تمبكتو: صور نمطية وهويات قاتلة |
الأربعاء, 21 مايو 2014 19:25 |
في حديثه في المؤتمر الصحفي الذي أعقب عرض فيلمه “تمبكتو” في مهرجان كان السينمائي قال المخرج عبد الرحمن سيساكو “إن السينما لغة، وكل شخص يتحدث اللغة بلهجته ولكنته الخاصة وأنا أتحدث الفرنسية بلكنة” ولعل في هذه العبارة أبلغ تعبير عن فيلمه الجديد هذا الذي ظل فيلما ذا لكنة بل وتأتأة احيانا في لغته السينمائية وفي تعامله مع موضوعه وهو الجماعات الإسلامية المتطرفة. فسيساكو قارب موضوعه بكم كبيرمن الكليشيهات والصور النمطية والقوالب الجاهزة، كتلك التي تنتشر في وسائل الإعلام العالمية وتنتصر لصورة سطحية تفشل في سبر أغوار واقع بالغ التعقيد كما هي الحال في الصحراء الأفريقية وجنوبها. ------------------------------------------------------- المخرج عبدالرحمن سيساكو (يمين) مع الممثل هشام يعقوبي-- --------------------------------------------------------- واذا كان البعض يأخد على النظرة الاستشراقية تنميطها ومقولاتها التصنيفية التي تعجز عن اكتشاف القوانين والمحركات الحقيقية لواقع محلي بالغ التعقيد، فأن مخرجا مثل سيساكو (الذي يقدم في الغرب في صورة ابن البلد العارف بتعقيداته) يبدو أكثر “ملكية من الملك” في تعزيز الصورة النمطية المقدمة عن دول العالم الثالث في آسيا وأفريقيا في كثير من وسائل الإعلام الغربية. وهذا ما نجده في وضوح في فيلمه الذي نال اعجاب عدد من المعلقين والنقاد (لموضوعته في الدرجة الاساس) وحظي بشرف الحضور في قائمة مسابقة مهرجان الكبرى التي ضمت عدد من رموز السينما وكبار مخرجيها. في مديح الهجنة والمفارقة الأكبر هنا هي ما يردده البعض في الصحافة العربية في الحديث عن فيلم تمبكتو بوصفه الممثل الوحيد للسينما العربية في مسابقة مهرجان كان الكبرى، مستندين الى أن سيساكو مورتياني. وواقع الحال أن سيساكو موريتاني المولد(1961)، نشا وترعرع في مالي وأكمل فيها دراسته الابتدائية والثانوية(يشير البعض إلى أنه من أب مالي وأم موريتانية)، ثم عاد إلى موريتانيا لفترة قصيرة ليحصل على بعثة لدراسة السينما في الاتحاد السوفييتي السابق في عام 1983، عاد بعدها ليستقر في فرنسا ويعمل في إطار صناعة السينما هناك. ولعل تكوين سيساكو الثقافي هو خلطة واسعة لهذا التنقل في الجغرافيا بين الثقافة الأفريقية والعربية الإسلامية والثقافة الغربية والفرنسية على وجه التحديد، وفي الزمان بين مناخ حركات التحرر والحرب الباردة (تعلمه ودربته في الاتحاد السوفيياتي السابق) واستقراره لاحقا في الثقافة الغربية الفرنسية. لقد امتدح منظرو النقد ما بعد الكولونيالي (هومي بابا وادوارد سعيد وغياتري سبيفاك) فكرة الهجنة وعدوها عنصر قوة ومدخلا لوعي نقدي متحرر من ثقل تقاليد وقيود فكر الهوية. وإذا كان سيساكو نجح في استثمار هذه الخلطة و(الهجنة) في تكوينه في موضوعات أفلامه السابقة الروائية والتسجيلية، وتمكن من لفت الانتباه لعمله الفني منذ مشاركته الأولى في مهرجان كان عام 1993 بفيلم “أكتوبر” ولاحقا في أفلامه الأخرى امثال “الجمل والعصا الطافية” 1995 وصابريا 1996 ورستوف ـ لوندا 1997 و”الحياة فوق الارض” 2000 و”في انتظار السعادة” 2002 وباماكو 2006 . الا أنه في هذا الفيلم يتخلى عن هجنته ويبدو غارقا في تمثيلات ومقولات هويات متصارعة وأسيرا لعدد من الصور النمطية السائدة. وتعمق هذا المأزق حين هيمنت تلك النمطية على بناء شخصياته التي تناثرت وسط حبكة سردية مهلهلة توزعت على اكثر من خيط سردي دون نجاح في لم امتداداتها واستطالاتها السردية. غرباء يبدأ سيساكو فيلمه بمشهد ذي صبغة رمزية واضحة لغزال يلهث مرعوبا هاربا تطارده سيارة دفع رباعي تحمل مسلحين واضح انتمائهم للجماعات الاسلامية المتشددة وهم يطلقون الرصاص عليه. يعقبها مشاهد أو لوحات تمهيدية تنثر شخصياته وخيوطه السردية الرئيسية وتقدم صورة للرعب الذي تبثه هذا الجماعات المتشددة على الأهالي. ويتوزع السرد في خطين اساسيين هما عناصر الجماعات الاسلامية المتشددة وغزوهم للمدينة وما يحاولون فرضه عليها من قيود وتقاليد متشددة وتفسير متشدد للشريعة الاسلامية ومخالف للتقاليد التي اعتاد عليها الاهالي. فترى عناصر هذه الجماعات يجولون في المدينة على دراجات نارية أو بشاحنات صغيرة داعين عبر مكبرات الصوت إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وإلى الالتزام بقائمة طويلة من الممنوعات بنظرهم كالموسيقى والرقص وكرة القدم ،وينتشر مسلحوها في الأزقة او على سطوح البيوت مراقبين الناس. وحرص سيساكو على تصويرهم بأنهم غرباء عن المكان عبر حديثهم بلغات متعددة مختلفة عن لغة طوارق مالي (التماشيقية وهي لهجة أمازيغية) فجعل قادتهم كأبي جعفر يتحدثون اللغة العربية الفصحى، وبعضهم يتحدث الإنجليزية.(نطقت شخصيات الفيلم بست لغات حسب دليل الفيلم الفرنسية والانجليزية والعربية والتماشيقية والبمبارا والسونغي) وقد بدا هذا الخط أفقيا وصفيا يستعرض عبر مجموعة من المشاهد انغلاق عناصر هذه الجماعات وفرض هيمنتهم على المدينة. فلدينا هنا قصة بائعة السمك التي يهددها المسلحون بأن تخفي يديها بقفازات، فترفض ذلك وتهددهم بالسكين، والصبي الذي يحب موسيقى الراب لكنه يقف أمام الكاميرا حيث يقوم مصور المسلحين بتلقينه بشأن توبته (وهو مشهد ناجح جدا في أداء ممثليه وفي لمسة السخرية العالية التي حملها، حيث يطلب المصور من الشاب المرتبك التمثيل بحماس أمام الكاميرا ويمثل أمامه كمخرج سينمائي طريقة اعترافه)، وخط ابو جعفر أحد قادة الجماعة ومحاولته اغواء زوجة كيدان، والشاب المترجم مع الجماعة القادم من ليبيا، والمقاتل في صفوف الجماعة الذي يتحدث الانجليزية ويتقدم لخطبة إحدى الفتيات من أهلها ثم يهددهم ويجبرهم على تزويجه منها.. و مشاهد أخرى تمر بسرعة ويبدو بعضها مجرد استطالات في السرد لا تخدم سوى تقديم صورة عن سلوك الجماعات ولا تخدم خط السرد الدرامي الرئيسي. والخط الثاني هو كيدان الطوارقي (الممثل ابراهيم أحمد) الذي يعيش في خيمة على أطراف المدينة ولديه عدد من الأبقار يرعى بها صبي بشكل دائم، ووزوجته ساتيما (الممثلة تولو كيكي) وابنته الصغيرة مقابل الصياد ذي الاصول الافريقية الذي ينشر شباكه في النهر، وهذا الخيط هو الخيط الدرامي الذي يتنامى عموديا ويتصاعد مع قتل الصياد لإحدى أبقار كيدان ثم قيام كيدان بقتله في مشاجرة وعراك بالايدي بينهما، وإذا كان هذا المشهد قد بدا في بدايته مرتبكا مع المبالغة في حركات الشخصيتين في لحطة الشجار والقتل إلا أن نهايته كانت بالتأكيد واحدا من أجمل مشاهد الفيلم عندما يترك كيدان ضحيته ويخوض في ماء البحيرة الصغيرة بعيدا حيث يلجأ سيساكو إلى لقطة عامة للبحيرة والعودة إلى الطبيعة وسكونهابينما يتضاءل الشخصان القاتل والقتيل وسطها. ويجمع المخرج الخطين مع قيام عناصر الجماعة الإسلامية المتشددة باعتقاله ومحاكمته واقامة الحد عليه بتهمة القتل، وهي المشاهد التي تأخذ الثلث الأخير من الفيلم وتصل ذروتها في لحظة قيادته الى محل إعدامه ومن ثم مقتله مع زوجته برصاص المسلحين الذين رأوا أنها ستطلق النارعليهم. لينتهي الفيلم بمشهد الصبية بنت كيدان والصبي الراعي تائهان في الصحراء. أين تمبكتو؟ عندما سمعت عنوان الفيلم ” توقعت أن أرى فيلما سيصور تلك المدينة الغنية بتراثها الإسلامي الصوفي ومخطوطتها وعمارتها الطينية المميزة وتنوعها العرقي وعوالمها المختلطة بين أعراق وثقافات متعايشه في جنوب الصحراء(وقد عدتها اليونيسكو إحدى مواقع التراث الإنساني التي يجب الحفاظ عليها)، إلا أن المدينة التي حمل الفيلم اسمها بدت غائبة كمكان في هذا الفيلم، ولم نر سوى مشاهد محدودة في زقاق بسيط أو بيوت طينية بسيطة ومشاهد لمسلحين يتنقلون على سطوح بيوت ريفية بسيطة وفي أزقتها أو مشاهد خارجية لفضاءات ريفية او صحراوية يفترض مجاورتها للمدينة. ربما كان العامل الأمني سببا أساسيا وراء هذا النقص، حيث يصعب على المخرج قيادة كادرة الفني للعمل في منطقة مضطربة وتنتشر فيها الجماعات والميلشيات المتطرفة. لذا اختار منطقة يفترض أنها قريبا في بيئتها من المنطقة الأصلية ليصور مشاهد في فيلمه في منطقة في جنوب موريتانيا قرب الحدود المالية. وتعمقت ما أراها أزمة أصالة في هذا الفيلم مع غياب المكان وهيمنة الصورة النمطية فضلا عن استعارات وتناصات اسلوبية رزح سيساكو تحت ثقلها من مشاهدات سينمائية سابقة. وامتد ذلك حتى إلى الموسيقى التصويرية التي وضعها التونسي أمين بوحافة وبدت الثيمة الموسيقية الرئيسية فيها تنويعا واضحا على مقطوعة للمؤلفة الموسيقية اليونانية ايليني كارايندرو التي اعتادت على وضع الموسيقى التصويرية للمخرج ثيو أنجلو بولوس، وهي هنا تحديدا من فيلمه “المرج الباكي”. وفي السياق ذاته، نرى أن سيسكو في أحد المشاهد يظهر شبابا يلعبون كرة القدم بدون كرة بسبب منع المتشددين للعب الكرة وتحريمه، وفي ذلك عودة واضحة للعب الاديب الارجنتيني كورثازار على العلاقة بين الوهم والواقع في قصته الشهيرة التي جسدها المخرج الايطالي الشهير انتونيوني في فيلمه الشهير “بلو أب” او تكبير الصورة حيث قدم مشهدا للعبة تنس بدون كرة (وقد سبقني بعض النقاد في التلميح إلى هذه الاستعارة). وبدت بعض المشاهد مبالغة في غرائبيتها وسط سياق يفترض أنه واقعي في الفيلم، كما في خيط المجنونة أو العرافة الأفريقية وتلك الرقصة الغريبة التي يؤديها احدى شخصيات الفيلم في بيتها. لقد بدا سيساكو وكيسين تال غير قادرين على السيطرة على الخطوط السردية المتعددة التي رسماها في سيناريو فيلمهما، وعجزت حكاية (كيدان والصياد) عن أن تكون حكاية اطارية تلم كل الحكايات الأخرى في الأسلوب المعتاد في مثل هذه الاشكال السردية ونموذجها الأبرز ألف ليلة وليلة. ولمن يعرف طبيعة الصراع الدائر في مالي وموريتانيا والسنغال، لا تخفي عليه الدلالة الرمزية في صراع كيدان والصياد من إحالة إلى الصراع بين المجموعات العرقية ذات الأصول الافريقية والعربية والأمازيغية، بل أن أحد النقاد في صحيفة الغارديان لمح إلى دلالة رمزية للبقرة بوصفها مالي التي ظلت طريقها. وللإيحاء بمعرفة أوسع في سياق الصراع وتفصيلاته لجأ سيساكو مع شخصية شيخ المسجد إلى تقديم خطب واسعة ومباشرة واستشهادات من القران في محاججاته مع المتشددين الإسلاميين، إلا أنها بدت خطبا ممله ومباشرة وعلى قدر كبير من التبسيط في مناقشة قضايا شائكة شغلت حيزا كبيرا في الفقه الإسلامي وفقه الجماعات السلفية والتفسيرات المتطرفة لها. ومقابل هذه الإفاضة الكلامية بدا تصوير الشخصيات التي تمثل المتشددين الإسلاميين في سياق أحداث درامية مبتسرا، وكاريكاتوريا وسطحيا إحيانا، فنحن لم نعلم أي شي عن دوافعهم وظروفهم التي قادتهم إلى التطرف أو حتى سلوكاتهم ككائنات إنسانية متطرف ، على الرغم من تصريحات سيساكو بأنه حرص على تصويرهم على أنهم بشر من لحم ودم لهم مشاعرهم وهمومهم. من هنا هيمنت رؤية على قدر من المباشرة والتبسيط على هذا الفيلم، اختصرت واقعا وصراعا معقدا إلى محاولة مجاميع متشددة مصادرة مظاهر الحياة لدى شعب آمن في تمبكتو، قدمت في سياق ميلودرامي مال إلى الاستثارة العاطفية المباشرة التي قد يكون لها وقها الآني المباشرالذي سرعان ما يتلاشى حين تحل لحطة العقل والتأمل، كمشهد بكاء سيساكو في المؤتمر الصحفي بعد عرض الفيلم وقوله “أبكي نيابة عن أولئك الذي يعانون الالم الحقيقي” في الواقع. بي بي سي “العربية” |