زهاد العصر.. ذكرياتي مع الشيخ محمد الجزائري
الثلاثاء, 15 أكتوبر 2013 20:56

زهَّادُ العصر.. ذكرياتي مع الشيخ محمد الجزائري الثلاثاء 15 تشرين الأول (أكتوبر) 2013   alt الدكتور عبدالله بيَّانَلا شك أن السيطرة المادية على حياة المجتمعات الحديثة و تشيؤ القيم و الأخلاق الإنسانية، تجعل الكلام عن

الزهد أقرب إلى قصص الخيال، (التي تُروى و تُتداول بين الناس، و لكنها تظل بعيدة عن الواقع المعيش). لكنني، و رغم "الزهد" في أهمية هذا النوع من الحديث عند الكثيرين، أريد أن أسجل هنا جانباً من تجربتي مع من أظنه علماً من أعلام الزهد في هذا العصر؛ و قد أمضى معي الأشهر الستة الماضية في زيارة كان لها الأثر البالغ في حياتي (رغم أنني عرفته أخا و صديقاً - عن بعد - قبل ذلك بسنوات).

أولا، أريد أن أوضح أن الشخصية التي أحدثكم عنها ليست من من يرى البعض أن زهدهم في "الدنيا" ناتج عن عجزهم عن تحصيلها و بالتالي يتجهون إلى الآخرة! فشيخنا حاصل على شهادة الدكتوراه PhD NIH في البيولوجيا الدقيقة من جامعة جورج واشنطن و أحد الباحثين السابقين في المعهد الوطني للصحة في الولايات المتحدة (أهم هيئة بحثية عالمية في هذا المجال) و باحث بارز في جامعة جورجيا الأمريكية، و له براءة اختراع مسجلة لدى وزارة التجارة الأمريكية في مجال الهندسة البيولوجية (هندسة البروتينات)، و لكنك مع ذلك عندما تناديه ب "الدكتور" يرد عليك مباشرة: "محمد، محمد" وستعلم من نبرته أنك لم تناده بأحب الأسماء إليه، وعندما تستفسره عن السبب، يقول لك: "أتاني هذا الرسول الكريم بكثير من الأخلاق و الهدي الذي لم أتمسك به، فإسمه هذا الذي تسميت به - على الأقل - لن أسمح بتغييره أو التفريط فيه ما حييت"!

شيخي محمد طبعا لا يهتم بكسب المال و لا يكنزه (و هو من فُتحت له أبواب ذلك مشرَعة)، لا يهتم بأن يمتلك سيارة و لا تلفونا نقالا (و ربما استعمله نادراً للضرورة القصوى)، ليس من مشاهدي التلفزيون و لا تستهويه مجالس الحديث العام ولا نقاشات السياسة، متواضعٌ لين، يخدم الصغير بيده قبل الكبير، يقضي أغلب وقته منتبِذاً زاوية من المنزل ذاكرا و داعيا و مستغفرا (كثرة استغفاره لا تكاد تُتصور). و مع ذلك عندما تحدثه قليلا عن أمر من أمور الدنيا، "يجاملك" في البداية و بعد ذلك يضرب كفه على كفه، و يقول لك "يا فلان، شغلتنا الدنيا عن الآخرة، حسبنا الله و نعم الوكيل".

في السنوات الأخيرة أصبح يقضي جل وقته في خدمة أمه في ضاحية من ضواحي بشار بالجزائر و كما يقول: "لا يطيق أن يعيش في مكان لا يسمع فيه الآذان، بعد أن أمضى قرابة ثلاثين سنة في هذه البلاد". و لن يخفى على عارفي الشيخ أهمية الأذان في حياته، فهو إما أن تحضره الصلاة في مكان يُرفع فيه الآذان، و إلا فستمعه منه مع دخول كل وقت (في البيوت و في المكاتب و في الحدائق، و في أماكن ربما لا يخطر لك سماع الآذان بها على بال).

بعد إلحاح الكثيرين على الشيخ (و كنت أحد هؤلاء، و أرجو أن لا أؤاخذ بذلك) بتدريس علمه للطلاب و خاصة في بلاد المسلمين، قطع "خَلوته" في صحراء الجزائر للقدوم هنا لإجراء الترتيبات اللازمة لذلك، و هو ما أعطاني - لله الحمد - فرصة التعرف عليه و على هدْيِه و سمْتِه و سلوكه عن قرب.

و يبدو أن حظ التعاقد معه سيكون من نصيب إحدى الجامعات الخليجية، و لكنني لا أتوقع منه أن يُطيل المقام هناك في أوساطنا "الأكاديمية" ذات الطابع المادي، علماً بأنه تمتع في الوظائف الأمريكية التي عمل بها باحترام يصعب تصديقه، و من ذلك أن رئيس قِسمه في جامعة جورج واشنطن قرر يوما من الأيام (قبل الحادي عشر من سبتمبر طبعا) أن يطلب من زملائه تجنيب الخمر لإحدى "الحفلات" الجامعية للقسم و أن يكون للرجال مكانٌ منفصل عن النساء، حرصا على حضور الشيخ. والحقيقة أن للشيخ جِدا و بذلاً و أخلاقاً لو تحلينا بها لكان لذلك الأثر البالغ في نفوس غير المسلمين، و هذا ما أشار إليه أحد أصدقائه الأمريكيين (الذي أصبح دبلوماسيا فيما بعد) عندما كلمه مؤخراً (وقد كان قريباً من الإسلام) فقال له: سمحت لي الوظيفة الدبلوماسية الجديدة أن أزور و أتعرف على الكثير من بلاد المسلمين و وجدت أن الإسلام الذي يَدِينون به ليس هو دين محمد الجزائري!

قد أعود إلى هذا المضوع بشكل أعمق في المستقبل و أكثر تفصيلاً، و لكن خلاصة الأمر هي أن لشيخي حياةً لو تعرفتم على تفاصيلها - مع أخذ الفارق الزمكاني بعين الإعتبار - لوجدتم أنكم تعيشون مع سيرة أحد رجالات "الزهد" لابن المبارك، أو تقرأون من خلال يومياته تراجم الزهاد في طبقات ابن سعد..

غادرني في الأسابيع الماضية، و عاش بعده هذا المنزل وحشة عظيمة، بعد أن أناره و عمَره. غادره بعمق تأملاته و علمه و ورعه و تهجده؛ و هو الذي كان النائم في المنزل يحسبه ليلاً أحد أعمدة المكان من طول قيامه.