يصف روبرت فيسك الاعلام المعاصر بجريمة القرن العشرين، لأنه أصبح كالعصا السحرية التي تتحكم بالعقول، وتوجهها لتبني مختلف المواقف، بل أصبح للإعلام قدرة على خلق واقع وهمي جديد لا يمكن أن تراه الا من خلال الإعلام.
جسد الفيلسوف جان بودريار في أطروحته( موت الواقع ) الواقع الذي نعيشه اليوم، والذي هو أقرب إلى الوهم منه للحقيقة ، الكثير من المعطيات الحالية عندما نقارنها بأرض الواقع نكتشف أن الواقع مصطنع، ونصل أحيانا الى نقطة مفادها انه لا توجد أسباب حقيقية لكل ما تثيره الوسائل الإعلامية من حروب اقتصادية، ومخاوف أمنية وصحية، وما نعيشه ليس سوى حروب وهمية، تهدد عقولنا صنعتها آلة الاعلام لتخدم اجندات مختلفة تنصب كلها لصالح الأقوى الذي يقدم نظرته، وفكره في ثوب الحقيقة تارة، وفي الحرية تارة أخرى.
فنحن أجيال اعتادت على التلفاز والسينما، و الانترنت لتشكيل أفكارنا، واتجاهاتنا ومبادئنا، وفلسفاتنا الحياتية، لقد تعودنا على اجتراع الوهم لمداوة النقص، والهروب من الواقع ، ومن طبيعة عقل الانسان أنه يميل أكثر الى تلقي الخرافة، والوهم، وتصديق المجهول، وما ورائيات ، والامر لا يتوقف عند مستوى تعليمي، أو ثقافي، أو اقتصادي معين، فكما سكنت الخرافات المجتمعات القديمة نجدها أيضا تسكن المجتمعات المتطورة، بل أن الانفتاح ساهم في نشر الوهم، والخرافة بشكل أوسع، وأسرع .
فالمتتبع لواقع الإعلام بشكل عام يجد أن الاعلام يحارب كل ما هو جاد، ومفيد لصالح تنوع هائل في البرامج الترفيهية بالرغم من ارتفاع نسب المتعلمين حول العالم، هذا التسطيح الفكري ساهم بشكل كبير في خداع الجمهور، والترويج للوهم ، فدغدغة المشاعر الإنسانية في خدمة الاعلام الموجه يتضح جليا في صناعة الأخبار المفبركة، والمبالغ فيها، وترتيب الأولويات الخبرية .
إن العقلية العربية أكثر من غيرها تقبلا للوهم، والمبالغات، لأنها تربت، وترعرعت على خطب الحماسة، وفلسفات جوبلزية، و امجاد الماضي، وانجازات الأجداد وعلى البحث عن المنقذ الذي ينتشلهم من الواقع المرير ، والحلول السحرية لأية مشكلة أو معضلة حتى وان كانت كسورا لا يمكن جبرها، ان العقلية العربية لم تتجاوز مرحلة الواقع الحالي وما يتطلبه من عمل، واجتهاد وتخطيط بعقلية تتوافق مع معطيات حقيقية، فالمجتمعات التي تعيش على منجزات من التاريخ لا تصنع حضارة، بل تعيد صياغة وتوضيب أمجاد الأجداد في ثوب جديد فارغ من المحتوى .
فالسيكولوجية العربية المتأثرة بإيحاءات الإعلام، وواقعه الحضاري تقبلت الأحداث بظاهرها الدراماتيكي التهويلي المفبرك ،فمن المضحك، والمبكي في آن واحد، أن نرى الإعلاميين على صفحات الجرائد وخلف الميكرفونات، وأمام شاشات الفضائيات يهولون، ويفبركون الاحداث بعيدين كل البعد عن المهنية، واحترام عقلية المشاهد والمتلقي ، فعلى سبيل المثال، تلقف المثقفون، والاعلاميون العرب لحادثة رمي الحذاء على بوش الرئيس السابق للولايات المتحدة، فقد كان من التهويل أن البعض عد الإنجاز المحقق (رمي الحذاء) بداية تداعي الولايات المتحدة !! وانتصارا لحرية التعبير!!، ومن أوجه استخفاف لعقول الجماهير تفسير أحد الإعلاميين لإحدى الظواهر الطبيعية (تكاثر قناديل البحر في دوله ما) على انها مؤامرة من دوله أجنبية لضرب السياحة !! .
من أشهر أدوار الدعاية السياسية صناعة الوهم، والترويج له عبر وسائل الاعلام، والاتصال، وعلميا أثبتت الدراسات أن الانسان يفقد القدرة على التفكير بعقلانية حينما يخضع إلى ضغوطات عاطفية، وإنسانية شديدة، ويتقبل بكل سهولة أي مبالغات، أو أوهام لا يقبلها العقل دون أية مقاومة حتى، وإن بدت غير منطقية .
أتفق مع باولو فرير إن محاولات تضليل عقول البشر هي أداة للقهر فما ينشره الاعلام من مواد، وأفكار أراء ما هي الا قوالب تم تشكيلها مسبقا للتأثير على عقول المتلقيين وتوجيههم إلى واقع جديد صنعه النخبة في المطبخ الاخباري، والإعلامي وتجييش عدد من الوسائل الإعلامية والاعلامين لبث اخبار معينة وفي توقيت واحد لكسب ثقة المتلقي ،و تعبئته، ودغدغه مشاعره وتشكيل وجهات نظره اتجاه قضايا بعينها .
فما يقوم به الاعلام في الغرب، والشرق ما هو الا برمجة للعقول، وتكريس ثقافة القطيع لبناء مواقف متسقه مع أجندات معينة، أو مؤسسات بعينها الا أن أطرف ما في أمر الاعلام العربي انه يصنع الوهم، والتشتت بفقدانه للبوصلة ومواقفه المتغيرة بسرعة الضوء، فمن المؤسف حقا أن يتم تناول الأحداث الاجتماعية، والسياسية الجادة، التي تمس شريحة كبيرة من المجتمعات العربية من منظور فلسفي قاصر أو ديني مشوه، أو علمي مزيف أو مبني على مصادر مجهولة دون الأخذ في الاعتبار تبعات هذا الضخ الإعلامي غير المتوازن على اتجاهات الجمهور، ومواقفهم، وكان لنا شواهد عديدة على تأثير السلبي للإعلام في الترويج عن الأفكار المتطرفة، وتشجيع الشباب على أعمال العنف .
ان غياب الوعي والشفافية والاعلام المهني في المجتمعات العربية يزيد من مخاطر الاعلام الموجه بأجندات خارجية التي توظف كافة النظريات الإنسانية والنفسية والتقنية لتوجيه الرأي العام فكثير ما شاهدنا التفاعل الجمهوري مع القضايا العالمية علما ان اغلب تلك القضايا هي في اطار الحروب الإعلامية.
اننا في مأزق ان لم نتقن استخدام الاعلام ووسائل الإعلامية الحديثة لموجهة التضليل الإعلامي بالإعلام المحلي المضاد من خلال (التخلية) أي توعية الجمهور بالكشف عن أساليب التضليل الإعلامي ومن ثم ( التحلية ) أي تأسيس اعلام موحد وبزخم من أجل إعادة اللحمة بين أبناء المجتمع والترويج كل من شأنه توحيد المجتمع وبناء اعلام نزيه ومتوازن.
ان الثقة العمياء في الاعلام هو ما يجب ان نواجهه وان نتعامل معه من منظور الوعي وعدم التسرع في اطلاق الاحكام والتفاعل مع المواقف لان تبني المواقف من دون تفكير يشكل خطورة على المستقبل واحيانا يقطع طريق الرجعة، ونحن اليوم احوج إلى تفكير مستقل للإفلات من مصيده القطيع الموجه من الميكنة الإعلامية الخارجية .
ولا اجد نفسي الى ان عدت أعوام كثيرة الى مقاعد الدراسة وببراءة الطالبة المتحمسة للإعلام سألت استاذي المبجل كم من الأعوام نحتاج حتى نتمتع بإعلام نزيه ومحايد ومتطور ؟ لم يصمت كثيرا واجابني بهدوء وثقة ليس كثيرا فقط مئة عام ـ حينها استنكرت اجابته واعتبرته مبالغا ومتشائما لكنني ومع كل المتغيرات الحالية اعتقد ان مئة عام نظرة متفائلة جدا لواقع يزداد تعقيدا وأختم بمقولة شهيرة لونستون تشرشل خلال الحرب العالمية الثانية قال فيها ان الحقيقة ثمينة جدا إلى درجة أنه يجب حمايتها بموكب من الأكاذيب !
كاتبة وباحثة عمانية