لم يثر تعيين رئيس الحكومة الجديد في الجزائر عبد المجيد تبون في البداية حماس المراقبين والمتابعين للشأن السياسي الجزائري، واعتبر التغيير كأنه لا حدث وأنه مجرد تغيير لديكور سياسي مستمر منذ سنوات، رغم أن إزاحة عبد المالك سلال اعتبر مفاجئا على اعتبار أنه بدأ مشاورات بعد نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة وهو ما قرأ في حينه على أنه ضوء أخضر له لمواصلة قيادة الجهاز التنفيذي.
غير أن تعيين عبد المجيد تبون كشف فيما بعد عن استراتيجية جديدة على ما يبدو في أعلى هرم السلطة تعتمد على تغيير بعض الوجوه وتحييد البعض الآخر في محاولة لإحداث قطيعة مع ما حدث خلال السنوات الأخيرة لا سيما الولاية الثالثة ونصف الولاية الرابعة من حكم بوتفليقة وذلك تحضيرا لمرحلة جديدة تمهد للانتخابات الرئاسية لعام 2019، وهي انتخابات بدأت تحوم الشكوك في إمكانية ترشح الرئيس الحالي لولاية خامسة بالنظر لوضعه الصحي وشبه استحالة قيامه بحملة انتخابية وربما لأنه قرر التخلي عن الحكم ولكن بترتيب الأمور لخليفة له قد يكون شقيقه السعيد الذي تشير بعض الأوساط إلى إمكانية تشكيله لحزب سياسي والترشح خلفا لشقيقه وهو أمر يصعب التأكد منه كون الأخير لا يفصح عن نواياه ولا يدلي بأي تصريح صحفي.
ما يجري هذه الأيام يثير الكثير من التساؤلات، بداية من تصريحات تبون التي أطلقها منذ مجيئه وأهمها ضرورة إبعاد المال عن السياسة، ثم العودة على بعض قرارات حكومة سلال، ثم تغيير طريقة التعاطي مع الإعلام.
بالنسبة لإبعاد المال عن السياسة فإن الطلاق بات واقعا بين رجل الأعمال ورئيس البانرونا (منتدى رؤساء المؤسسات) علي حداد والسلطة، آخر حلقة في هذا المسلسل إرسال مجموعة من الإنذارات لشركاته تتعلق بالتأخر في تنفيذ بعض المشاريع الموكلة لها وهو أمر لم يحدث من قبل وفهم على أنه إبعاد لرجل الأعمال من الدائرة الضيقة للسلطة والتي مكنته من الاستحواذ على مشاريع ضخمة ومن السيطرة على منتدى رؤساء المؤسسات مستثمرا فيما يشاع من قربه من شقيق الرئيس، وقبل تلك الإنذارات كانت حادثة أخرى قد أسالت الكثير من الحبر وتمثلت في رفض تبون لقاء حداد خلال معاينته لإحدى مدارس التكوين بالعاصمة وهو ما دفع برجل الأعمال للانسحاب قبل وصول رئيس الجهاز التنفيذي، هذه القرارات يعتبرها المقربون من سرايا النظام قرارات فوقية وأن تبون ما هو إلا منفذ لما تم تقريره.
قبل ذلك كانت تقارير إعلامية قد تحدثت عن ملفات فساد تورط فيها وزير الصناعة السابق في حكومة سلال عبد السلام بوشوارب بلغت قيمتها 70 مليار دينار وأن مصالح الأمن بدأت التحقيق في القضية، بوشوارب الذي كان أحد الشخصيات المهمة في الحكومة السابقة وآثار إبعاده تساؤلات كثيرة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه إلى إبعاد مدراء مركزيين كانوا يشتغلون معه كما تمت مراجعة بعض القرارات التي اتخذها قبل رحيله.
مؤشر ثالث على وجود تحرك على مستوى أعلى ومراجعة للسياسات السابقة هو ما أثير حول مشاركة السعيد بوتفليقة في وقفة احتجاجية ضد قناة النهار بسبب بثها لحلقة من الكاميرا الخفية وهي حلقة اعتبرت إهانة للكاتب الجزائري الكبير رشيد بوجدرة، قناة النهار ومن خلال مديرها أنيس رحماني واسمه الحقيقي محمد مقدم اعتبرت على أنها قناة مقربة من النظام.
وتتحدث باسمه وحضور شقيق الرئيس في وقفة احتجاجية ضدها اعتبره الجميع بمثابة رسالة مفادها أن السعيد بوتفليقة ومن ورائه الرئاسة لا تربطه علاقة بالقناة وبأنه أخلى ذمته مما يشاع حول هذه العلاقة، أكثر من ذلك فقد رشحت بعض الأخبار مفادها أن الإمبراطورية الإعلامية التي بناها أنيس رحماني بدأت تتهاوى وأن تحقيقات قد تكون بدأتها مصالح الاستعلامات للتحقق من مصدر ثروة محمد مقدم التي جمعها في ظرف قياسي لم يتجاوز التسع سنوات، خبر إذا تم تأكيده فهو يعني أن شيئا ما بدأ يحضر وأن محيط الرئيس وعلى رأسه الشقيق الأصغر السعيد بوتفليقة بدأ يفكر في استراتيجية جديدة للحفاظ على الحكم أو لنقل للبقاء في الحكم ولكن بالاعتماد على أسلوب جديد ووجوه جديدة قد تعيد الثقة المفقودة مع الجزائريين وإنهاء عهد التحالفات الهشة التي تعتمد على المحاباة وسطوة المال والولاء مقابل منافع مادية.
تحالفات قد تمتد إلى الأحزاب السياسية المعارضة، فقد كشف تبون عن نية الحكومة إجراء حوار مع المعارضة في محاولة لامتصاص الغضب والتقليل من النتائج السلبية التي أفرزتها الانتخابات التشريعية الأخيرة التي أبانت عن هوة عميقة بين السلطة والمواطن الذي قاطع التصويت ووضع من يحكمون في حجمهم الطبيعي وهو أنهم لا يمثلونه ولا يمثلون انشغالاته وطموحاته، كما أن الخطوة قد تكون محاولة أيضا لتغيير التحالفات التقليدية التي أبانت عن ضعف كبير ورؤية سياسية ضيقة من خلال ما يعرف بأحزاب الموالاة التي دخلت في صراعات هامشية لاتخدم السلطة، بل وارتكبت باسم الرئيس أخطاء اضطر لتصحيحها.
خلافة بوتفليقة باتت منذ سنوات مسألة شائكة ارتبطت بموازين القوى على المستوى الداخلي وبالوضع الإقليمي والدولي على المستوى الخارجي.
فبالنسبة للداخل اتضح جليا أن بوتفليقة ومحيطه ممسكون جيدا بركائز السلطة خاصة بعد إحالة الجنرال توفيق على التقاعد وحل مديرية الاستعلامات والأمن واستبدالها بجهاز جديد يتبع مباشرة لرئاسة الجمهورية.
على المستوى الخارجي إعادة انتخاب بوتفليقة لولاية رابعة العام 2014 لم تغير تعاطي شركاء الجزائر مع الحدث بل رحبت أغلب الدول بنتائج الانتخابات ولم تؤثر الانتقادات الداخلية على مجريات الأحداث.
بات واضحا أن هناك تفكير جدي في بعث روح جديدة في أسلوب الحكم وأن الوقت قد حان لاستباق أي طارئ قبل موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، والسؤال هو هل سيقدم السعيد بوتفليقة على تشكيل حزب سياسي جديد يعتمد عليه للترشح لخلافة شقيقه أو ترشيح من يراه أنسب للحفاظ على الحكم، أم أنه سيواصل الاعتماد على حزب جبهة التحرير الوطني يإحداث تغيير على رأسه وإنهاء الاعتماد على الوجوه القديمة باستبعاد كل ما يشير إلى المرحلة السابقة.
ليس سهلا معرفة ما يختمر في ذهن من يحكمون ومن يسدون المشورة للرئيس ومحيطه ولكن بات واضحا أن مرحلة ما بعد عبد العزيز بوتفليقة بدأت وأن الترتيبات الأولى وضعت في انتظار المرور للسرعة القصوى على اعتبار أن الوقت لم يعد كافيا لتحضير الانتخابات المقبلة، قد يكون الانتقال بتسليم السلطة لمحيط قريب من الرئيس ولشخص يختاره بوتفليقة من شأنه أن يحافظ على مصالح المقربين منه وأعوانه ومن هم محل ثقة ولكن بأسلوب مغاير يفرض إجراء إصلاحات عميقة لا سيما ما يتعلق بالمعارضة والتداول على الحكم وإصلاح العدالة وإعادة النظر في التوجهات الاقتصادية الكبرى في ظل تهاوي أسعار النفط، أو يمكن أن تسلم السلطة لشقيق الرئيس أو بالأحرى يرثها وهو ما لم يعد مستبعدا بحكم ما وصلت إليه البلاد وما ترتب عن ضعف المؤسسات وتدجين للمعارضة وإضعاف لمكوناتها، كما أن الظرف الدولي مناسب جدا ويمكن لشقيق الرئيس أن يترشح بكل أريحية إذا ما عرف كيف يتخندق في صف من يرفضون الوجوه القديمة التي سطت على الحكم لعقود عدة وابتلعت ثروات الجزائريين، فالجزائري اليوم وبالنظر لما يحدث عند جيرانه وغير بعيد عن حدوده، لا يعير الاهتمام لمن يحكم بقدر ما يبحث عن الاستقرار وعدم عودة البلاد إلى ما جرى في تسعينيات القرن الماضي.
والسؤال المطروح اليوم هو: هل سيفعلها الأخ الأصغر لبوتفليقة ويخرج إلى الأضواء دون حرج معلنا عن نيته خلافة أخيه، أم سيكشف عن مرشح يدعمه ويدفع به نحو قصر المرادية؟ سؤال الإجابة عنه لن تطول كثيرا فالوقت لم يعد كافيا للتفكير وأكيد أن القرار اتخذ ولم يبق سوى التنفيذ.
عبد الحكيم زموش
فرانس 24