جهاديون مسيحيون.. ضد طاغية إنكليزي
الثلاثاء, 17 يونيو 2014 22:21

عبدالواحد الأنصاري

عبدالواحد الأنصاري

يقول أبو العلاء: «ما أرانا نقول إلا رجيعاً ** ومعاداً من قولنا مكرورا».

ويبدو أنه ليس القول ما يعاد فحسب، وإنما الأفعال أيضاً، بما في ذلك إشاراتنا (كما يصرّ كونديرا في روايته «الخلود») كلها تعاد وتتكرر.

غالباً ما نتعامل مع أحداث يعيد فيها التاريخ نفسه وكأنها من ابتكارنا المعاصر، نتحدث في الأوساط العربية عن سطوة الدين على الدولة، وكأننا أنتجناها بالأصالة، بيد أن التاريخ، حتى الأدبي منه، يعيد نفسه في هذه الجملة، ليخبرنا كم نحن مكرورون.

على سبيل المثال، في الأنشودة الـ27 من المطهر، الجزء الثاني من الكوميديا الإلهية، يقرر دانتي:

- أن السلطة كانت سلطتين، سلطة البابا، وسلطة الإمبراطور.

- أن سلطة البابا اعتدت على سلطة الإمبراطور، وانتشر الاستبداد.

هذا الكلام يقرره دانتي في بداية القرن الـ14 الميلادي.

فالفكرة مفادها بأننا ننسى أننا متكررون في التاريخ حتى في مقولاتنا وميولنا، ليس لأن التاريخ نفسه المتكرر، ولكن لأن الإنسان لا يزال هو الإنسان، بكل زلاته وأخطائه المتكررة التي لا يتعلم منها.

مثال آخر يجري أمامنا في سورية:

في الوقت الذي يُتَّهم المسلمون بأنهم يشرّعون للجهاديين المتطرفين الدمويين التدخل في شؤون الدول والاستعانة بهم لتحرير الشعوب، فإن هذا الأمر في الحقيقة، وإن كان واقعاً، فإنه ليس سبكاً إسلامياً أصيلاً، بل سبق أن حصل في العالم المسيحي.

اتفاقيّة «ماغنا كارتا» أو «حرب البارونات»، أبرمت بين البارونات الثوّار وبين الملك جون مليك إنكلترا في القرن الـ13 الميلادي، وكان سبب الثورة أن الملك جون خسر حرب فرنسا، ووضع البلاد في ضرائب أدت إلى حال اقتصادية سيئة، فثار البارونات عليه، ونتيجة حرب ثلاثة أعوام أفنت جيشي الملك والبارونات، اضطر الملك إلى توقيع اتفاقية التي تحد من صلاحياته، ثم نقض الملك العهد والاتفاق، فاستغاث البارونات برجال المعبد الأشاوس العائدين من الحملات الصليبية في الشام، لتحقيق العدالة في بلادهم الإنكليزية، وإنقاذ الشعب من الطاغية الإنكليزي.

إنني الآن لا أقرأ من التاريخ العربي والإسلامي المعاصر، بل من التاريخ الإنكليزي قبل سبعة قرون، عن تحالفات البارونات القدماء مع فرسان المعبد ضد الطاغية الإنكليزي، وليس عن تحالفات وجهاء سورية وتجارها اليوم مع جبهة «النصرة» ضد نظام بشار.

هذه القصّة لم ترد فقط في كتب التاريخ ولا في تاريخ السياسة فحسب، بل إن السينما الأميركية خدمت هذه القصة وأنتجت منها فيلماً بعنوان: «إيرون كلاد»، وتصور أحداث الفيلم التاريخي شبه الوثائقي كيف أن الملك الإنكليزي غضب أشد الغضب من إجباره على توقيع وثيقة تقلل من صلاحياته، على رغم أنها تنص على بقائه في الحكم.

تعاقَد الملكُ جون مع غزاة آخرين وثنيين أجانب أسكندينافيين، وخلال انتقامه شنق البارونات وقطع ألسنة القساوسة، وهو ما اضطر الكهنة الذين تحالفوا مع البارونات إلى السعي إلى الاحتماء والتحصن ضد ضربات الملك الغاضب.

والآن، وبما أن الفكرة اتضحت، فعلينا أن نستشرف المستقبل من خلال استعراض الماضي:

لم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل إضافة إلى اتحاد البارونات مع المقاتلين الصليبيين ضد مليكهم فإنهم أيضاً لم يستنكفوا عن الاستعانة ضد حاكمهم الإنكليزي بعدوّهم التقليدي: فرنسا التي قامت الثورة في الأساس رد فعل لفشل الملك في محاربتها، لكن بما أن الثورة تفقد المنطق في آخرها، كما يقول أحد الكهنة: «يصعب التفريق بين الثورة والانتقام في شيء»، وبما أن الأمر كذلك، فإن العدوّ اللدود ينقلب صديقاً، ويصبح الإنكليز من طبقات شعبية مختلفة ومقاتلين صليبيين وبرجوازيين. كل أولئك في مدينة تشستر يصبحون وهم ينتظرون قدوم الفرنسيين على أحر من الجمر لإنقاذهم من مليكهم، وأثناء ذلك تسير الأحداث متسارعة.

كل هذا ونحن نقرأ في التاريخ الإنكليزي وفي الكتابات التاريخية والآداب والفنون التي خدمت ذلك التاريخ ووثّقتْ له.

وعموماً: ليس التاريخ من يعيد عارَه، وإنما الإنسان هو من يفتن في التاريخ المرات تلو المرات، ويكرر الوقائع والأخطاء نفسها… وإلى الله المصير.

 

* نقلا عن “الحياة” اللندنية

فيديو 28 نوفمبر

البحث