أنا والإستقلال والمغرب …كلام صريح
الجمعة, 06 ديسمبر 2013 19:25

 

كما يؤكد الأهل ، ومنهم وكلاء الحالة المدنية الأصلية، الذين ما زالوا بحمد الله أحياء، فإن”فجر” مولدي كان في “ادريق الحنوشة ” [ ستمائة متر من اخر منزل شرق الخطيط من لواحق الدوارة ]،يوم الأثنين من ربيع النبوي[ المولود] وهنا يختلف

الوكلاء و الوكيلات في يوم كم منه، من عام وفاة رجلين مهمين من الجماعة هما شيخ عامة والشاعر و “المتعلم الفرد للفرنسية” في تلك الفترة ،العالم أحمد سالم ولد سيدي محمد محمود، و وجيه وشاعر مجيد من بيت مرموق هو سيدي ولد عينينا ،ويزيدون إيضاحا بأنه يوافق “العام الموالي لعام” الفونس” وهو حاكم عسكري فرنسي للبراكنة، وذلك لست أو سبع سنوات بعد استشهاد المقاوم ولد مسيكة [1950] مولد أختي مريم أطال الله بقاءها..

 

أي أنني ولدت بثلاث سنين ونيف قبل الإستقلال في أرض اللجام على حافة الذراع المفضي إلى شامنا “أقان “من الشمال وإلى عراقنا”التجال” جنوبا ، وكانت المنطقة من أخصب وأجمل بلاد الله والناس فيها أهل بقر “أحمر” بالاف الرؤوس في أفطوط  بينما يملك أهل أقان ثروة هائلة من الإبل ، و تحدث بينهم مشاعرات لطيفة في ذاك عندما تجف الأرض ويهزل البقر بينما تعانق أسنمة النوق عنان السماء ،وكان الأخوال أهل إبل [بيت العلامة المجاهد عبد الدائم بن جيوده صاحب تنقراش] أما الأعمام فهم أهل “بيقور” …

 

وكانت علاقة هذا المجتمع ،المكتفي ذاتيا بزراعته و تنميته الحيوانية و  جامعاته المحضرية المشهورة بالإستعمار و دولة [النصارى] محكومة بأقل الممكن من اللازم :دفع الإتاوات و وثائق البراءة منها لضمان التنقل بالتجارة و “الغيبة” في السنعال وغيرها, و من هنا يكون المدخل إلى انعدام أي صلة بالحكم الذي كانت بوادر تشكل خلافته للرجل الأبيض  تتراءى للناس فكثرت الطيرة من هولاء الذين [لبستهم لبسة مسلمين و قلوبهم قلوب النصارى] وانتشر الحذر من مخالطتهم إلا للشيوخ الذين هم الوسطاء مع الإستعمارين القديم المتصرِّم  والجديد المتحكم ..ولم تكن في المجموعة التي تعتبر ثاني تجمع سكاني كثافة في الدائرة[الولاية] مدرسة واحدة ،وفاءً لأحكام المقاومة الثقافية و الإجتماعية و الإقتصادية التي أفتى بها أمثال العلامة أواه بن الطالب ابراهيم الذي توفي مطلع الخمسينيات ولم يلبس غير قطن شمامة وفراء سخاله التي يسلسل حلية كسبها أمًّا لأم…

وهكذا فتحت عيني على مجتمع محافظ حـدَّ التزمت  مقاوم للعامل الخارجي حدَّ الإنعزال

 

ولم أسمع ـ  كلمتي: الإستقلال و مورتان قبل سن السابعة مع أول مذياع [رجو] أو حاكي [مزيك] لا أعرف ، جاء به شريف على جمل أحمر فخم “الشرماط” أتذكر أنه فلان بن مولاي رشيد وكان مشهورا ب”دواي العينين” لأنه يطبب العيون من مرض يسمونه”الدويره” إلا أنني و زملائي ارتعبنا رعبا شديدا من صندوق الحديد الذي جعل أهل الدوارة يغرقون في الحزن بدل الطرب لأن العجائز بشرن بأن الآخرة على الأبواب وفقا لمنطوق الحديث كما ترويه الفقيهات: إذا تكلم الحديد [ الراديو] و قرب البعيد  [ الوتة] فقد قرب الوعد و الوعيد[الآخرة] وتزيد العارفات منهن بأن الشاعر يقول: إن السفينة لا تجري على اليبس[السيارة] مما يعني علامة إضافية على قرب الساعة..

 

وفي هذا الجو برزت أسماء يتداولها الكبار ويتغنى بها الصغار من قبيل ول مولاي اسماعيل الشريف الذي في أرضه الشريف الشيخ ماء العينين الذي ـ بدوره ـ قاتل معه خالنا المجاهد عبدالله بن الطالب محمد الذي لا ينفك الأهل عن ذكره، و  ول يحيي انجاي و ول داداه و ول عمير و ول حرمة و مورتان و ديقول و النهضة التي كان “الصنادرة” يبحثون عن ابن عمنا أبي المعالي لأنه منها، كما كنا نحذر من تسميته أمام الغرباء لأن ول داداه يملك “صنيتات” تحت التراب يسمع بها من تكلم فيه…

 

وهكذا تكون صورة علاقتي بهذا الحدث الذي سأتعرف عليه عندما يُلبسنا دراريع خضراء من البوبلين ونعالا من البلاستيك لننشد أمام الفصل اليتيم في صنقه رافه و وراء  نغمة شجية من معلم السنة التحضيرية الأولي المفرنسة بنسبة90بالمائة “المسيو الحافظ بن محمول عثمان”: أيها العيد مرحبا بك يا عيد من جديد….

 

***

كانت الأيام الاولى من شهر يناير1966 موعدنا مع فصل لم نر مثله قبلُ،لهسقف من الحديد الصقيل ،و جدرانه اسمنتية مطلية بالجير الأبيض، ولأننا لا نعرف المقاعد فلم نفطن إلى أننا نجلس مباشرة على أرضية من الإسمنت البارد في الشتاء إلى أن بدأ الزكام والحمى يستشريان في أجسام التلاميذ النحيلة …

 

وانخرطنا في الدرس مشدوهين منبهرين  عطاشاً إلى المعرفة الحديثة بكتبها الملونة و قسمها الداخلي وعمليات الإنفاق السخي على التلاميذ بالقدر الذي ينسينا استنكار العجائز أننا نقرأ “كلام اليهود والنصارى” وتمتماتهن بالتعوذ مما ابتلانا به الله..

 

كانت الاذاعات قد بدأت تنتشر على يد مجموعة من التجار المهاجرين يجلبونها في موسم العودة و يبيعونها أو يتركونها لذويهم عند القفول,مما أتاح انتشار الاخبار ولاسيما من لندن وصوت العرب و هنا نواكشوط  وصوت أميركا.. ومن أكثر المسموعات برنامج ول أقاط عند الكبار و ليلة الإثنين  التي يغني فيها سيداتي عند الجميع ولاسيما النساء والاطفال.

 

وكانت الوالدة رضي الله عنها ،تعــقد مجلسها ضحوة أو مساء على الأتاي مع صاحباتها  ويبدأ الحديث في المدح والسيرة ، وقد يحدث خلاف فتستدعى الكتب لترجيح رأي، ودحض اخر، وكثيرا ما تنتهى المناكفات باستطراد ما قالت الاذاعة و كثيرا ما يختم النقاش باستنكار ما يرمى به الشريف ول مولاي اسماعيل، والشاهد الحاضر عند المرحومة، والذي لا يصل إليه الشك ، الحكايات المتعلقة بقصائد ول محمدي التي تحفظ جلها إن لم يكن كلها : فتستمع السيدات مشدوهات للسينية وكيف أن السلطان ول مولاي اسماعيل امتعض عندما قال ولد محمدي :الله منك حقوق الناس قلدها…ففطن الشاعر وأكمل: يقظان لا عافلاً عنها ولا ناسِ….فتهللت أسارير الشريف و أمر بكذا وكذا …

 

وتنبهر النسوة ولكن ذروة النشوة  تكتمل عندما تصل بصوتها الرحيم الرخيم إلى قوله:

 

          خليفة المصطفى وهوابن بضعته::: ثوب من المجد لم يعلق بإدناسِ

 

و تقول: “هذا محل الشاهد ان الشرفا ما كيفهم شي”.. فتنتشي المجموعة ، علماً بأن هذا البيت (شاهد نحية) من الطرب البيضاني الأصيل …

 

وهكذا رغم البرامج الموجهة فإن حضور المغرب (الغرب)  وبلاد فاس ومكناس ومراكش كان طاغيا جميلا ملونا يداعب أخيلتنا منذ الوعي الأول ،فلم يكن للأسطورة حضور بعد السيرة النبوية وحكايات على كرم الله وجهه وعطش كربلاء و ما يزخر به مدح بنت عمتنا الشاعرة المداحة المرحومة محفوظة بنت الإمام من بطولاته عليه السلام ، كما هي حكايات مولاي اسماعيل ومجيئه إلى (رق تمراط) حيث كانت حلة (هيبة الرق) وكيف تم زواجه من (خناثه بنت بكار) وتولى العقد الولي الصالح (الطالب أعمر القفي) صاحب (أشايف اسطافر) وأنه من أهلنا الشيئ الذي لا يستقيم مع نعته بأنه تابعي … علاوة على كون القبيلة لم تكن قد وصلت أقان من منازلها في الزاك وبعده وادي درعة ….ولكن للاسطورة أحكامها…

 

وبالمقابل كان الموقف من حضور حكومة الإستقلال استمرارا للنظرة إلى المستعمر النصراني لأنها لم تقدم عنه بديلا ولم تخاطب العامة بما ترى و لا ما تريد، فكانت  واقعا لا يثير الخيال ولا يبعث على الأمل ولا يربط بماض ولا يبشر بحلم … صلتها بالناس ، ما خلا الأعوان ، مبتورة شائهة ..

 

وكم كانت أحاديث العجائز بالغة الدلالة عن (مورتان) و (ول داداه) و(صبيصب) و (صينكور) و (إسنغان) و (ديكول) ومعانى هذه المفردات المبهمة في تصور العامة ..هل هي أسماء أعلام أم غير ذلك…..

 

وتمر الأيام لنصل سنة 1968 عندما طلب المسيو أن نقف احتراما ودخل علينا الفصل رجل شديد بياض الوجه شديد سواد الشعر طويل القامة ممتلئ الجسم جهوري الصوت يلبس سترة بيضاء على منكبيها دبور يتسربل سروالا أسود (لسْ تومبي) ينتهي بكعبيه إلى نعال تشبه نعال عمي لكن تلك من( الوحش) وهذه من (الزوايه) يرافقه نقيضه قمحي نحيف خفيف يلبس سترة بنية سابغة على سروال كسراويل النصارى(بنطلون) وبعد ما استعرض التلاميذ مارًّا بالخط الوهمي الفاصل بين الصفين خرج “الكبير”وبقي الصغير ليقول بالفصحى: افتحوا دفاتركم ، أكتبوا التاريخ الظاهر على السبورة و تحته “إملاء” وارتجل:

 

(قد علمنا أن رئيس الجمهورية الأمين العام للحزب سيزور قريتنا فلبسنا أجمل الملابس و خرجنا إلى الساحة وانتظمنا في خطين متوازيين…)

 

إلى اخر  اختبار الإملاء الذي لم أعد أتذكره، ولكنني لن أنسى تردده جيئة و ذهابا ويداه وراء ظهره على طريقة (الترقي) بينما كان العرق يتصبب منا رغم الشتاء…حتى جاء الأستاذ وجمع الدفاتر بأمر منه، وخرج النحيف الوقور بصلابته وصوته الحاد وعينيه الغائرتين القويتين.

 

فلما أنس منا الأستاذ خشية قال. هذا الذي زاركم اليوم حاكم المقاطعة و الذي أملى عليكم مفتش الولاية…ومن لديه سؤال يتفضل… ومن جملة إجاباته الخبر الوارد في امتحان الإملاء فقد أبلغ الحاكم أكابر القرية أن الأستاذ المختار بن داداه الامين العام لحزب الشعب الموريتاني رئيس الجمهورية سيزور الدائرة ثم المقاطعة والقرى و منها صنقه رافه….

 

****

كانت عيشة سيدة جميلة حمراء البشرة تتقن شيم نانمة من الصدق و الوفاء و الشفقة على الضعيف وسلاطة اللسان والشجاعة على الاقوياء ، وفوق كل هذا كانت رخيمة الصوت شجيته تجيد ضرب الطبل وتسحر ب"مناشعها" الملونة وقلادتها ذات "الكتفة" العقيقية الحرة ، واسطة العقد،يحيطها "مدفعان " و "بزرادتان" و "نيلتان" و شعيرتان" و "شظيتان" من "المَرْفِي الحر"، تحسدها عليها أعتى النبيلات، وتبدو في كبريائها غير مبالية بما يحكى عن علاقاتها الخاصة التي تجعلها مرهوبة ، أمَّا كونها مرغوبة فتحصيل حاصل...

ولأن خيمتها (نزلت) قبل تأسيس الفصل الدراسي قربها فقد استأهلت أن تكون حارسة المدرسة وتاليا ، طباخة القسم الداخلي ، ومديرته الفعلية بعد المراقب ، وقد أصبحت بقوة الموقع وصية على ضعفاء التلاميذ المغتربين عن أهلهم للدراسة ،فالإعاشة تخصهم بينما (يعوض) المقيمون عند أهلهم مبلغا طيبا (300أوقية=1500ف افريقي) نهاية الفصل أو السنة لا أتذكر...

في اليوم المشهود صحح المفتش الإملاء و يومها رأيتُ بأم عين الصبي حقد الحسد الأسود عندما نال أحد التلاميذ علامة5ر19 على 20...فإذا بأحدهم يهذي و هو من "الكبار" سنا، ويهددُ الفائز بالخنق والإغراق الليلة في" التاولجه" ، و التهديد مخيفٌ فعلاً لأن مياهها الآسنة في الشتاء مُريعة من بعيد، فكيف بالغرق فيها!! وكان تلاميذ المدرسة من ثلاث طبقات عمرية في فصل واحد...لكن حمية أحد أقربائه الكبار و تدخل عيشة و قرب أهله من الفصل ، و "بركة الصالحين" أنقذته من الغرق...

في اليوم الموالي كانت القرية الصغيرة تعج بكرائم النوق والجمال والخيل المُسَوَّمة والنساء والرجال من كل حدب و صوب ينسلون.. وكل "فخذ" ينزل ب"رجله" و "طبله الكبير" و بنادقه "الطرش و القشامى" و" جنائد الرجال و طرابيشهم الحمراء" والجبابة(الدباكة) في صفين متوازيين، كما في نص المفتش، (يتغامسون) بالبارود ينشد صف: يا مورتان عْليكْ...و يجيب الصف المقابل: مْبارك الاستقلال...وقد يدغمونها حتى تكون: لَتَّقلال....وعيشة في أزهى أيامها بملحفة من "النميرات" و حزام من "لاغوس" وحفيظة "تنز" منها "الروائح" النفاذة..فجميع المناسبات عرس عيشة... بعد هذا الهرج الدائر حول المدرسة لأنها مقر السلطة في القرية باعتبار مديرها ممثلا رسميا للحاكم الذي لا ينزل إلا عنده، دخلنا بنداءالصفارة الفصلَ وبدأنا التدريب على النشيد الترحيبي الذي كتبه معلم اللغة العربية والد الجميع العلامة المربي الأشهر محمد بن بوبني ، ومنه:

أهلا و سهلا كرِّري ** ماشئتِ أن تُكرري

تيهي و تيهي و افخري ** ديارنا بالزائر

قائدنا المحرِّرِ ** لنا من المسيطر

رائدنا الحبر السري ** مرشدنا للنير

زعيمَنا لا تَمْتَــــــرِ ** في حُبنا لك البرئ

ولأول مرَّةٍ وقف العلامة، يعطينا درسا في الوطنية ومعنى الاستقلال والتحرر من سيطرة الأجنبي ، وكنا في مطلع السنة الثالثة (C E 1) التي تميزت بتوزيع كتابين للمطالعة ساهما في تشتيت أذهاننا الصغيرة المتحفزة و توزيع ولاءاتنا الطرية: كتاب المطالعة الفرنسية :إفريقيا =إفريقيتي تأليف مجموعة من الأفارقة الإستوائيين و مربين فرنسيين من منشورات المعهد التربوي الافريقي الملغاشي(IPAM) وكتاب المطالعة العربية:الجديد في القراءة ، تأليف هيئة الكتاب التربوي بالجمهورية العربية المتحدة، الموضوع الأول فيه عن الوحدة بين الإقليم الشمالي(سوريا) والإقليم الجنوبي(مصر) وصورة مكبرة لرجلين ضخمين أحدهما كثير الورود في أحاديث العائلة والكبار والإذاعة هو جمال عبد الناصر، والآخر لم أستطع فهم اسمه شكري القوتلي ولاسيما الاخير منه، ولكننا كنا ننشد بفهم بسيط النشيد:

يا وحدةً جمعتْ مصري و سوريتي

ثمارها طلعتْ نصري وحريتي وبين غمضة عين وانتباهتها كان الناس في هرج و مرج فقد لاحت سيارات الموكب وتعالى الغبار من الحوافر والاظلاف و الارجل و العربات والبارود والزغاريد و "بيت فاغو" من الجيش بن هدفال وابنه وناتي رحمهما الله وكانت رؤية"الشعار" وسماعهم مباشرة غاية صعبة المنال في ذينك الوكر والظرف...

ولكن الواقعة التي هزت كيان الصغير وانطبعت في خلده وذاكرة جيل بأكمله من أترابه ، هي رؤية (ولد داداه) بالعين المجردة،بدراعة المظلع الزرقاء والحولي الملفوف لفة واحدة على الرقبة لينسدل طرفاه في أناقة مهيبة لا بذح فيها ولا شطط ، يستمع بهدوء خلف (بصاراته) السوداء الغامقة وشيبته المحببة الشهيرة ، يستمع إلى الولد النحيف ذى التبيب والقرون الذي اختير لينشد أمام زملائه والاستاذ يؤشر بالمسطرة لضبط الايقاع بعده،و يتقدم الرئيس ليمسح على رأسه و يقول عبارات أذهلته الهيبة عن تمييزها..

لقد كانت محطة و أي محطة في المصائر التي ينسج الزمن بخيوط القَدَر و القَدْر خيوطها بما فيها من بياض و خضرة وحمرة و سواد.....

 

ناجي محمد الإمام

المحيط

(يتواصل)