يا عمي/ د. ابتهال عبدالعزيز الخطيب
الجمعة, 11 أبريل 2014 20:59

altعبد الإنسان، أول ما عبد، الطبيعة، وان كانت تلك عبادة لها شكل مختلف. ولربما المثال الأوضح على هذه العلاقة/العبادة مسجل في فيلم ‘أفاتار’ والذي بني في الواقع على دراسة أنثروبولوجية للانسان القديم. كان الانسان القديم، وأعني به انسان ما قبل الحضارات، انسان ما بين

خمسة وعشرين، وثلاثين ألف سنة مضت وربما أكثر، شديد الاتصال بالطبيعة نفسياً وجسدياً بشكل يوحي بوضوح بامتداده البيولوجي منها. قدس الانسان الطبيعة على اعتبار أنها مصدر حياته وامتداد لوجوده أو لربما هو امتداد لوجودها، ثم تطورت العلاقة، فاعتقد الانسان أن أرواح موتاه تسكن الطبيعة هذه، ثم بدأ الانسان يعتقد أن الظواهر الطبيعية، غير المفسرة في وقتها، ما هي سوى دلائل قوى عليا فوق طبيعية، فآمن بآلهة الطبيعة وأسكن هذه الآلهة الأنهار والأشجار والرياح. بعدها بدأت الآلهة تأخذ شكلاً بشرياً أكثر، فعبد الانسان الأنثى، قدسها وتبارك بها، تلك التي تدمى ولا تموت، تلك التي تخرج الحياة من رحمها، تلك التي تزيد أعداد البشر على الأرض في وقت كانت الزيادة البشرية هي أقصى ما يرغب فيه الانسان الأضعف بين المخلوقات والأقل عدداً.

في وقت ما، وصلت الأعداد البشرية لبضع آلاف فقط، في تهديد واضح للجنس بأكمله، فكانت الأنثى، مصدر المدخول البشري، الهة مقدسة، عجائبية الجسد، ساحرة القوى.

ثم دبت الغيرة في قلوب الرجال وهم يرون الأنثى الحاكمة ‘the matriarch ‘ وقد سادت وعلا شأنها، فبدأ القمع الجسدي يأخذ طريقه الى العلاقة، وبدأت الآلهة تتحول خطوة بخطوة، من تلك الأنثوية، الى هذه الذكورية أو ‘the patriarch’. ومع وصول الانسان لبداية حضاراته الرفيعة، السومرية والبابلية والآشورية، المصرية، ثم الاغريقية والرومانية، كانت الآلهة قد أصبحت رجالية بحتة، والرجال أصبحوا آلهة. أصبح حكام هذه الحضارات، الملوك السومريون والفراعنة المصريون على سبيل المثال، في مصاف الآلهة، وكذا حكام الشرق الآسيوي في حضاراتهم المختلفة وخصوصاً الصينية واليابانية.

بعدها، تحولت آلهة كل هذه الحضارات تباعاً الى ذكورية، ولربما أشهرهم هو الاله زوس الاغريقي، أب الآلهة جميعاً، رمز الذكورة القوي الذي لا راد لارادته، الأب المحب لأبنائه، شديد العقاب نافذ الارادة. ومنذ ذلك الزمن، أصبحت الصورة الالهية ذكورية بحتة، حتى تلك التي في الأديان الحديثة. فعندما تسأل طفلاً عن تخيله لصورة الاله، يقول لك، هو رجل يلبس ‘أبيض في أبيض’، كث اللحية طويلها، مهيب الطلة، جالس في السماء، وتلك، تفصيلياً، هي صورة زوس الاغريقي جالس على عرشه.

اليوم، بدأ العالم المتحضر يحاول، وان كان بعضها يفشل وبعضها ينجح، في الخروج من فكرة القائد الرجل والاله الرجل وما يصاحب تلك من صفات تعلّي العنف والقوة الجسدية على ما عداها. قرون طويلة ومبادئ العزة والشجاعة ترتبط فقط بالقوة الجسدية، وتلك مملوكة فقط للرجال، حيث كانت النساء إبان تلك السنوات تعتذر عن وجودها الأنثوي، تتذكر أيام ألوهيتها ورفعتها بعين الحرام، وكأن ماضيها الرفيع ما كان سوى نتاج جهل، وحاضر الرجل السائد هو نتاج التقدم والحضارة.

بعض المناطق من عالم اليوم بدأت تدرك سذاجة وتخلف الفكرة تلك وبعدها الفاحش عن المبادئ الانسانية الحقيقية. أصبح الانسان ذو قيمة بطرحه الأخلاقي وايمانه بالمبادئ الانسانية الحديثة من مساواة وحرية وعدالة، من رحمة ومحبة وتواصل انساني. لم يعد البطل المغوار هو رجلاً يحمل سيفه، يضرب فيقتل مئة وحده، يهاجم المدن، يقتل ويستعبد، لا تأخذه شفقة ولا يعرف الرحمة، ويموت، اذا أراد موتة الشرف، وهو يحمل سيفه مميتاً به غيره قبل أن يلقى هو حتفه.

بطل اليوم مختلف، بطل اليوم انسان، يعمل في معمل يكتشف فيه دواء يحيي ولا يميت، يسافر عبر البحار لينقذ المنكوبين ولو كانوا في عداد الأعداء، يقف أمام آلات القتل لا خلفها، يمنعها عن المدنيين، مرسلاً رسالة سلام لا فحولة. لم تعد مبادئ الإنتقام والثأر وفرض العضلات دلائل ‘رجولة’، ولم تعد لفظة ‘رجولة’ بحد ذاتها، كناية العزة والكرامة. تحول التفكير البشري الى مبادئ أكثر رفعة وإنسانية في زمننا الحالي، مبادئ الرحمة والعدالة والسلام واحترام الوجود الانساني، كما وتحولت اللغة البشرية الى الفاظ أكثر مساواة وأقل عنصرية، فما عادت تشير للرجولة والأنوثة، بل الى الوجود الإنساني وما يبديه من هذه الصفات، فيصبح الانسان عزيزاً كريماً بحيازتها، وذليلاً ضعيفاً بالافتقار لها.

إلا نحن، ولعلني بكتابتي بالعربية، أعاني من هذا التناقض الغريب. لغة كلها مذكر ومؤنث، يرفض ‘سادتها’ أن يجدوا ضميراً يساوي بين الطرفين، فتجد نفسك تكتب بصيغة المذكر دوماً للاشارة الى العام، وتلك مشكلة لغوية عويصة، ترسل اشارات خفية للعقول وللاوعي بسيادة الجنس الذكوري على الأنثوي. إلا نحن، ونحن لا نزال نعظم البشر الذين يحملون صفات ‘الذكورة’ البائدة من قوة وعنف وفتك بالأعداء، ولربما أوضح الأمثلة على هذا التوجه هو مثال المشير السيسي الموصوف ‘بالدكر’ بالعامية المصرية. ولأننا نحن شعوب ردود الأفعال والإنتقام، أصبحنا نعلق كل المشاكل والهزائم والفشل على شماعة الاخوان، وأصبح الحل في ‘حل’ وسط الأخوان، وأصبح ‘الدكر’ هو من يُعمل قمعه وعنفه فيهم.

نحن، عرب ومسلمين، غريبي الأطوار. دوما ً ننتظر ‘المخلص’، رجلاً مقاتلاً مغواراً، ذو صفة دينية أو عسكرية، وفي الغالب ندمج الاثنين ونوحدهما. فصدام كان من سلالة الرسول، والأسد من امتداده، الخميني يقترب بقوة من صورة المهدي المنتظر، ومرسي تناوله لنا الأحلام على أنه خليفة الله ورسوله في الأرض. واليوم السيسي، عدو مرسي، أصبح بقدرة قادر المخلص الجديد.

بالأمس كان عدو الخليفة، واليوم هو الخليفة، عاش الملك، مات الملك، فهكذا نحن، و’الي يتزوج أمي أقول له ‘. تاريخنا بلا شك يسهم في غرائبية وتناقض طبائعنا. هزائم وضغوطات، أنظمة حكم قمعية، حكومات فاسدة، صراعات دينية، والقائمة تمتد لتشير بوضوح لأسباب الخلل النفسية والفكرية عندنا. لذا ترانا نلهث خلف أي ‘رجل’ يعلن نفسه ‘مخلصاً’، نعظمه ونبجله حتى يصبح الهاً منفوخاً يطير فوق رؤوسنا جميعاً، نحوله عن نبل مقاصده، ان وجدت، ونصنع منه ديكتاتوراً، ثم، بعد أن يطفح بنا الكيل، نتمرد ونستوحش ونميته ضرباً بالأحذية، كما حدث مع القذافي، سليل آخر، حسب ادعائه، للرسول الكريم.

واليوم يوم ‘دكر’ جديد، مخلص القرن الواحد والعشرين. اليوم المشير السيسي ينزل الانتخابات بعد أن نفض الساحة من منافسيه، ديمقراطية 2014 بنكهة عربية. انتخابات؟ موجودة، منافسين؟ وما الداع اذا كانت الانتخابات أصلاً محسومة؟ شعوب حاسمة جازمة لا نضيع وقتنا في الاستماع للمرشحين فضلاً عن السماح لهم أصلاً بالتنافس أمام ‘الدكر’، هو ‘دكر’ واحد، ينزل الانتخابات، ينجح، يصعد الكرسي، يجتمع مع نفسه، يصدر القرارات، يطلق الأحكام، ‘يناغش’ القضاء، يعارض نفسه، يتعارك معها، ثم يوافق على قراراته، ويرفع الاجتماع. هكذا هي ‘الدكورة’ عندنا، أما ديمقراطية ورأي الشعب والحرية والمشاركة السياسية، فتلك تضييع للوقت، و’لت وعجن’، و’كلام نسوان’ يأتيه قادة الغرب الذين يجزم العرب ببرود دمهم بسبب لحم الخنزير الذي يأكلون.

أضحك الله سننا وأورثنا الجنة، نحن مبدعون في كل شيئ نستلفه من الغرب. نستورد الأزياء فنلخبطها فنبدو كبهلوانات، نستورد المكياج فنبالغ به، فنبدو كالأراجوزات، نستورد الديمقراطية فنعجنها ونخبزها، تدخل الفرن ديمقراطية، تطلع من الناحية الثانية ثيوقراطية، بنكهة دينية، وذرة سلطوية، ورشة قمعية، خبيز رجالي فائق الصنع. وتدور الأيام، وذاك الذي خبزناه سنقضمه ونهرسه بأسناننا و نبصقه خارج أفواهنا، بعد أن نكون ضيعنا الثمين من الزمن. ومع ذلك، ويا سبحان الخالق، يتراكض ‘الدكور’ للخبيز، كل يحلم بأن خبزته هي الفائزة، وحده يستطيع دسها دساً في الحلوق. نحن…نستحق الجنة.

القدس العربي

فيديو

البحث