ما غاب عن تخليد ذكرى مائة سنة على وفاة الولاتي : يبّ ولد النّعمة( باحث)
الأربعاء, 26 فبراير 2014 20:50

altسنّة حسنة تلك التي عمد مركز الدّراسات والبحوث الولاتيّة إلى تنظيمها في ديسمبر2012 فتخليد ذكرى مرور مائة سنة على وفاة العلامة محمد يحي الولاتي يعني باختصار إعادة الاعتبار’ والتّصالح مع الذّات، والاعتراف بالجميل لمن كرّسوا حياتهم لنشر العلوم والمعارف والدّعوة بالتي هيّ أحسن في شبه المنطقة.

ومع أنّني لم يحالفن الحظّ في أن أشهد هذه التّظاهرة العلميّة الفريدة’ إلا أنّ اهتمامي بالتّراث جعلني أحاول تدارك الموقف من خلال هذه الإطلالة المتواضعة لأقدّم ملاحظة أحسبها جوهريّةّ ومفيدة في تصحيح المسار مستقبلا.

يتعلّق الأمر بإهمال واضح لعطاء العلامة محمد يحي الولاتي في منطقة الحوض الشّرقي، ومساجلاته العلميّة مع بعض معاصريه من علماء المنطقة، وخصوصا مع شيخ الطّريقة القادريّة الفاضليّة آنذاك شيخنا محمد الأمين ولد أحمد الجيّد القلقمي.(1)

ذلك السّجال الذي تواصل سنينا ، وكان له تأثيره الواضح على المشهدين السّياسي والعلمي في منطقة الحوض. ومع أنّه كان مطبوعا بطابع الحدّة من كلا الطّرفين إلاّ أنّ ذلك لا يمكن أن يقف مانعا دون الاستفادة منه وتسليط الضّوء على حيثيّاته وملابساته’ فهو اليوم بمثابة تراث إنسانيّ تقتضي الأمانة العلميّة الكشف عنه وتقديمه إلى المهتمّين وصنّاع الفكر والثّقافة .

يبدو أنّ السّجال بدأ بعد عودة العلاّمة محمّد يحي الولاتي من رحلته الحجازيّة وإضافته جديدا على مألوف المنطقة ’ وهو أمر دفع شيخنا محمد الأمين ولد أحمد الجيّد القلقمي إلى توجيه نصيحة عامة لفقهاء الإسلام يدعوهم فيها للعضّ بالنّواجذ على طريق التّصوّف التي تمثّل بالنّسبة له لباب العلم وثمرته ونوره وليس العلم متعلّما إلآ ليتوصّل به إليها.

رأى محمد يحي الولاتي فى هذه النّصيحة تقويضا لدعوته’ فردّ عليها بمكتوب تحت عنوان " نصيحة أولاد الزّوايا والطّلبة عن الدّخول في طريق زنادقة المتصوّفة الجهلة الكذبة" ضمّنه ثلاثة عشر فصلا’ جاء في مقدّمتها (.......هذا وإنّه ورد علينا مكتوب من عند محمد الأمين ولد أحمد الجيّد القلقمي يتضمّن في زعمه نصح فقهاء الإسلام ويحذّرهم من الإنكار على زنادقة المتصوّفة الطّغام’ منزّلا لهم منزلة أوليّاء الله الكرام ’ ويكفّر من أنكر عليهم من العلماء الأعلام ’ شحن مكتوبه من سوء الأدب مع مقام الرّبوبيّة والنّبوءة ’ وتنزيل مقام الولاية منزلة مقام النّبوءة’ بل ربّما أ شعر كلامه بأنّ مقام الولاية أعلى من مقام النبوءة فأردت أن أبيّن بطلان مافيه من المقالات الشّنيعة والتّرّهات الشّيطانية بالأدلّة النّقّابة القطعيّة النّورانيّة من كتاب الله الحكيم وسنّة نبيّه الكريم وإجماع أمّته المستقيم’ ورتّبته على ثلاثة عشر فصلا وكلّها في بيان ردّ مقالاته الضّالّة الكاذبة ’واعتقاداته الفاسدة المغويّة السّالبة وسمّيته بنصيحة أولاد الزّوايا والطّلبة عن الدّخول في طريق زنادقة المتصوّفة الجهلة الكذبة ...... )

لأنّ شيخنا محمد الأمين إذ ذاك يعدّ مرجعيّة الطّريقة القادريّة الفاضليّة فقد اّثر أبناءه ومريدوه أن يتولّو الرّدّ على محمد يحي ’ فانبرى ابنه الأكبرالعلاّمة يبّ ولد شيخنا محمد الأمين ولد أحمد الجيّد القلقمي (2)لتلك المهمّة ’ وكان أحقّ بها وأهلها . جاء كتاب ردّه تحت عنوان : "نصرة الأوليّاء وطريقة الأنبيّاء في الرّدّ على الزّنادقة الأشقيّاء المتشبّهين بالفقهاء " وهو متمثّل في قصيدة من مائة وستيّن بيتا تسمى الدّاليّة مشروحة في ستّة وثلاثين فصلا جاء في مطلعها :

ألا يا أخا الإنكار يحي متى تسدي               تجد نقض ما تسدي من المهد   للّحد

ألم يأن يا نومان من نومة الهوى                قيّام فإنّ الطّيــف   منّـاك     بالوعد

ألم يأن أن تخشى خبايا  قلوبكم                  خشوعا عن الإنكار والسّــبّ والحقد

ألا السّبّ في أسباط سبطي محمد               حقيق به الحرمان مـــن جنّــــة الخلد

لقد غـــرّك الغرور أنّـــا  د يّارنا                من أسباطها خلت وأن ليس من عضد

بلى بل بدا منّا بها خلف  حمى                 حماها     وتتّقي    به   صولة  الأسد

ولم لا ترى لذاك منكم  ولا لنا                  وقد   كان  بدؤنا     دليلا   على  البعد

وظنّي بذي السّباب أنّ انهماكه                سيبعث  يوما  مثل      أيّامه       النّكد

بعثتم لنا كتبا  ولا     ريب أنه                  بإملاء   مانـــــــــيّ كتأليفه     الزّندي

ولا ريب أنّه ولا ريب أنني                    تواري متى   نضوت    كتبي  من الغمد

ولا ريب أن شدا غراب بشدوه               ولم لا    ومالـــــــــــــه مــن الرّدّ  من بدّ

وإن كنت في شكّ فهذا قريضنا              دليل على إمضــــــــــاء  نثريّ    في الرّدّ

وضعتم سماة الله أوّل فحشكم                ووضع اسمه في الفحش كفر عن السّعد

وخالفتم الحد يث في حال رسمه              وذلـــك    ذ نـب لا  يعامل   بالقصـــــد

 

تضمّن الكتاب أيضا ما يثبت لقاء العلاّمة يبّ ولد شيخنا محمدالأمين بمحمد يحي عدّة مرّات قبل استفحال الخلاف ’ والتّحدّث معه في مسائل مختلفة ’ ونصحه له بعدم التّعرّض لمشايخ التّصوّف وجاء فيه: ( ........... أرسلت لك كتابا أنهاك فيه عنّا مخافة على دينك وعلمك من  الفضيحة ’ فرميت به وراء ظهرك وظننت أنيّ إنّما أخاف من علمك وقهرك وكيف ذلك فلقد ظننت والله عجزا ’ ولم تجد لريح دعواك مهزّا قلت في ذلك

ظننت إذا وربّ العرش عجزا              وليس لريح ظنّك ذا مهزّا

أتخشى طرّة الإصباح  ليلا                 أم الجرد البغال تهاب لزّا

سيرجع ظلّ ظنّك غير ظلّ                ويرجع طول طيفك ثمّ عجزا

فلقد جمعني بك المجلس أربع مرّات ’ فتذاكرنا في جميع الفنون’ وأخرجت لك تأليفيّ المسمّى " الدّرّ السّليم في عربيّة بسم الله الرّحمن الرّحيم " سبعين بيتا مشروحة  فلماّ رأيت فيه قولنا : الجارّ والمجرور بالمعنى الشّامل للظّرف يسمى مستقرّا إذا كان خبرا أو صلة أوحالا أو صفة وفى غيرهما يسمى لغوا ’ قلت : والله ما سمّاه بهذين الأسمين كتاب ’ فلمّا أريتك ما أنكرت لأبن هلال قلت هذا لم يكن  في عرفنا أهل ولاته كأنّ أهل ولاته هذيل أو تميم أو أمثالهم من العرب ’ ثمّ أريتكه في مقدّمة ابن هلال فلمّا رأيته علمت أنّك أخطأت وسكتت  ولو نازعتني فيه بعد ذلك لأريتك ما أنكرت في تاج العروس صريحا أكثر من عشر مرّات ولكن سترت نفسك بالسّكوت ’ ثمّ تحدّثنا في شأن البكر الموصى عليها هل تخرج من الحجر ؟ ....... فقلت إنّها تخرج منه ............... فقلت لك إنّما جرى العمل المطبّق بعكس ما قلت يا محمد يحي’ فقلت لي كلآ ومن أين لك ما قلت ؟ فقلت لك : انظره في الدّسوقيّ واسمع ما قال ابن سلمون’ قلت لي قل ذلك ’ فقلت لك : " ففي ابن سلمون أنّها لا تخرج من الحجر إلاّ بفكّ الوصيّ ولو كبرت ورشدت وحسن حالها " وبذلك جري العمل ولا ينبغي أن نختلف ’ فقلت : أرني هذا في ابن سلمون ’ فلمّا رأيته فيه ’ قلت : هذا صريح ثمّ أردت مجالستك في العروض والمنطق’ فأبيت وقلت لي إنّك لا تعرف المنطق ’ فسكتت عنك وعرفت أنّ ذلك هوّ مبلغك من العلم ’ وكيف يثبت بعد ذلك في وهمك أنني أخاف من علمك ’ فهيهات ما تظنّ من اليقين ولتعلمنّ نبأه بعد حين ............ثم سرت عنك ولا أطلب منك إلاّ المخاللة والمخالصة ’ أو المسامحة والمسالمة فأبيت........فطفقت يا محمد يحي تسدي وتحلم في الرّدّ على أوليّاء الله المتقدّمين والمتأخّرين فيما قالوا وأنت والله لم تنل ما نالوا ’ ويبعد ذلك منك بعد الثّريّا من الثّرى  ......)  انتهى الاستشهاد

لقد ألقى هذا الخلاف بظلاله على المشهد السّياسي للإمارة المسيطرة ( أهل لمحيميد ) ففي الوقت الذي اعتمد فيه الأمير محمد المختار العلاّمة محمد يحي الولاتي قاضياّ للإمارة ’ كان ضمن قبائل الشّوكة فيها ( أهل سيد ، لعـبلاّت ) من تتلمذ على شيخنا محمّد الأمين وناصره الأمر الذي أحدث شرخا لم يلتئم إلا بعد مبادرة الأمير محمد المختار التي مكنت من الجمع بين العلمين محمد يحي  و يبّ ولد شيخنا محمد الأمين في أيّام ثلاثة مشهودة بمركز الإمارة الذي كان وقتها في " انول " ولاتزال الذاكرة الشّعبيّة محتفظة بتفاصيل تلك المناظر ة التي أرغمت الأمير محمد المختار على الإعتراف بالسّبق ليبّ ولد شيخنا محمد الأمين وشكّلت بداية لإشاعة روح الودّ بين قطبي السّجال .

إنّ سجالا بهذا الحجم من الأهمّيّة ’ يحتّم على أصحاب الشّأن مراجعة النّظر ونفض غبار التّجاهل والنّسيان’ فلإن كانت لعنة الجغرافيا قد أعاقت سنّة التّواصل والتّفاعل الثّقافي لمنطقة الحوض مع محيطها ’ فإنّ مكنونها التّراثي قادر على انتشالها من تلك الدّركات ’ لكن ليس قبل تغيير نمط تعامل النّخبة مع هذا التّراث ’ ونبذ مبدأي الإنتقائيّة والإقصاء اللّذين لا يتوقّع معهما بناء صرح ثقافيّ يستأنس به الجميع ’ ويرى فيه الكلّ ذاته بوضوح .

يثير هذا السّجال جملة من التّساؤلات تتطلّب من المهتمّين البحث الحثيث  في مضامينه ’ تتمثّل في الآتي :

-ما الدّافع وراء الحدّة التي طبعت ردّ محمد يحي الولاتي على النّصيحة التي قدّمها شيخنا محمّد الأمين ولد أحمد الجيّد القلقمي لفقهاء الإسلام ’ والتي يكفينا منها ما حمله عنوان :     ( نصيحة أولاد الزّوايا والطّلبة عن الدّخول في طريق زنادقة المتصوّفة الجهلة الكذبة ) والتي لاشكّ أنّها هيّ السّبب في أن يحمل ردّ يبّ ولد شيخنا محمّد الأمين عليها عنوان:      ( نصرة الأوليّاء وطريقة الأنبيّاء في الرّدّ على الزّنادقة الأشقيّاء المتشبّهين بالفقهاء ) ؟

- من المسلمّ به انتماء محمد يحي الولاتي للطّريقة التيجانيّة ’ وهو ما أثبته المحاضر حنفي ولد الدّهاه في الجلسة الرّابعة من التّظاهرة المخلّدة لذكرى مرور مائة سنة على وفاته ’ فبم نفسّر الصراع إذا ؟ ’ هل يمكن تفسيره على أنّه محاولة من محمد يحي إيجاد موطئ قدم للطّريقة التيجانيّة في منطقة الحوض القادريّة ’ من خلال تسفيه أقطاب هذه الأخيرة ومحاولة النّيل منهم ؟

-  أم أنّ اللّقاءات التي جمعت بين يبّ ولد شيخنا محمد الأمين ومحمّد يحي قبل استفحال الخلاف بينهما ’ واختلافهما أثناءها في جملة مسائل ’ ولّد لدى محمّد يحي هاجس السّيطرة والنّفوذ العلميّين ؟  

أم أنّ الطّرحين التيجاني والقادري يحملان في طيّاتهما عوامل التّنافر واستحالة التّعايش السّلمي ؟

أم أنّ محمد يحي عندما قرّر مقارعة القادريين ’ لم يكن حينها تيجانيّا  ؟ وهو ماينفيه استهلال مكتوبه بصلاة الفاتح .

مهما يكن من أمر فإنّ هذا السّجال شغل السّاحة العلميّة في منطقة الحوض فترة طويلة وشكّل مجالا رحبا لمناظرة علميّة فريدة ’ شملت مجالات اللّغة والفقه والأصول والمنطق والتّصوّف ’ لذا أدعو أصحاب الشّأن والسّبق في الحقل الثّقافيّ إلى الاهتمام به ’ وإدراجه مستقبلا ضمن المواضيع التي لم تنل بعد حظّها من البحث والتّنقيب .

                                                                           

 ------------------------------------------------------------------------------------

(1)_  شيخنا محمد الأمين ولد عبد الوهاب ولد أحمد الجيّد ولد محمد المختار ولد الطالب عبد الفتّا ح  القلقمي  الشّريف  ولد رحمه الله سنة 1250هـ  وتوفّي سنة 1332هـ  عند ( واد اّرشان) حوالي 30 كلم غرب قرية انجامه بمقاطعة اّمرج لم يخرج في دراسة العلم عن محيطه حيث كان معلّمه الأوّل أبوه عبد الوهاب  ’ ثم أخوه لأمّ أحمد إجيّد ولد الب الفلاّلي ’ لينتقل بعد ذلك إلى شيخنا محمد فا ضل ويستقرّ به المقام معه ردحا من الزّمن  . وقد تضلّع في هذه المحطا ت من مختلف العلوم والمعارف ’ إضافة إلى ما وهبه الله من الكشف وخرق العادة  .

بعد أن أقرّ له شيخنا محمّد فاضل بالوصول ’ عا د إ لى حيّه (القلاقمة)  ليبدأ مشوار عطائه العلمي والرّوحي ’ فتوافد إليه طلاّب العلم والتّربيّة من كلّ حدب وصوب ’ وأ سّس في منطقة كوش قلعة علميّة أضاءت تلك الرّبوع  وبثّت فيها روح المحبّة والتّسا مح . كان رحمه الله زاهدا وقورا  معرضا عن الدّنيا  وملذاتها ’ يلبس من اللّباس ما خشن ’ ويأكل من الطّعام ما خشب .      

 (2)_  العلاّمة يبّ ولد شيخنا محمّد الأمين ولد عبد الوهاب ولد أحمد الجيّد ولد محمد المختار ولد الطالب عبد الفتا ح القلقمي ’ أمّه الشّفاء بنت شيخنا محمد فاضل ’ ولد رحمه اللّه سنة 1281هـ وتوفيّ سنة 1331هـ عند ( طيبة ) على بعد 18 كلم شمال شرق مدينة اّمرج ’ غنيّ عن التّعريف في محيطه ’ تلقي تعليمه على يد والده ونبغ منذ الصّغر في فنون اللغة والفقه والأصول والتّصوّف ’ أجلسه والده مبكّرا للإفتاء والقضاء والتّدريس

.   له عدّة مؤلّفات منها: ( الدّرّ السليم في عربيّة بسم الله الرّحمن الرّحيم ’ احمرار من أربعمائة بيت على الجوهر المكنون للإمام الأخضري ’ احمرار على تاليف الإمام مولود ولد أحمد على الفعل الثّلاثيّ ’ نظم على زيادة الفعل الرّباعيّ ’ فتوي حول الإستعمار )

       إ ضافة إلى قصائد كثيرة في أغراض الزّهد والتّأمّل والتّوسّل ومدح خير البريّة والتّقريظ وأدب المساجلات والتّصوّف ..... إلخ