المصطفى ولد محمد السالك .. والزهد في السلطة/ سيد أحمد ولد باب
الخميس, 19 ديسمبر 2013 13:56

altقال تعالى {يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} صدق الله العظيم.

يصادف يوم 18 دجمبر ذكرى رحيل أحد أبرز قيادات الجيش الموريتاني والرئيس الثاني لموريتانيا المصطفى ولد محمد السالك بعد الراحل أب الأمة الأستاذ : المختار ولد داداه، وبهذه المناسبة أترحم على الفقيدين راجيا من الله

العلي القدير أن يكونا من الذين يكرمهم عند لقاه وأن يجعلهم في الدرجات العلا من الجنة برفقة الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا، وسأتحدث باختصار عن تاريخ المسار السياسي للراحل المصطفى، ليس بهدف نكئ جراح البعض خصوصا من الذين يعتقدون أن الرجل هو أول شخص أدخل البلاد – هو وصحبه من العسكر – في دوامة الانقلابات العسكرية مع اختلافنا معهم في ذلك الطرح، وإنما أسعى إلى تذكير النخبة التي كانت شاهدة على تلك الحقبة وغيرها من فئات المجتمع بالمشهد السياسي والاقتصادي . . . آنذاك.

نبذة عن شخصية الراحل

لن أغوص في الحديث عن المحيط الأسري والانتماء القبلي للرجل ولا عن تضحيات آبائه وأجداده الذين تربى في كنفهم، وإنما فقط سأكتفي بإعطاء مواصفات عامة عن الرجل وتعاطيه مع القضايا الاجتماعية، اذ لا يخفى على أحد من أولئك الذين التقوا بولد محمد السالك أنه شخص متواضع يحب الجميع يحترم الصغير ويوقر الكبير ووصول للرحم ولا غرو فهو سليل أسرة ذاك دأبها يصدق فيه هنا قول الشاعر حينما رثا والده بقوله :

شموخا بالتواضع مستميتـا         وأنت لخالق الكون الذليــل

       ومن خلال شهادات المقربين منه وما لاحظت فيه خلال لقاءات قليلة جمعتني وإياه أنه شخص متواضع محبوب في أوساطه بل وفي أماكن خارج محيطه الجهوي ويبرز هذا الأمر جليا عندما تلتقي بمن عملوا معه في المؤسسة العسكرية أو في إطار المناصب الأخرى التي تقلدها، غير أنه مما لا شك فيه أن المصطفى لديه خصوم في السياسة لأن المناصب التي تولاها لا ينجو أحد عمل فيها من أن توجه له سهام النقد حتى وإن كان قد هجرها.

       وله باع وإسهام جزيل في  المجال الاجتماعي فقد شكل المصطفى مفتاح الحل للعديد من المشاكل التي استعصى حلها حتى على المحاكم القضائية مثل الصراعات بين أطراف تنتمي لقبيلتين مختلفتين أو النزاعات على القطع الأرضية ...، فقد كان يلتقي بأطراف المشكلة فيحاورهم فيتنازلون له كل من موقعه ليس رغبة في الصلح أو مللا من التردد على المحاكم وإنما احترامهم له جعلهم يضعون مقاليد الحل في يده بما في ذلك خصومه في السياسة، كما أن الراحل من الذين لم يشغلهم المال ولا البنون عن الجانب الديني والعمل لذلك اليوم الموعود ذلك ما تشهد له به بيوت الله التي لم يفارقها يوما إلا لسبب مرض ألم به وتلاوة القرآن والذكر مسألتان لا يفكه عنهما شيء يصدق فيه قول الشاعر الذي اقتبسنا من شعره فيما مضى قوله :

وتحمد رب هذا الكون دوما        فلا ينسيكه الخطب المهـول

       وفي مثل هذه الأيام من العام الماضي كانت أنظار الجميع تتجه نحو باريس تراود بعضهم شكوك بعدم عودة الرجل إلى وطنه على قيد الحياة وفعلا كان الأمر كذلك لأنه كان يعاني من مشاكل صحية تعيده موسميا إلى فرنسا وفي الآونة الأخيرة ازدادت وتيرة هذه المعانات وعند رحيله خيم الحزن ودمعت الأعين في كافة ربوع البلاد بفراق أب حنون أحب الجميع ووصل الكل، لكن ماذا عسانا أن نقول والموت سيلاحق الجميع قال تعالى {كل نفس ذائقة الموت وكل من عليها فان . . .} صدق الله العظيم، والأمر يهون بلا شك إذا ما تذكرنا أن الحبيب صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى ولا أبلغ عند محاولة التعبير عن ذكرى رحيل المصطفى إلا قول الشاعر :

وما نفع البكاء ولا التباهي          إذا كان الرحيل هو الرحيـل

نظرة تحليلية موجزة لأوضاع موريتانيا قبل انقلاب 1978

       استقلت موريتانيا بعد كفاح عسكري مرير ونضال سلمي متمدن حصلت البلاد نتيجة لذلك على استقلالها 1960 فتوجهت النخبة الحاكمة آنذاك إلى بناء وتأسيس الدولة الموريتانية معتمدة على بعض العناصر الأجنبية لمؤازرة البناة الجدد في الوطن، وشهدت الدولة الحديثة طفرات إيجابية ومهمة على كافة الصعد تقريبا، غير أن مطلع السبعينات مهد لسياسة جديدة سعت الدولة الموريتانية إلى تطبيقها يتعلق الأمرهنا بالتعامل مع مشكل الصحراء الغربية الذي كان ولا يزال هو الحدث الأهم الذي يعصف بوحدة الدول المغاربية، وفي نظري أن الأطراف التي كانت  بيدها خيوط تلك القضية كلها ارتكبت تجاوزات بشأن هذه المشكلة لكنها في طبيعة الحال تتفاوت من دولة إلى أخرى، فحرب الصحراء التي اندلعت سنة 1975 بين موريتانيا والصحراء كانت لأطراف خارجية وإقليمية مساهمات كبيرة في إذكائها، فالمستعمر ووفق تتبع خطواته لا يغادر منطقة إلا وترك فيها بؤرا للصراع والتوتر، ولا يخفى على ذو بصيرة أيضا دور المملكة المغربية والجزائر في إشعال فتيل هذه الحرب، لذا يمكن القول أن لهذه الحرب أسباب متعددة من بينها الصراع الصامت بين المملكة المغربية والجزائر الذي أبى إلا أن يسمع دوي انفجاراته داخل جغرافية موريتانيا والصحراء الغربية وبأيدي هذين البلدين.

هل أنصف انقلاب 10 يوليو 1978؟

       إذا أجرينا استفتاء على شرائح مختلفة من المجتمع الموريتاني سندرك أن قلة منه هي المؤيدة لهذا الانقلاب وفي نظري أن التاريخ ظلم هذا الانقلاب والسبب أن فئات عديدة من المجتمع تلحق بهذه العملية الانقلابية ما تلاها من أحداث، لكن من أراد حقا أن ينصف الرجل والعملية التي قادها بمؤازرة عدد كبير من ضباط الجيش الموريتاني عليه أن يشخص أحداث فترة زمنية لا تتجاوز السنة، وهنا سأقوم بذلك نيابة عن أمثالي من الذين ولدوا بعد الانقلاب وعن كل من انشغل عن البحث حول أحداثه معتمدا على روايات شفوية عدة للمرحوم المصطفى منها تصريحاته لبرنامج في فضائية الجزيرة ومنشورات وكالة أنباء الأخبار المستقلة عن الرئيس الأسبق محمد خونا ولد هيداله (هذه تجربتي هيداله من القصر إلى الأسر)، قال هيداله في هذه المذكرات أن أول من اتصل به هو العقيد المصطفى ولد محمد السالك وجدو ولد السالك في أواخر 1977 ثم انضم ضباط آخرون حتى أصبح القيام بالانقلاب مسألة وقت، وكان النظام قد قدم خدمة جليلة لهؤلاء بتعيين المصطفى قائدا للأركان في بداية سنة 1978 وحسب ما أدلى به المصطفى من أقوال للفضائية المذكورة أكد أنه قام بهذا الانقلاب ليس رغبة منه في السلطة ولا سعيا لإزاحة المختار ولكنه برر تدخله نتيجة للوضع المزري الذي تعيشه المؤسسة العسكرية والجنود على الميدان من جراء هذه الحرب فكان يهدف إلى انتشال هذه المؤسسة من وضع صعب كهذا، حيث أضاف المصطفى أن الإنفاق الهائل على هذه المؤسسة العسكرية أنهك اقتصاد البلاد الذي يعيش منعرجا خطيرا تمثل في موجة الجفاف التي ضربت البلاد، وأجهض هذا الوضع الجهود المبذولة من طرف الدولة لتحقيق التنمية الشاملة ، حيث أن خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الثالثة (1976 – 1980) عانت من هذا الوضع رغم أنها من بين أحسن الخطط التي تركت شواهد حية مثل طريق انواكشوط – النعمة، وعموما بدأ الشعور بالإحباط داخل هذه المؤسسة وامتعض الضباط من سياسة الرئيس وإصراره على مواصلة الحرب فكان لابد من وضع حد لهذه الحرب غير المنتجة، ورغم أن هذا الانقلاب هو الأول من نوعه فلم يؤدي إلى إراقة الدماء ولم يعامل الرئيس إلا بطريقة حسنة منذ اللحظة الأولى هذا ما أكده المصطفى حيث قال : أن الرئيس المختار تقدم إليه المختار ولد السالك بكل هدوء واحترام وأخبره بالوضع وهذا ما أثبته الرئيس المختار نفسه في مذكراته (موريتانيا على درب التحديات)، وهنا تجدر الإشارة إلى أن هيداله قد أشار بأن الرئيس المختار كان يرغب وإن لم يصرح بذلك بإنهاء الحرب مع أن الانقلاب في نظرنا هو الوسيلة الوحيدة المتاحة في تلك الفترة.

       لن أسهب في الحديث عن حيثيات هذه المسألة أكثر لأنتقل الى نظرة المعارضين له وهنا سأتفق معهم جدلا بأن المبررات التي صاغها الانقلابيون مشابهة لتلك التي وضعت كمبررات لانقلابات عسكرية في دول عديدة مثل بعض دول غرب إفريقيا وليبيا والجزائر على سبيل المثال حيث استطاعت المؤسسة العسكرية إزاحة رؤساء دول بنفس التنظير، لكن أسباب هذه الانقلابات من وجهة نظرنا لا تستند إلى مبررات موضوعية، وبالتالي هي لا تحمل أهداف واضحة المعالم على عكس الحركة التي قام بها الجيش الموريتاني سنة 1978.

       لأن قادة الانقلاب العسكري في موريتانيا وضعوا أهدافا لم يشكك أحد – حتى من السذج – في مصداقيتها، لأن الهدف الرئيسي هو إيقاف الحرب التي صرحت شرائح عديدة من المجتمع الموريتاني بعدم جدوائيتها، ومن هنا فإنه لا يجوز أن نحمل الراحل المصطفى خلافات المؤسسة العسكرية التي ظهرت تباعابعداستقالته أوحتى وهوفي غياهب السجن وما نجم عن ذلك من انزلاقات خطيرة كادت تقود إلى صراعات بين الضباط داخل هذه المؤسسة مما أنذر بحرب أهلية لأنه مما لا ريب فيه أن سبب استقالة ولد محمد السالك إلى جانب تدينه وخشيته من تولي المسؤولية وزهده في السلطة هو خلافات مع رفاق الأمس حول إشراك مدنيين في إدارة دفة البلاد وبروز شخصيات عسكرية رافضة تماما لذلك الطرح، بل ان بعضهم وهذا معلوم لدى الكثيرين كان  يسعى إلى عسكرة الدولة على شاكلة نظيراتها في بعض البلدان الإقليمية فقرر الراحل المصطفى التنحي تاركا المشهد السياسي لأولئك، فهو لا يستطيع تصحيح المسار الذي تحدثوا عنه في التعهدات التي وردت في بيانهم بصورة تامة في ظل وجود عدد ليس بالقليل من الضباط المعارضين له ولا بإمكانه أيضا أن يواجههم بعدد ليس بالقليل من الضباط المساندين له، لأن ذلك سيدخل البلاد حتما في صراع مزمن.

       وعلى كل حال ودعنا في مثل هذه الأيام من العام المنصرم الرئيس الأسبق المصطفى ولد محمد السالك، قد يتفق البعض معي فيما أوجزته من أفكار متواضعة عن الرجل والأشهر القليلة التي أمضاها على رأس السلطة في موريتانيا، ومن دون شك يختلف البعض معي وذاك من حقهم، لكن القاسم المشترك الذي يجمعنا تجاه الرجل والذي لا نختلف عليه أبدا هو ترحمنا عليه وعلى سلفه المختار راجين من المولى عز وجل أن يرحمهما ويكرمهما ولا نستطيع أن نقول بمناسبة رحيله إلا ما قال الشاعر الذي أوردنا أبياتا من شعره في سياق هذه المداخلة، عندما يقول :

فيا أبتي وداعا مـن فـؤاد         حللت به نزيلا لا يــزول

فراح على المدى يشد وبحر         وداعا أيها الرجل الفضيـل