بعد تصعيد وتصعيد مضاد، بلغ التصعيد الإعلامي بين أنقرة وبغداد ذروته؛ حين رد الرئيس التركي على رئيس الوزراء العراقي بالقول: "سنفعل ما نشاء، وعلى العبادي أن يلزم حده".
وجاء رد أردوغان بعد تصريح للعبادي، تعجب فيه من بقاء القوات التركية في معسكر بعشيقة. وحين قال: "إننا لن نسمح للقوات التركية بتطهير الموصل". واقترح "ألا تتحرك القوات التركية المتواجدة في معسكر بعشيقة من أماكنها".
وورد في رد أردوغان ضد العبادي: "أقول له أنت لست ندي ولست بمستواي، وصراخك في العراق ليس مهما بالنسبة لنا على الإطلاق، فنحن سنفعل ما نشاء، وعليك أن تعلم ذلك، وعليك أن تلزم حدك أولا"، على حد قوله.
فرد العبادي فورا على تصريحات أردوغان، عبر صفحته في وسائل التواصل الاجتماعي قائلا: "لسنا نداً لك وسنحرر أرضنا بعزم الرجال وليس بـ "السكايب"، ثم حذف رده المكتوب بعد ساعات.
كما ردت "هيئة الحشد الشعبي" على تصريحات أردوغان، وقالت في بيان: "سنعرف من الذي سيلزم حده ويسحق خده؟". وقال أوس الخفاجي زعيم لواء ابو الفضل العباس إن "شركات ومصالح تركيا في العراق أصبحت في خطر بسبب تصريحات أردوغان التي أهان بها العبادي".
وبلوغ مستوى التصعيد والتصعيد المقابل ذروته ينبئ بمخاوف حقيقية قد يتحسب لها الطرفان والمنطقة والعراق والعالم على أبواب تحرير الموصل. ومن هنا يحتدم الخلاف بين الطرفين في الموصل حول أجندة المعركة والأطراف المشاركة فيها، والتي ستحدد بالتأكيد نتائج وتداعيات مفتوحة على العراق والمنطقة.
فتركيا من جانبها ترى أنها مستهدفة بالصراع الطائفي في العراق، ولذلك تحذر أنقرة بغداد من الاستعانة بالمجموعات "الإرهابية" في معركة الموصل المرتقبة. فقد قال أردوغان أمس الأول (11/10/2016): "سنشارك في معركة الموصل بغض النظر عن رأي العراق، وإن تركيا لا تتحرك بأوامر من أحد ولا يحدد واجباتها أحد".
وأكد أردوغان أن "السبب في الهجمات غير اللائقة على تركيا هو لأننا سنغير توازنات المنطقة". وأضاف الرئيس التركي: "كانت لنا مبادرة تفجير فقاعة "داعش" في جرابلس، ونحن مصممون على تفجير فقاعة الصراع الطائفي في الموصل، والتي تهدف إلى إغراق العراق والمنطقة في النار".
ولعل كلمات أردوغان الاخيرة تعبر عن حقيقة الهدف التركي، وسر إصرار تركيا على عدم الانسحاب من بعشيقة، وعلى عدم السماح لـ"لحشد الشعبي" بالمشاركة في معركة الموصل. كما أن إعلان تركيا عن أجندتها السياسية بوضوح يفسر إصرارها الذي لم تعرف به من قبل.
فقد عرفت المنطقة تركيا بأنها قوة اقتصادية ودبلوماسية ناعمة، وأن سياسة "صفر مشكلات" مع الجيران هي عمود سياستها الخارجية.
لكن يبدو أن تداعيات الفاصلة التاريخية التي تمر بها المنطقة منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، ثم احتلال العراق، مرورا بالربيع العربي، ثم سقوط الموصل بيد "داعش" وظهور "الحشد الشعبي"، ثم انقلاب 15 تموز/يوليو الماضي – كل ذلك دفع تركيا إلى تغيير بوصلتها.
ولعل تركيا اكتشفت أن موقف المتفرج الذي مارسته خلال السنوات الـ 13 الماضية لم يعد كافيا لوقف تداعيات الزلزال الجيوسياسي، الذي ضرب العراق والمنطقة. وأنها إن لم تكن ضيفا على المائدة الدولية في الموصل، فإنها ستتحول إلى وجبة طعام تلتهمها القوى المتصارعة، وأن أحداث المئة سنة الماضية التي أدت الى زوال الدولة العثمانية قد تتكرر مرة أخرى، وأن من
لن تكون له كلمة في نينوى، لن تكون له كلمة في كركوك؛ ومن لن تكون له كلمة في كركوك لن تكون له كلمة في عراق ما بعد الموصل.
فالعراق الذي سلمته تركيا في لوزان 1923 موحدا بعد 400 عام من حكمها له، تبدد شمله في 13 عاما. والموصل التي سلمتها تركيا موحدة في اتفاقية أنقرة 1926 أصبحت مشتتة بين "داعش" و"حزب العمال الكردستاني" و"الحشد الشعبي". ومن هنا قالت: تركيا كفى! ومن هنا انتقد أردوغان اتفاقية لوزان 1923.
من الجانب الآخر، فإن بغداد المنقسمة على نفسها قد ترى أن العراق بعد تحرير الموصل قد يصبح شبيها بألمانيا بعد تحرير برلين في 1945 كما ورد في تشبيه لأحد الكتاب العرب. ودليل انقسام بغداد تجده في خطاب "الحشد الشعبي" الأعلى والأشد من خطاب حكومة بغداد.
وكأن "الحشد الشعبي" يدافع عن نفسه وليس عن الموصل. فقد يواجه مرحلة لا يكون لأحد حاجة به بعد رحيل "داعش". وكأن ضغط تركيا على العبادي يهدف إلى دفعه لكي يتحرر من سطوة "الحشد الشعبي". ومن هنا يتحزم أكثر من طرف بأكثر من طريقة لاحتواء تداعيات معركة الموصل.
وبعيدا عن خطاب "الحشد الشعبي"، فلعل العبادي يرى أن معركة الموصل التي اجتمعت لتحريرها أكثر من 63 دولة لا تشبه بأي حال من الأحوال معركة تحرير الرمادي أو الفلوجة أو بيجي أو تكريت. وأن تداعيات معركة الموصل إن لم تتحزم بغداد لها، ستصيب كركوك وبغداد والبصرة.
ومن هنا، ربما جاء اتفاق أربيل وبغداد برعاية أمريكية لتقوية مركز العبادي في بغداد على حساب خصومه داخل تحالفه الوطني وعلى رأسهم المالكي. ومن هنا أيضا، قد يكون قرار المحكمة العليا بإلغاء قرار إلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية ليخدم المالكي بعد سلسلة خطوات على حساب خصومه داخل وخارج تحالفه الوطني.
والسؤال: هل تستطيع واشنطن حليفة أنقرة وبغداد أن تجمع بين أردوغان والعبادي كما جمعت بين العبادي وبارزاني؟ وهل سيتحرر العبادي من ضغط "الحشد الشعبي"؟ - أسئلة نترك الإجابة عليها لمسار الاحداث المتسارع على أبواب معركة الموصل الدولية.
عمر عبد الستار