كشف المؤرّخ الإسرائيليّ التقدّمي وغير الصهيونيّ، د. إيلان بابيه، كشف النقاب عن أنّه في 10 آذار (مارس) 1948، وضعت مجموعة من أحد عشر رجلاً، مكونة من قادة صهيونيين قدامى وضابطين عسكريين شابين، اللمسات الأخيرة على خطة لتطهير فلسطين عرقيًا.
وتابع: في مساء اليوم نفسه، أرسلت الأوامر إلى الوحدات على الأرض بالاستعداد للقيام بطرد منهجي للفلسطينيين في مناطق واسعة في البلد، وأرفقت الأوامر بوصف مفصل للأساليب الممكن استخدامها لطرد الناس بالقوة: إثارة رعب واسع النطاق، محاصرة وقصف قرى ومراكز سكانية، حرق منازل وأملاك وبضائع، طرد، هدم (بيوت، منشآت)، وأخيرًا، زرع ألغام وسط الأنقاض لمنع السكان المطرودين من العودة إلى منازلهم، وتمّ تزويد كل وحدة بقائمة تتضمن أسماء القرى والأحياء المحددة كأهداف لها في الخطة الكبرى المرسومة، وكانت هذه الخطة، التي كان اسمها الرمزي “الخطة دالت” هي النسخة الرابعة والنهائية من خطط أقل جذرية وتفصيلاً عكست المصير الذي كان الصهاينة يعدونه لفلسطين، وبالتالي لسكانها الأصليين، كما قال بابيه.
وفي هذا السياق، أعدّ الكاتب والباحث العربيّ-الفلسطينيّ، راجي الصوراني، ملخصًا لكتاب “التطهير العرقي في فلسطين”، من تأليف د. ايلان بابيه، وهو مؤرخ تقدمي إسرائيليّ، تميزّ بوضوح تحليله وموقفه الرافض للحركة الصهيونية وممارستها العنصرية البشعة، خاصة فيما يتعلق بتنفيذها لعملية التطهير العرقي التي أدت إلى قتل وتشريد وطرد ثمانمائة ألف فلسطيني من وطنهم تحولوا منذ منتصف عام 1948 إلى لاجئين.
وبرأي الصوراني، فإنّ الفكرة المركزية التي أكد عليها بابيه في كتابه هذا، تقوم على أنّ عملية التطهير العرقيّ، قد تمّ التخطيط لها بصورة مسبقة وواعية عبر شبكة مترابطة وتنظيم محكم وأوامر صريحة وواضحة تنطلق كلها من فلسفة الحركة الصهيونية وممارساتها المرتبطة، بصورة كلية، بالرؤية والمخطط الرأسمالي العالميّ باعتباره صاحب المصلحة الرئيسية في قيام دولة إسرائيل في بلادنا، من هنا جاء كتاب بابيه ليفضح بالوثائق دور الحركة الصهيونية وعنصريتها ووظيفتها وتحالفاتها، وذلك ارتباطًا بموقفه الصريح المعادي للحركة الصهيونية والامبريالية الأمريكية وكل أشكال العنصرية والاضطهاد، دون أن يعني ذلك موقفًا صريحًا منه ضد وظيفة دولة العدو ومبرر وجودها في خدمة النظام الرأسمالي من ناحية، أوْ مع قيام دولة عربية ديمقراطية علمانية في فلسطين من ناحية ثانية، رغم تأكيده على فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة، إسرائيل، في ضوء المأزق المسدود الذي وصل إليه حل الدولتين. لكننا، أضاف الصوراني، في كلّ الأحوال نقدر عاليًا، وبموضوعية واحترام كبيرين، انحياز المؤلف، المؤرخ اليهودي الألماني الأصل بابيه لرؤية ورسالة اليسار التقدمي رغم ما يشوبها من نزعة مثالية طوباوية، حينما يتحدث في كتابه أنّ إسرائيل لا خيار أمامها سوى أنْ تتحول طوعًا في يوم ما إلى دولة مدنية ديمقراطية، أوْ حينما يتمنّى لو أنّ جامعة تل أبيب قامت بتقدير قيمة الأملاك الفلسطينية التي فقدت في دمار 1948 بما يوفر إمكانية العمل من اجل السلام والمصالحة.
وفي المقابل، أضاف الصوراني، فإنّ غشاوة هذه النزعة أو المنهجية المثالية تتلاشى حينما يستنتج بابيه بحق أنّ هدف المشروع الصهيوني كان دائماً بناء قلعة بيضاء غربيّة في عالم أسود عربيّ والدفاع عنها، وهي رؤية تجسد موقفه الشجاع ضد الحركة الصهيونية وممارساتها منذ نشأتها وتطورها في بلادنا، الأمر الذي دفعه إلى مغادرة إسرائيل والعودة إلى أوروبا عام 2007 بعد أنْ أدرك – كما يبدو – أنّ الإنسان اليساري الملتزم بمبادئه، لا يمكن أنْ يدافع عن الظاهرة ونقيضها في آن واحد، بمعنى أنّه لا يمكن أن يكون صهيونيًا ويساريًا في آن، إلا إذا كان انتهازيًا كما هو حال الأغلبية الساحقة من لوحة اليسار اليهودي في إسرائيل، إذ أنّ اليهودي اليساري (من مختلف الأصول والجنسيات) هو فقط من يرفض المساهمة في اغتصاب فلسطين واضطهاد شعبها من ناحية، ويرفض الدور الوظيفي لدولة إسرائيل في خدمة النظام الامبريالي الرأسمالي من ناحية ثانية، وهو أيضًا من يرفض الإقرار بوجود قومية يهودية أوْ شعب يهودي، ما يعني بوضوح، شدّدّ الصوراني، على أنّ دولة إسرائيل نشأت وتأسست وفق مشروع رأسمالي امبريالي توسعي حُدد لها وظيفتها منذ البدايات الأولى للفكرة الصهيونية التي تلحفت أو تذرعت، كما تذرع النظام الرأسمالي أيضًا، بالفكرة الدينية أو “التوراتية” لتضم في إطارها فسيفساء واسعة من أجناس بشرية، من أصول غربية وشرقية، من أوروبا وأمريكا وروسيا واسيا وإفريقيا، لا وجود لأي رابط اجتماعي أو تاريخي بينهم، ويستحيل انصهارهم في مجتمع متجانس أو قومية واحدة، لكنّهم التقوا جميعًا بدوافع ومنطلقات وأهداف تعددت فيها الدرجات والوسائل والغايات، لخدمة المشروع الرأسمالي العالمي الذي حدد هدفه الاستراتيجي من إقامة هذه الدولة: إسرائيل تحقيقًا لوظيفة استهدفت وما زالت، اغتصاب بلادنا فلسطين أولاً، ثمّ الإسهام في إبقاء تطور شعوبنا العربية محتجزًا في إطار من التبعية والتخلف والخضوع كما هو حالنا اليوم، حفاظًا على المصالح الامبريالية في وطننا العربي بما يضمن استمرار الهيمنة على مقدراتنا وثروات شعوبنا ويحول دون تطورها أو استنهاضها، ذلك، أضاف الصوراني، هو الدور الوظيفي لدولة العدو الإسرائيليّ التي تحولت اليوم إلى دولة امبريالية صغرى تغذيها وتدعمها الامبريالية الأم، أيْ الولايات المتحدة الأمريكية.
وأضاف، اعتمادًا على كتاب بابيه، ذلك هو هدف عملية التطهير العرقي الذي مارسته الحركة الصهيونية على أبناء شعبنا الفلسطيني عشية 15 (أيار) 1948 أوْ النكبة الأولى، التي تؤكّد مقدماتها ونتائجها أنّ الصراع منذ اللحظة الأولى كان صراعًا عربيًا صهيونيًا.