في كتابه «أخوة الــــدم: الصداقة بين محمد علي ومالكولم X»، الذي صدر بالإنكليزية مطلع هذه السنة، عن Basic Books، يساجل راندي روبرتس وجوني سميث أنّ حياة الملاكم/ الأسطورة محمد علي (1942-2016) توزعت على أربع شخصيات؛ تكونت وتكشفت وعبّرت عن سلسلة خصال، ضمن سلسلة مواقف: كاسيوس مارسيللوس كلاي الابن، البطل الشاب في أولمبياد روما 1960؛ ثمّ، بعد احترافه الملاكمة، «لسان لويزفيل المفوّه»، نسبة إلى بلدته مسقط رأسه، حين اعتاد التفاخر وإلقاء الشعر والتعريض بخصومه، فاحتلّ مكانة النجم على غرار مواطنه إلفيس بريسلي؛ وكاسيوس X، الذي انخرط في حركات الحقوق المدنية والدفاع عن السود، وانضوى تحت راية إلايجا محمد، زعيم منظمة «أمّة الإسلام»، فاقتدى بصديقه مالكولم X وقلّده حتى في الاسم، منافحاً عن فلسفة المسلمين السود، ومعارضاً الفلسفة السوداء الأخرى التي أطلقها مارتن لوثر كنغ؛ ثمّ محمد علي، رابعاً، بعد فوزه بلقب الوزن الثقيل، سنة 1964، حين أصبح الرياضي الأكثر إثارة للجدل في تاريخ الولايات المتحدة.
ويساجل المؤلفان بأن توزّع حياة علي على هذه الشخصيات الأربع ليس سمة مميزة يمكن أن تُحسب له على نحو انفرادي، بل هي أقرب إلى تقليد عمومي، أو جَمْعي، لجأت إليه أنماط متعددة من الأمريكيين السود، اختاروا أقنعة أخرى وهويات متضاعفة كانت «حاسمة في إبحارهم داخل حدود ومسالك خطوط اللون في أمريكا»؛ كما يشير روبرتس وسميث، ليس دون اقتباس أمثلة من الأدب الأسود: ريشارد رايت، في «ابن البلد»؛ ورالف إلليسون، في «الرجل غير المرئي».
وهكذا كان مالكولم، بدوره، متعدد الأقنعة؛ بدأ من أزقة ديترويت، ومجتمع المخدرات والبغاء، ليتعرّف في السجن على علوم التاريخ والاجتماع واللاهوت و»أمّة الإسلام»، حتى انتهى إلى لقب «الأسود الأشدّ غضباً في أمريكا» حين يكون في بلده، و»الحاج مالك الشباز» حين يتجول في أفريقيا والشرق الأوسط.
بيد أنّ الصداقة بين الرجلين لم تكن البتة بسيطة، يساجل المؤلفان، على نقيض الحكمة الشائعة، والتي تراكمت أصلاً من خلال ما قاله أحدهما عن الآخر (فضلاً عن تقارير مكتب التحقيقات الفدرالي، ووثائق الخارجية الأمريكية). وهذا بُعد بالغ الأهمية في كتاب يتقصد طرق تلك الدروب المتعرجة، والمتاهات بالأحرى، التي اكتنفت صداقة غير عادية. الطور الأخصب ليس مديداً في الواقع، لأنه يمتدّ بين حزيران (يونيو) 1962 وشباط (فبراير) 1965؛ ولعلّ الجانب الأكثر إثارة فيه لا يتصل بانشقاق الرجلين عن التيار العام في حركة السود، وخيار الاهتداء إلى الإسلام؛ بل ابتداء الفتور بينهما على خلفية الموقف من التطورات الداخلية في حــــركة «أمّة الإســــلام»، وسلوكيات زعيمها إلايجا محمد تحديداً.
وبهذا المعنى فإنّ «المحتوم» في تلك الصداقة كان التأثير الهــــائل الذي مارسه مالكــــولم على كاسيوس، وكيف كان شبه مستحيل على الأخير أن يختطّ طريق الأسطورة الرياضية الكبرى، والأيقونة متعددة الأوجه ـ أي: الناشط الاجتماعي، والمناهض لحرب فيتنام، والمدافع عن السود، والمنشقّ عن سياسات أمريكا الخارجية، ونصير الضعفاء… ـ لولا صداقة مالكولم.
فيما بعد، ابتداءً من العقدين الأخيرين للقرن العشرين، سوف يتولى صياغة خطاب «أمّة الإسلام» شاب متحمس مغمور يدعى لويس أوجين ولكوت، سليل أسرة كاريبية مهاجرة إلى أمريكا؛ اهتدى إلى الإسلام، وبدوره اختار الحرف X إلى يسار اسمه الأوّل، ثم استقرّ على لويس عبد الفرقان (وليس «فرخان» كما يصرّ البعض في وسائل الإعلام العربية). وها إنه يخاطب السود هكذا: «أنتم العبرانيون الحقيقيون، اليهود الحقيقيون! موسى كان أفريقياً، ويسوع كان أفريقياً!»… وهذا خطاب يطوي صفحة بلال الحبشي، والرمز البلالي، في إسلام أمريكي انعتاقي مثّله مؤذّن الرسول الأسود، وتمثله ذات يوم، وانجذب إليه، اثنان من أشهر مسلمي أمريكا: مالكولم (الحاج)، وكاسيوس (محمد علي).
خطاب القوّة هذا انبثق مباشرة من عذابات ملايين السود، أو مئات الآلاف الذين انضموا إلى منظمته ومسيراته، لا بسبب تأييدهم لمواقفه العقائدية والدينية الانعزالية، بل بسبب إحساسهم بأن ضرورة القائد الأسود باتت مسألة ملحة مطروحة على جدول الأعمال، في كل ساعة، في كل يوم، ومع كل واقعة قاتمة باعثة على اليأس والمزيد من أحاسيس النقص والانتقاص. هاهنا قصة مدينتين، كما في عنوان رواية شارلز ديكنز الشهيرة، حيث خطّ البؤس المريع الذي يفصل حدود المدينة البيضاء عن المدينة السوداء. ذلك لأنّ فرقان، ما بعد مالكولم ومحمد علي تحديداً، بات كابوساً له قسماته الخاصة، الضاغطة بقوة على صدوع أمريكا ومرآتها المقعرة؛ والضاغطة بقوّة أكثر لأن أمريكا بحاجة ماسّة إلى تعريف نفسها بمصطلح العدوّ… العدوّ «الآخر» الذي ينتهي، وفق هذه الكيمياء أو تلك، إلى «أمّة الإسلام».
الأمّة الفعلية ربما، وليست تلك التي يحتكر تمثيلها راعٍ أسود مسربل بأناقة مفرطة سوداء!
صبحي حديدي