلك من ثلاث نواح، الأولى:هي أن الله نزل الإسلام على أفضل خلق الله الرسول العربي محمد(ص). الثانية: نزول القرآن باللغة العربية. الثالثة: استقرار الأمر على أن تكون الخلافة في قبيلة قريش العربية.
الثقافة العربية:
هي ثقافة خاصة بعرب ما قبل الإسلام وقد كانت المعلقات السبع أكثر ما يجسدها تناقلا بين الناس، وكانت الأعراف والتقاليد غير المكتوبة بمثابة القوانين التي يشرف على تطبيقها زعماء القبائل وملوكها وأسيادها.. وكانت الثقافة الدينية متنوعة المراجع، كألأصنام وغيرها لزوم العبادة، موحدة الغايات المفضية إلى الله في بعضها، إضافة إلى وجود ديانتين غير طاغيتين هما اليهودية والمسيحية، كما كانت الفرقة وتعدد الولاءات بين الغرب والشرق كالروم والفرس، سمة كثير من العرب، وكانت الحروب تطول بين المتخاصمين، وكانت قريش في موضع الوسطية بين هؤلاء وكان أشرافها وسادتها يتولجون أمور البيت العتيق كأهم شرف يفاخرون به. وعلى أفضل أشخاصها نزل الوحي.. الرسول العربي الذي قال: “ما جئت إلا لأتمم مكارمالأخلاق”.
أممية الإسلام:
“إنما الدين عند الله الإسلام” (لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) “الحمد لله رب العالمين” وليس رب العرب فقط. “قل أعوذ برب الناس.. “جميع الناس.. من هذا البعد الشامل للدين الإسلامي انبثق وعي مختلف، تجاوز العصبية القومية التي امتاز بها عرب الجاهلية على غيرهم.. وكان من أهم العلماء المسلمين كثير من العجم وكان الخلفاء المسلمون، خاصة العباسيين لا يقفون موقف التعصب لقوميتهم العربية، فأشركوا لذلك في الحكم من هم من غير العرب كالترك والفرس.. حتى انخفض منسوب التمسك بقاعدة ضرورة كون الخليفة من قريش العربية، وقد ساير هذا الشكل كثير من الحكام والسلاطين من غير العرب الذين تسيدوا على الأمصار والأقطار في ظل اعتراف إسمي بالخلافة العباسية الضعيفة قوميا، والتي أرادت، إذا لم نقل سعت، بنفسها إلى مثل هذا الضعف، من حيث تدري أو لاتدري، في سبيل إبعاد المنافسين العرب، حسبما كان يرى الخلفاء، العرب الذين كانوا من الأمويين ومن يشد على يدهم، ومن آل البيت ومن والاهم بنفس السوية! لهذا أمعن خلفاء بني العباس تقتيلا وتنكيلا بالطرفين ضمانا لملكهم، الذي طال زمنه على هذا الأساس حتى هدمه الأغيار من غير العرب؟!
الثقافة الإسلامية:
شئنا أم أبينا ثقافتنا ثقافة إسلامية أكثر منها عربية. لذلك تحتاج عملية إحياء الثقافة القومية إلى مبدعين وجهد كبير وموضوعي، لأن هذه الثقافة تواجه كما متراكما من الثقافة المشرقية المضطربة، طابعها الطاغي الفكر الديني، ما يصعِّب أمر حضور الفكر القومي (غير الديني) على الساحة الفكرية، الملقى القبض عليها حاليا من قبل أكثر الناس تطرفا في الإسلام، الأمر الذي استدعى سياسيا وإعلاميا و(عسكريا) إلى أن يحشد العالم كل قواه للتخلص منهم.
انتشر الإسلام في أربع جهات الأرض، وكان أوج انتشاره في عهد الخلافة الأموية، وانتشرت الثقافة الإسلامية على حساب الثقافة العربية التي بدأت تندمج بالجديد الفكري المقدس خصوصا من خلال القرآن الكريم الذي عزز مكانة اللغة العربية ولما يزل برغم تعدد حملة الإسلام من غير العرب الذين غيروا في اتجاه لغاتهم القومية كي يلتقطوا الثقافة الإسلامية ويحسنوا فهمهم للإسلام، ثم أضحى القرآن والسنة النبوية مرجعي التشريع المنظم لحياة الناس واختصاصهم بحقوقهم، ووضِعت المذاهب الإسلامية الرئيسة الخمس، كما فاضت العلوم الإسلامية في الحديث والفقه وعلم الكلام إلى ما هنالك فيما يخص التبحر بالدين من باب ضرورة فهمه الفهم الصحيح، برغم اختلاف موجاتها… كما برز علماء الإسلام في الطب والفلك والاستكشاف والرياضيات ومنهم من ذهب مذهب الفلاسفة، الأمر الذي أشعل الساحة الثقافية الإسلامية بالحوار الفكري مثلما دار بين ثقافة (ابن رشد) وثقافة (أبو حامد الغزالي)، وقد تغلبت في هذا الصدد لغة الحوار ولم يُلجأ إلى ذبح العلماء والمخالفين وقتلهم.. بل كان جلّ ما عوقبوا به، لمخالفتهم السائد من الثقافة الإسلامية، هو نفيهم أو حرق كتبهم…
تربت الأجيال العربية على الثقافة الإسلامية وكانت سيرة البدايات الإسلامية، وتاليا تسلسل الأحداث الإسلامية البارزة والإنجازات الإسلامية على مر العصور، تدل على أن العرق غير ملتفت إليه تعصبا! فقد كان حماس المسلم العربي للخلافة العثمانية غير العربية نفس حماس المسلم التركي، إذ لافرق بين هذا وذاك (إلا بالتقوى).. وهكذا ترسخ في وعي المسلم تاريخ الإسلام المشرق، لم يبد معه أن القومية العربية هي العنوان الذي يحكم ذلك التاريخ، ولم يكن المسلم على مقدرة كافية ليتجاهل أحقية الثقافة الإسلامية لأنها من صلب دينه المقدس على عكس ثقافته العربية الزائلة مع الأيام… إلى أن كانت المصلحة المشتركة بين القيمين على الثقافة الإسلامية على قاعدة التساوي بين كل المسلمين والدولة البريطانية العظمي خلال فترة الحرب العالمية الأولى.. فكانت الثورة العربية الكبرى عام 1916م ومقدمات هذا الأمر… ونتائجه وما بينهما بات معروفا للجميع.
الهوية المرتجّة:
بكل تأكيد يستطيع العربي أن يقول أنا عربي، بغض النظر عن دينه. لذلك تكون العروبة هنا جامعة غير مفرقة، فللعروبة جذور لا يمكن نكرانها أو إلغاؤها لصالح أي دين وكفى العرب شرفا أن نزل الوحي باللسان العربي على الرسول العربي.. من هذه النقطة بالذات لا يستطيع العربي المسلم أن يتنصل من قوميته لصالح دينه أو من دينه لصالح قوميته، لاتحاد هاتين القيمتين الجذريتين فيه.. ولا ضير في ذلك لأنها في بعضها مكارم أخلاق كملت بعضها، هذا برغم ما اعتور تاريخ الحامل العربي والمحمول الإسلامي من ارتجاج في الصورة التي بدت مهتزة للعيان، وما ذاك إلا بفعل أصحاب المصالح من ولاة الأمر وبعض العلماء الذين يحلبون في إنائهم، لا أكثر ولا أقل من ذلك بتقديري.
على ضوء الربيع الأحمر العربي صار يُطالَبُ كل واحد من الناس بتحديد هويته، أهو قومي عربي، وماذا هو فاعل؟، أم أممي إسلامي وماذا هو فاعل؟
فعل القوميون العروبيون-وهم مسلكون في جلهم- كثيرا منذ (ثورتهم) سنة 1916م ولظروفهم الذاتية والموضوعية رأيناهم كيف وصلوا إلى ما وصلوا إليه الآن من كبوة تكاد تقضي عليهم، أرضا وفكرا أمام عجزهم عن رفع الصوت والحشد الكافي والمحرض على الانتفاض مجددا في مواجهة حرب الإلغاء التي يشنها الإسلاميون المتطرفون ضدهم ـ وهؤلاء عرب وغير عرب-. ولطالما يؤمنون أنهم أكثر احتواء للهويات تحت سقف الوطن الواحد عليهم أن ينتفضوا هذه المرة من تلقاء ذاتهم، من غير مساعدة أحد كما حصل في الماضي، وإنه لديهم أفكار ورؤى ترقى إلى مستوى النظريات في الفكر القومي لم تبل بعد، وقد جُربت وحوربت في كل من مصر وسورية والعراق وحتى في الجزائر… والحاجة ملحة الآن لإعادة إحيائها.. لأنها الخلاص وحده في هذه الأيام…
إن عملية جبر الدين ليكون رافعة سياسية منذ بدايات القرن العشرين وحتى تاريخه، إنما جاءت مرافقة على استحياء لعملية بزوغ نجم الفكر القومي، وما ذلك إلا لوجود معارضة في الفكر العالمي لهذا الاتجاه في عملية تسييس الدين.. كانت أوروبا منبع الفكر القومي، وكان الاتحاد السوفييتي منبع الفكر الاشتراكي، وكلا الفكران لا يتفقان مع فكرة تسييس الدين… وكان اتفاق سايكس-بيكو لترتيب المنطقة العربية طبقا لمنطلقات الفكر القومي.. حتى سقط الاتحاد السوفييتي وتراجعت أوروبا أمام أميركا التي استثمرت في الدين الإسلامي كثيرا وقامت بغزو أفغانستان والعراق واحتلالهما، بغية التأسيس لعالم متغير يخدم المصالح الأميركية العليا انطلاقا من (الفوضى الخلاقة) التي أرادوا لها أن تعصف ابتداء بكل المرتكزات السياسية والمجتمعات المستقرة والدول القومية ذات التعددية المجتمعية الحاضنة لها منذ العام 2011م بداية الربيع الأحمر العربي. انظروا ماذا يحدث الآن على الساحة العربية باسم الإسلام!!
لا يمكن للمواطن العربي أن يقول أنا مسلم، ومسلم فقط،في ظل وطن ذي سمة تعددية عبر التاريخ، لأنه يغمط حق غيره في الوطن، من أصحاب الديانات الأخرى.. وفي حال كانت المذهبية حاكمة يضاف إلى أصحاب الديانات الأخرى أصحاب المذاهب الإسلامية الأخرى.. لذلك ومن هذه النقطة يمكن القول أن شعار (الفوضى الخلاقة) الذي أطلقته أميركا بما يرمي إليه من تدمير وتفتيت للمكونات السياسية للمنطقة، والذي لم يكن إلا لصالح (إسرائيل) فقط، كما تثبت أحداث الربيع الأحمر العر بي يوما بعد يوم، يتطابق تماما مع تداعيات مشروع (الخلافة الإسلامية) الناشئة بغير إجماع، وبما هي عليه من انغلاق…تثبت إنهما خطان متوازيان إلا أنهما يلتقيان، طبقا للمصلحة، ليس طبقا لعلم الهندسة، لذلك أجد أن عامل تدميرهما مرافق لتشكلهما، وسيكون من داخل رعات الاتجاهين: وهل كانت “الفوضى الخلاقة” تفعل فعلها لولا تداعيات إعلان (الخلافة في بلاد العراق والشام) على مستوى الوطن العربي والإسلامي، لا بل على مستوى العالم؟! هنا ليس على اصحاب العقول النيرة من أصحاب الشأن والفكر سوى الشروع بالعمل لوضع مشروع فكري يحفظ الهويات، لا يذيبها في ظل عبارة أطلقت في بدايات التحرر العربي من الإستعمار الغربي”الدين لله والوطن للجميع″ ربما يكون في ذلك خشبة الخلاص ولو بعد حين.