نركض خلف السراب!..5/5 كتب/الرجل ولد عمرالحلفة1 |
الأحد, 15 ديسمبر 2013 23:57 |
من المفارقة أن يكون انضباط صديقي "خطره" على مقاعد الدراسة بجامعة نواكشوط مقدمة لتقلده رتبة ضابط بسلك الجمارك الوطني.. ورغم أن صديقي كان يعرف كيف يخترق لجان المراقبة أثناء إشرافها على الامتحانات النهائية بالجامعة؛ إلا وجوده اليوم على رأس قسم الجمارك بمقاطعة ولد ينجه؛ جنوب شرقي موريتانيا يظل أمرا محكوما بقوانين جديدة لإدارة لعبة الحدود؛ حيث تنشط عصابات التهريب. كان "خطره" كما عهدته كثير الصمت كثير التجهم يحترف الكتمان في أغلب أمور حياته؛.. وعلاوة على ذلك كان مبالغا في انضباطه لدرجة تحسبه مخبرا لدى جهة أمنية بجهاز الاستخبارات الموريتاني؛ لولا بقية أخلاق ومذكرات دراسية بالية لكثرة ما أحتفظ بها مخافة أن يباغته أحد الأساتذة؛ ممن لا يؤتمن جانبهم باختبار كتابي!.. كنا قد تركنا الجامعة وتشتت بنا الطرق إلى جانب عشرات من رفاق الدراسة الذين رمت بهم الحياة إلى أقدارهم المحتومة؛.. كان "خطره" كما عهدته تماما بعمامته ونظاراته السود وقامته الفارعة وبشرته التي تشبه سمرة ورق "القرنفل" الذائع الصيت بالجنوب الموريتاني. ورغم ضيق المكان وزحمة الآخرين من سوننكي وفلان وبيظان وحراطين.. طلبا لوثائقهم الثبوتية وسط بهو بلدية سيلبابي؛ إلا أن "خطره" لفظاعته المعهودة لم يمنعه كل ذلك العالم الذي يكاد يلبب بعضه بعضا من أخذني في الأحضان هكذا وبشكل مفاجئ ودون نزع عماته أو حتى نظارتيه السود. لا أعرف على وجه الدقة ما الذي حمله على التواجد في ذلك المكان الأكثر زحمة في المدينة لكنه ما إن علم أنني أصبحت مراسلا لإحدى الوكالات الصحفية في الشرق الموريتاني، حتى تيقظت بداخله شهوات ونزوات يبدو أنها سكنته لبعض الوقت. قال لي "خطره" أنه يرأس مكتب الجمارك بمقاطعة ولد ينجه التي قدمت توا عبرها قادما من أقصى الشرق الموريتاني؛ لقد أصر على أن نلتقي مساءا عندي أو عنده في البيت!.. وبحكم تشبيكات معينة استنتجت أنه من مواليد مدنية سيلبابي؛ لكنني لم أدرك بعد سر إصراره على لقائنا في البيت؛ خاصة أننا نحن معاشر الصحافة كثيرا ما نهوى الكلام بمناسبة وبغير مناسبة!.. ولماذا يصر ضابط تخرج لتوه من سلك الدرك الموريتاني أن يلوث رصيده المهني بتجديد صداقة قديمة كان يبغي أن تنتهي مع انتهاء سني الجامعة؟..
الحلفة2 .. كنت قد وصلت من يوم واحد وكان رئيس البلدية قد سمح لأحد معاونيه بمساعدتي في إعادة تشغيل أحد الحواسيب المركزية؛ لأخذ وثائق كان التعاون الموريتاني الألماني سابقا GTZقد أنجزها عن المدينة؛ ولم يكن وضعي قد أستقر بعد ورغم ذلك فقد اقترحت على ضابط الجمارك زيارة بحي أدباي؛ جنوب غربي سيلبابي.. كانت سنوات الجامعة لا تزال تتزاحم صورها في ذاكرة "خطره"؛ وكان لا يزال يتذكر ميولنا المثالية التي وحدتنا في هيئة مجتمعية تهدف لدمج مادة التربية السكانية في برامج التعليم العالي.. لقد راح يسألني أين وصلت بنا تلك المثل وأين صحبتنا من رفاق الدراسة وكأنه سيعلن قريبا عن فرع لهيئتنا داخل مؤسسة الجمارك!.. كان متحمسا جدا دون أن أجد مبررا لذلك الحماس ومع ذلك فقد أدركت أنه لا يزال تحت وقع الانبهار الذي يصيب البعض؛ حيال الجزء الناعم من مهنتنا الصحفية!.. قال لي "خطره" أنه سيغضب إذا لم أشرفه في جولتي القادمة؛ لأنه قدم لشان مستعجل وسيعود فجر الغد لمكتبه الكامن في قلب مقاطعة ولدينجه؛ المدينة الريفية الهشة التي لا تكاد تذكر إلى جانب سيلبابي.. لكني كنت على خلاف بسيط مع صديقي الضابط؛ والسبب عدم وعيه حساسية مساحة التحرك بين مهنتي كصحفي باحث عن الإسرار ومهنته كجمركي مسئول عن كتم تلك الأسرار!.. ورغم ذلك فقد كان عرضه مغريا لاستكشاف عذرية تلك المدينة الهادئة التي تختبئ وسط أحد جيوب سهل كاراكورو العظيم؛ تماما كما لو أنها واد طلعت عليه الشمس لتوها. كانت سيلبابي تلفظ سكانها من الشيوخ والعجائز والأطفال بسبب درجات الحرارة التي تجاوزت الـ 50 درجة؛ وقد اكتظت معظم مصالح المستشفي الذي تحول تقريبا إلى قسم للطوارئ!.. كان الوضع مأساويا لدرجة الكارثة بالقرى الشرقية والشمالية اتجاه "ولدينجه"ولم تكن تلك المرة الأولى التي أزور فيها سيلبابي. منذ وجودي بالجامعة كان أساتذة مادة المناخ يفسرون لنا عدد من الظواهر والظروف المناخية قياسا لحالة كيديماغه؛ بوصفها نموذجا للمناخ السوداني المحمل بمياه نهر السنغال الممتد على مسافة 40 دقيقة بالسيارة. كنت أعلم أن وضع التطرف الذي تعرفه درجات الحرارة؛ فيخلف مزيدا من الإصابات في الأرواح ستعقبه تساقطات مطرية؛ قد لا تصمد في وجهها البني التحتية المرصوصة من الطين وفضلات قطعان البقر.. وعلى خلاف ذلك كانت مثل تلك الظروف المناخية مكمن سعادة مئات الفلاحين الذين تحولوا بفعل سنوات الجفاف إلى جيش من العاطلين عن العمل؛ يحتشدون كل صباح وسط السوق قرب مبنى الولاية؛ خاصة ممن لا يتلقون معاشات إثر عملهم داخل السكك الحديدية بالخارج.. ورغم أن "خطره" أثناء زيارته لي في البيت ركز كثيرا على سني الجامعة وأخبار الشلة بعد أن طوحت بها الظروف الاقتصادية السيئة للبلد؛ إلا أن تأكيده على أهمية استكشاف مدينة كولد ينجه؛ ظل لغزا محيرا بالنسبة لي. ومع أنه لم يكن لدي وقت لأضيعه خلف ضابط جمارك يمضي معظم وقته في تعقب حركة البضائع والأشخاص على الجهة الجنوب شرقية للبلاد؛ فقد قررت أن تكون زيارتي خاطفة. لكثرة سفري عبر ذلك المسار البري الذي تنخفض هضابه كلما اتجهت نحو ولدينجه وكنكوصه ثم مدينة كيفه إلى بقية القوس شبه الحدودي؛ فقد بات وجهي مألوفا لدى رجال الدرك الذين لا يزالون يمارسون هوايتهم القديمة في تغيير مواقع نقاط تفتيشهم؛ التي تتحول فجأة إلى ما هو أشبه بكمائن على الطريق؛ لذا لم أكن معنيا بالإجراءات التفتيشية المملة أحيانا!.. كنت أنا وسائق سيارة ألجي أكس الاستثناء الوحيد من مارتونية التفتيش تلك مع قناعتي أن ذلك السائق؛ الذي كان يدخن طوال الرحلة؛ أكثر وساخة من الركاب أنفسهم؛ لكن دائما للأجهزة الأمنية حساباتها الخاصة!..
الحلفة3 .. لم تكن سيلبابي قد أمطرت بعد لذا كنت أدرك قسوة التضاريس التي حولت شمالها إلى قدح كبير قد يحرم باقي المناطق الزراعية من حصصها المائية بسبب روافده التي تنشط كما لو أنها أنابيب صرف عملاقة. من وجهة نظري لا يمكن أن يوعز ذلك لسوء في النظام التضاريسي للولاية؛ التي تظل مصادرها المائية مكشوفة أمام أشعة الشمس إلى جانب غياب نظام صرف وتوجيه للمياه.. قلت "لخطره" في تلك الليلة التي شهدت مزيدا من احتباس تيارات الهواء في الجو أن يقدم لي عرض موجزا عن مقاطعته التي يمثل جهازها المالي إلا أنه كان قد قرر تجاهل سؤالي دون أن يتخيل إمكانية تحول تلك الزيارة لكابوس بالنسبة له!.. كلما علق بذاكرتي من حديثه عن تلك المدينة التي لم تكن تعني لي شيئا أن لها طريقان أحدهما 4 ساعات بالسيارة والثاني لا يزيد على ساعتان ونصف وعليه تقع قرية "لعبلي" التي أصر السكان الأصليون أن تكون عاصمة المقاطعة؛ بعد أن كاد يؤدي رفضهم لترسيم قرية ولدينجه بدلها إلى نزاع مسلح ضد جنود الحاكم الجديد عام 1959. بدا أن القليل من الأسر بالمدينة لا يزالون يدركون قيمة عذرية مدينتهم رغم أعمدة الكهرباء التي تمددت بين أزقتها إلى جانب شبكة من الأسلاك سمحت بانتشار جهاز التلفاز.. قال "خطره" إن حي "لكصر" ذي الأغلبية الفلانية شهد احتكاكا مؤخرا بين عصابتين من المراهقين رغم محافظة ساكنة الحي؛ إثر مشاهدة حلقة معادة لمسلسل تركي لازالت المدنية حديثة عهد بيومياته.. قلت ل"خطره"؛ ونحن نتناول وجبة العشاء فور مجيئي عند صاحب وجبات سريعة هو الوحيد بالمدينة أنه ليس أمامي الكثير من الوقت لأن مصادري بالشرق الموريتاني حدثتني عن تطورات تستدعي قومي على عجل؛ لذا أريد حسم موضوع الجولة قبل صباح الغد.. كانت ل"خطره"؛ وجهة نظر مغايرة على غير عادته؛ قال إن المدينة تعاني الإهمال والنسيان؛ إلى جانب عزلتها التي تدخل عقدها السادس. كنت أتفهم وجاهة الأسباب التي صاغ من خلالها مبررات بقائي لإسماع أصوات ذلك الجزء الهائل من التجمعات السكانية التي يسكنها الفقر والتخلف والجهل؛ لكنني مع ذلك لم استبعد إمكانية توظيف وجودي لتوجيه رسائل بعينها!.. وقبل أن ينهي عرضه للقضايا التي يعتبرها ذات طابع استعجالي بالنسبة للسكان كمشكلة الطريق ومياه الشرب والصحة والتنمية الزراعية؛ سألته عن ظروف عمله وما هو مستوى رضاه عن إدارة المنطقة الحدودية من قبل قوات الدرك والجيش؛ وهل يتوفر مكتبه على الوسائل والتجهيزات ألازمه؟.. قال "خطره"؛ أنه علي أن أشرب كأس الشاي الذي كاد أن يبرد كما أنه علينا الذهاب لمكان النوم؛ وعلى الفور أدركت حساسيته المفرطة بشأن القضايا الأمنية بالمنطقة؛ لذا وافقت على عرضه لكن بشرط أن ننجزه بأقصى سرعة!.. في الصباح الباكر أيقظني "خطره"؛ مؤكدا على ضرورة الانتقال إلى مكتبه ورغم أن الأمر بدا كما لو أنه تعدي على حريتي الشخصية؛ ولكنني كنت أدرك أن طبيعة التجنيد الذي خضع لها صديقي بعيدا عن مقاعد الدراسة قد صاغت منه شخصية جديدة؛ لذا لا بأس بجمع أغراضي والرحيل على الفور. قال "خطره" أنه علينا البدء بسوق المدينة؛ حيث العاطلون عن العمل والباعة وجها لوجه كما هناك أيضا ممثلي الشخصيات النافذة بالسوق الناشئة.. ويقصد خطره؛ وفق منطقه الجديد أن السوق على صغرها تبقى الترمومتر الوحيد لقياس نبض تلك المدينة الريفية؛ لكنه يعتقد أن نشاط أحد التجار الزنوج على الجانب الآخر للحدود يبقى مثار قلقه طوال الوقت.
الحلفة4 .. قلت لـ"خطره"؛ أنه علينا بدأ العمل؛ ولقاء أكبر عدد ممكن من المتضررين في ذلك الجزء الذي طردته الجغرافيا من الحسابات الجيوسياسية للبلاد؛ في الوقت الذي لا تزال قصة ذلك الزنجي تعيد تشكلها في رأسي. كنت إلى جانب صديقي الضابط نجوب السوق في زينا المدني؛ وكان يلقى اهتماما مبالغا فيه من قبل التجار؛ لكنني واجهت مشكلة في إقناعهم أنني لا أمثل أيا من مؤسستي الإذاعة أو التلفزيون؛ لذا عليهم أن يعبروا عن مشاكلهم بصراحة.. قليلون منهم صدقوا ذلك؛ وكان "خطره"؛ يؤكد طوال الوقت أنني أعمل لحساب وكالة صحفية مستقلة وأن ما سيقولونه سيلقى تجاوبا من السلطات المختصة في نواكشوط.. أعربت ل"خطره"؛ ونحن في طريق عودتنا زوالا أنني محبط حيال معاملة أولئك الأشخاص شبه المبالين لأوضاعهم المزرية وأن أفكارا راودتني حيال التحركات المريبة لذلك الزنجي الذي قد يكون خيطا لأحدى شبكات التهريب النشطة بالمنطقة. قال "خطره"؛ أنه لا يرى الأمر من تلك الزاوية وأن ما أثاره تمركز أسرة ذلك الزنجي الذي تعود جذوره لقبيلة السونكاي بالمنطقة الفاصلة بين حدود مالي وموريتانيا؛ حتى قبيل اندلاع النزاع المسلح بين موريتانيا والسنغال عام 1989؛ حيث قرر اعتزال حمل السلاح في وجه أي من الجبهتين؛ ومع ذلك فهو لا يعرف لمن يكون ولائه في النهاية!.. قلت ل"خطره"؛ أن القصة مغرية وأن لقائنا بذلك الزنجي المتقدم في السن سيفك لنا الكثير من الرموز التي تهمه كضابط في جهاز الجمارك الوطني وتهمني كصحفي يطمح لاكتشاف حالة من عدم الانحياز وسط بلدين يقاتل شعوبهما بعضا لمصوغات ليست حضارية بالمرة!.. قال "خطره"؛ وبشكل حازم وصارم أن صلاحياته لا تسمح له بالتحرك خارج الحيز الحدودي للبلاد وأن الوضعية التي تمر بها البلاد عقب اختطاف ضابط نسق رابع من جهاز الدرك الوطني في مركز عدل بكرو؛ شرقي البلاد؛ تجعل عن عناصر المؤسسات العسكرية وشبه العسكرية أهدافا حيوية للجماعات الإرهابية وخلاياها النائمة بالداخل؛ والعاملين لحسابها في زي مواطنين عاديين.. كنت أعلم أن المنطقة التي يوجد بها منزل ذلك الزنجي تقع خلف الشريط الحدودي لمنطقة كاركورو وأن أقرب تغطية أمنية لقوات الدرك الموريتانية توجد على بعد أكثر من 30 كلم؛ وأن أخبار شبه مؤكدة تحدثت عن نزوح كتائب تابعة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي من جبال "خاي" المالية باتجاه منطقة أزواد شمالا. شعرت أنني أضغط على "خطره"؛ أكثر من اللازم وأن إشباع شهيتي الصحفية قد يعقد المهمة السرية التي شرع فيها جهاز المخابرات الموريتاني من أجل المقايضة على إطلاق سراح الدركي ولد المختار بعد ان حصد المزيد من التضامن الشعبي؛ حوله إلى أيقونة رأي عام في شوارع العاصمة وبعض المدن الداخلية.. ورغم أن مدينة ولد يجنه التي ظلت عبر تاريخها هبة نهر كاراكورو العظيم حيث الأراضي الخصبة التي كانت عامل جذب للمزارعين القدامى؛ إلا أنها لا تزال تروي قصص ضحايا النزاع المسلح الذي شهدته المنطقة الحدودية مع السنغال إلى جانب عدد من المنمين الماليين؛ حين قررت الدولة تسليح السكان المحليين للصمود في وجه غاراتهم على القرى الرعوية. قلت ل"خطره" بعد أن أدركت أن الأمر ذهب به بعيدا لدرجة قلقه بشأن وظيفته أنه بإمكاني السفر بمفردي للقاء ذلك الزنجي؛ وأن كل ما أحتاجه هو تدبير دليل ليرشدني في متاهة الرمال المتحركة تلك.. وفجأة تيقظت بداخله نخوة الماضي؛ حين قرر الصمود معنا في وجه إدارة الجامعة إثر قرارها حل مجلس هيئتنا بسبب خلاف مع أحد الأساتذة المؤطرين؛ قال خطره؛ إنه لن يسمح بذهابي من دونه !.. ورغم سعادتي بقراره الشجاع ذلك إلا أنني اعتبرته تهورا في غير محله لكم التسريبات التي كنت أتلقاها عن تحركات السلفيين وسعيهم لمضاعفة الضغط على النظام الموريتاني عبر تنفيذ أكبر كم ممكن من عمليات الاختطاف؛ لثنينا عن المشاركة في الحرب الدائرة شمال مالي إلى جانب القوات الفرنسية ومجموعات من نخبة المقاتلين الأفارقة...
الحلفة5 .. سألني "خطره"؛ ماذا أريد أن أعرف عن نشطات ذلك الرجل؛ ورغم أن السؤال كان غريبا إلى حد ما؛ إلا أنني قلت له أنني سأترك له الجانب المتعلق بالبعد الأمني وحيثياته؛ بينما الرجل من وجهة نظري يلبي غرض الكثير من الأجناس الصحفية؛ وأن مجرد الحديث إليه سيكون سبقا صحفيا ومصدر إلهام بالنسبة لي... ابتسم صديقي بخبث وقال غدا ننطلق للقائه.. في المساء ونحن نشرب الشاي بمنزل إحدى الأسر المجاورة لمكتبه قرب السوق؛ قال لي "خطره"؛ إن أم الفتاة التي ناولتنا الشاي هي إحدى الزعامات التقليدية بالمدينة؛ وأنها أعتدت جسديا على شخص حاكم المقاطعة بمساعدة بعض مناصريها إثر خلاف نشب أثناء توزيع الحصص المجانية لعملية التضامن الحكومية. وزعم "خطره"؛ أن مصادره أكدت تواطأ حرس الحاكم؛ حيث لم يأمر قائدهم بالتدخل إلا بعد أن ذاق الحاكم مرارة تلك النسوة؛ وحين استفسرت عن إمكانية الحديث إليها قال إنها الآن في حلف الحاكم عقب مبادرة صلح محلية. قلت لـ "خطره"؛ أنه علينا استئجار سيارة؛ ولكنه قال إن المسافة الفاصلة بين نقطتي الحدود يمكن قطعها مشيا وأن وجود السيارة سيكون محل اشتباه دوريات الجيش المتحركة؛ إلى جانب إمكانية التبليغ عنا من طرف المنمين؛ وأن من الأفضل السير على الأقدام.. كانت ملابسات عملية اختطاف ولد المختار من داخل مقر ثكنته بقرية عدل بكرو.. لا تزال تتداعى إلى ذهن صديقي الضابط حديث التجربة؛ الذي لم يبارحه حلم بناء أسرة جديدة وإكمال الجزء المتبقي من منزل أهله غير المسقوف قرب برج سيلو وسط سيلبابي؛ لذا قال لي وهو يطمر قلقا بدا على وجهه أن ما نقوم به هو "مغامرة" قد تؤدي بنا إلى معاقل التنظيم في غابة وقادو أو جبال الإفوغاس في أقصى شمال كيدال المالية.. كنت أحاول تجنب شحنة الشعور السلبي التي كانت تسكن جسده؛ لذا تعمدت سؤاله عن تلك المزارع والحقول التي كانت تتمدد كالأحزمة على جانبي الطريق؛ وما هي مصادر المياه التي يعتمد عليها المزارعون الجدد بعد أن نضبت كل المصادر السطحية تقريبا بسبب سنوات الجفاف؟.. قال "خطره"؛ بشكل مقتضب إن المدينة لا تتوفر إلا على مصدر وحيد للمياه وهي مياه مالحة؛ باستثناء مشروع دعم شبكة حنفيات منزلية؛ ولكنه مشروع فاشل؛ من وجهة نظره.. وصمت!.. لعامل التضاريس الصعبة لولاية كيديماغه؛ إلى جانب جيوبها الوعرة التي تسمح بالذوبان في الغابات التي لا تزال توجد بعض بقاياها فقد كانت عدد من القرى المجاورة لمدينة سيلبابي مسرحا لأنشطة القاعدة. ورغم أن قيادة أركان الجيش الوطني استحدثت مؤخرا عشرات نقاط التفتيش إثر عملية اختطاف السياح الأسبان شمال نواكشوط؛ إلا أن الحزام الأمني المفروض على الحدود لم يمنع فريقا من انتحاري القاعدة من التسلل عبر جيوب وعرة في سيلبابي حتى قلب العاصمة نواكشوط لتفجير مبنىي قيادة الأركان الوطنية والسفارة الفرنسية المطوقة بصخور الإسمنت المسلح.. كنت أحترم لـ "خطره"؛ رغبته في الصمت؛ لذا انشغلت بالتقاط الصور لبقايا باسقات كاراكورو العظيم وبعض مشاهد المدينة التي تحولت خلفنا إلى خيالات؛ إلى جانب صور من المنمين الذين يجوبون تلك الجزيرة القارية الجافة؛ بحثا عن مصادر للمياه. في محاولة مني لكسر جدار الصمت الذي فرضه علينا ذلك الضابط الذي يحترف الصمت منذ أيامه الأولى في الجامعة؛ سالت عن مدى تجاوب سكان المدينة مع أفكار القاعدة؛ خاصة بعد أن تحدثت مصادر عن تحكم عدد من التجار من ذوي الميول السفلية في أغلب مصادر السيولة في السوق!..
ولكن؛ "خطره" اعترضني قائلا إن تلك مجرد إشاعات مقرضة لتشويه سمعة المدينة؛ وعاد للصمت مجددا!.. ببداهة أدركت أن صديقي الضابط كان يرد على أسئلتي دون أن يعمل تفكيره في الإجابة؛.. لذا فإن تفنيده لمسالة اندساس طابور في السوق يشكل قطبا متعاطفا مع العمليات التي ينظمها انتحاري القاعدة ضد المصالح الغربية في البلاد؛ لم يكن ردا صادرا عن وعيه المهني أو بالأحرى عن حسه الأمني الذي لا يزال يتشكل. لقد كان أثناء ما أسماه هو ب"المغامرة" مفرط الحساسية نحو كل ما له صلة بالسلفيين.. قال "خطره"؛ وهو ينشر بصره في كل اتجاه؛ على طريق جنود المشاة؛ خاصة تحت بقايا تلك الأطلال أننا أصبحنا خارج دائرة الحدود الموريتانية وأن منزل ذلك الزنجي العجوز بات على مقربة من المنطقة الفاصلة!.. أدركت أنه يتحدث بطريقة تشبه الآلي المبرمج؛ لكنني كنت أعي كذلك أننا دخلنا مرحلة الخطر والجد في الوقت نفسه.. كان واضحا بالنسبة له أن كمون كتيبة من السلفيين لنا في جحر من تلك الغفار الموحشة أو اصطيادنا من طرف أي من الخلايا النشطة بالمنطقة الحدودية؛ لم تعد إلا مسألة وقت؛ خاصة أن الأيام القليلة الماضية شهدت إعلان حالة طوارئ من طرف ثكنتي الجيش والدرك بمدينة سيلبابي؛ إثر تسلل سيارتين مشبوهتين قرب معبر "الملكه" بالجنوب الشرقي للمدينة. هنا بدأ النبض الحقيقي لكلينا و"راودنا شبح الاختطاف" وتضاعف إيقاع صديقي الضابط الذي كان قد تحرر من بزته العسكرية؛ قبل بدأ ما اسماه المغارة وأسميه سبقا صحفيا وإلهاما على الطريقة الاستقصائية.. وبعد جولة من الصعود والهبوط وسط تلك الرمال والأشجار البرية؛ قال "خطره" أنه بات بإمكانه رؤية معالم منزل ذلك الزنجي؛ خاصة مرابط مواشيهم التي توجد على شبه تل يفصلنا عن مساكنهم الطينية الرثة.. تنسمت هواء ملوثا بأتربة تلك الرمال التي كانت تنشط بشكل جنوني محملة برائحة مخلفات رؤوس الماشية؛ وراودني شعور القبض على السبق الصحفي؛ لرواية قصة ذلك الرجل الذي حافظ على سلوك عدم الانحياز حيال حرب أهلية قوضت العلاقات بين بلدين بعد أن فقد قائديهما ضبط أعصابهم لحظة كان البلدين في أمس الحاجة إلى حالة من ضبط النفس. لكن الزنجي العجوز كان قد سافر منذ يومين لحضور طقوس دينية تنظم لأعيان طائفته المسيحية تحتضنها العاصمة المالية باماكو؛ حيث غمرنا شعور ممزوج بالخيبة والعبثية اللاشعورية ولم يعلق صديقي الضابط.
انتهت 2012
|