المفكر عزالدين عناية: الإسلام السياسي السني يغلب عليه الطابع المظهري |
الثلاثاء, 30 ديسمبر 2014 11:36 |
لم يكن سفر المفكر التونسي عزالدين عناية من الزيتونة إلى روما انتقالا عاديا أو ترحالا كما الغير، بل كان سفرا فكريا، خرج فيه من نطاق المحدود إلى عالم منفتح من الرؤى والتساؤلات ومحاولات الإجابة، فكم من الوقت .. وكم من الحيرة اجتاحت هذا الشاب العربي.. ليقف في مفترق طرق حياتية وفكرية، ويسأل عن هذا العالم الذي غادره وذلك المقبل عليه، هنا كان السؤال الأول.. سؤال الهوية، ومعه مساحات من التوقف والتأمل والتفكير. من مجتمع محلي تحدد ملامحه العادات والتقاليد إلى مجتمع “كوزموبوليتاني” تضيع فيه التحديدات والملامح ويصنع فيه البشر ملامح جديدة لحياة جديدة، وتشكيلات تتسم بالإبداع والجدة. هذا العربي المسلم المستنير تراه ماذا هو فاعل على أرض هي مهد الكاثوليكية في العالم، أي نظرة دينية اختلفت عنده لفكرة الدين ذاته، وكيفية ارتباط الدين بالمجتمع ومدى التأثيرات المتبادلة بين ما هو لاهوتي وما هو اجتماعي، هذا الكم الهائل من الأسئلة دار في ذهن هذا العربي الأستاذ في جامعتي “لاسابيينسا في روما والأورينتالي في نابولي” لذا نتحاور معه حول رحلته الفكرية وانتقاله الذي نطرحه في صورة عنوان “من لاهوت التحريم إلى لاهوت التحرير” ) ونسأل أنفسنا معه هل إجاباته هذه تعني لنا حلا لإشكالية مؤرقة، إشكالية الدين والحياة. بين حدين، حد إسلامي قرره النبى محمد excaim حينما قال: “أنتم أعلم بشئون دنياكم”، وحد آخر وضعه السيد المسيح عندما قال: “اعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر” كيف يستخدم الحرمان الاجتماعي في دائرة التحريم الديني، وكيف يستطيع الدين أن يحرر الإنسان من حاجاته اليومية، من خوفه ومن فقره. عزالدين عناية أستاذ تونسي إيطالي يحاضر لشباب العالم في أوروبا والغرب. ويشرف على رسائل تخرّج عشرات الطلاب الإيطاليين المتخصصين في شؤون العالم الإسلامي. أهم مؤلفاته: “الأديان الإبراهيمية: قضايا الراهن”، “العقل الإسلامي عوائق التحرر وتحديات الانبعاث”، “نحن والمسيحية في العالم العربي وفي العالم”، “الاستهواد العربي في مقاربة التراث العبري”؛ ومن ترجماته: “الفكر المسيحى المعاصر”، “السوق الدينية في الغرب”، “علم الاجتماع الديني”، “الإسلام في أوروبا. أنماط الاندماج”، “الإسلام الإيطالي”، “علم الأديان”. الدين لله والحياة لمن؟ ضمن التفسير السوسيولوجي، لا وجود للدين في غياب الإنسان ولا معنى لحياة يتوارى منها البشر، وبالتالي الدين للإنسان والحياة للإنسان. ولكن وفق الإجابات المأدلجة هناك تقسيمات ما أنزل الله بها من سلطان، مثلما قيل “الدين لله والوطن للجميع”. فقد استهلكنا هذا الشعار دهرا ولم نحقق التعاطي الديمقراطي مع الدين، ولم نبلغ مفهوم “الدين المدني”. لذلك أرى ضرورة التفكيك الدائم للمفاهيم وإعادة صياغتها مجددا، وطرح الأسئلة والبحث عن إجابات علمية لها بعيدا عن تبني رؤى الآخرين. فلكل عصر رؤاه ولكل أمّة جعلنا منسكا هم ناسكوه. ففي التعاطي العربي، غالبا ما يُطرح السؤال الديني، وتُتلمَّس الإجابة له من داخل النسق اللاهوتي. لعل ذلك عائد إلى أن المعالجة العلمية الشاملة، بمفهوم الفرنسي ميشال مسلان، لا تزال يتيمة في الثقافة العربية، بموجب هيمنة رؤى تصورية إيمانية لم تنفتح على مقاربات علم الأديان. ذلك أن الدين، كظاهرة اجتماعية خارج وعي الإنسان، لا وجود له. ومن هذا المنظور يغدو الدين ظاهرة لصيقة بالاجتماع، ولا سبيل فيه للحديث عن “الكائن المتدين” خارج النسق الاجتماعي. الدين والحياة أم الدين للحياة؟ اتسمت علاقة الدين بالاجتماع في التاريخ العربي المعاصر بطابع التوتر، جراء محاولات الاستحواذ عليه من فريقين: السلط الحاكمة وتيارات الإسلام السياسي. كان كلاهما يدرك ما للدين من قوة وسحر وتأثير على الجماهير. هذا الوضع الاستحواذي بالفعل هو وضعٌ إشكاليٌ، يفرض التعاطي السليم مع الوضع للخروج من المعركة الشرسة بأقل الخسائر، والتي تمثل مصر اليوم أبرز ساحاتها. أقدّر أن ما هو مطروح راهنا ومستقبلا هو السعي لإعادة الدين للناس، للحياة، بعد محاولات مصادرته. فلا يمكن للدين أن ينعم بوضع سليم وهو مرتهَن من قبل طرف مّا، يزعم حيازته والوصاية عليه. ذلك أن الشعوب تختلف في تعاملها مع الشأن الديني، حيث التجارب عديدة والصياغات متنوعة لكيفية تعايش الدين مع السياسة، فليس في تسلّط أحدهما، أو في الفصل المجحف بينهما الخلاص. فالعلمانية علمانيات، و”الدين المدني” ضروب شتى، من جون جاك روسو مبدع مفهوم “الدين المدني” (1762) إلى عالم الاجتماع روبار بلاّه صاحب مؤلّف “الدين المدني في أمريكا” (1967). والعلاقة السوية بين الدين والاجتماع، ولا سيما منها بالسياسة التي تمثل النواة الشائكة في الراهن العربي، يصنعها الناس، وليست لباسا يُستعار من مشجب الغير. والحقيقة أن الرِّيبَة من الدين اليوم، وأقصد الإسلام تحديدا، هي جرّاء تحويله، في تصورات الناس، إلى دين غير مدني، والإصرار على استهلاك تلك الصورة النمطية. فـ”القرآن كتاب مسطور لا ينطق وإنما ينطق به رجال” على حدّ قول الإمام علي؛ وبالتالي يبقى الفهم الديناميكي للإسلام وحده القادر على إخراج الإسلام من ورطته. والواقع يكشف أن الدين بشكل عام ينهض بنهوض وعي من يدينون به وينتكس بانتكاس وعيهم، لذلك يُلوّن البشرُ معتقداتهم باللون العقلي واللبوس الحضاري الذي يتلوّنون به. كيف يمكن عقد الصلة بين المطلق والنسبي؟ ضمن ثلاثيته المهمة حول الأديان الإبراهيمية، وتحديدا في المؤلف الخاص بالإسلام “الإسلام: الماضي والحاضر والمستقبل” المنشور بالإيطالية (2005)، يلخص اللاهوتي الألماني السويسري هانس كونغ إشكالية الإسلام الراهن، التي على ضوئها يتحدد مستقبله، في ضرورة الخروج من تأبيد وتأزيل النمط الحضاري الديني، فلكل عصر قراءته للدين. وكل نمط في وعي الدين هو تمثّلٌ لأجلٍ مسمّى، وهو عرضة للاهتراء والتقادم. لعلّ الرجل قد أصاب كبد الحقيقة، فنحن لا زلنا نتأرجح ما بين المطلق والنسبي، بين الحنين للحظة النقاء المفعمة بعبق سحر النبوة ومستوجبات التاريخ المتحول. ولم نعِ بعدُ أن الواقعية والوفاء للحظة الراهنة هو الصواب. هل مبادئ الدين مبادئ كلية أم تفاصيل حياتية؟ الدين هو في الآن مبادئ كلية وتفاصيل داخل التفاصيل، تسعى لاستيعاب ما هو متشظّي. ولكن هذه الترسانة من المبادئ والتفاصيل، لن تفيد بشيء ما لم يع المرء أن كافة تلك التمثلات لا معنى لها ما لم تعبّر عن حاجة فعلية للناس، وعلى هذا فالناس هم من يصنعون وعيهم بالدين. ربما ضمن هذا السياق يتنزّل قول محمد إقبال بانتهاء النبوة. فمن هذا المنطلق تصبح كافة الرؤى الفكرية في الحياة مشروعة، باعتبارها التماسا للاستخلاف الذي يتحمّل فيه الإنسان أمانته، بعد غلق باب النبوّة واكتمالها في التاريخ. ولا أقول إن المجتمعات المركَّبة، التي بلغت مستوى من النضج الوجودي والوعي الفكري، يغدو الدين لديها مبادئ كلية، في حين في ما دونها يبقى عند مستوى التفاصيل. لأنه لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما قدرت أن تدفع بالناس نحو خيار محدد من هذين الخيارين. لذلك الدين في البلاد العربية، أكان إسلاما أو مسيحية، هو في حاجة إلى إعادة اكتشاف ثانية، للحدّ من الابتعاد المفزع عن جوهره، كما يقول اللاهوتي بول تلّيش. ولكن معاودة تأسيس خطاب الدين في العقل والوجدان، تبقى إحدى المغامرات الشائكة والمعقَّدة، في ظلّ حملات التشويه والمصادرة والاحتكار والتنافس المحمود والمذموم من أطراف عدة. حاول بول تلّيش بعثه مجددا داخل المنظومة الثقافية، وفق ما يسمّيه لاهوت الثقافة، باعتباره السبيل المتاح لإعادة الدين إلى نقائه. وبالفعل ما نتطلع إليه اليوم في علاقتنا مع الإسلام، ومع المسيحية على حد سواء، أن نعيد التساكن بين جوهر الدين ومنطق العصر، دون تضارب أو تقابل بينهما. ولا يعني هذا سعيا براغماتيا لتجاوز حالة الفصام، ولكنه نابع لدينا من إيمان بحدوث تشوّه في الجوهر الرسالي، تشوّه مسّ دلالات النص، وتشوه مسّ الوعي بالنص أيضا. أن نتأمل في الدّين لا كما يريد السّدنة، وأن ننظر في الشرائع لا كما تنشد المؤسّسة، مهمّة في غاية المجازفة، رغم وعورة الطريق فالخلاص يلوح هناك. الدين والحياة توجيه وإرشاد أم تخطيط وتنفيذ؟ حين يتحول الكائن المتدين إلى مجرد آلة عمياء في علاقته بالدين، أو بشكل أوسع مع كل ما يمتّ بصلة للحقل الديني، يفقد الدين مقصده التحريري. لذلك حريّ الخروج بالدين من التلقين، ومن “الكاتيكيزم” بالمفهوم الكاثوليكي، بقصد بناء علاقة حوارية متزنة مع المقدس عامة. ليس الدين قهرا للعباد وحدّا من حريتهم، حتى يتحول الكائن المتدين إلى آلة تنفّذ ما يُملى عليها، أكان من قوى غيبية أو من سدنة موكّلين بأمر المقدّس. فبهذا الشكل ينتفي البعد التحريري والتحرري للدين ليغدو منظومة قهر وكابوسا مرهقا للمرء، وهو ما لا نذهب إليه. ثمة فارق بين لاهوت التحرير ولاهوت التحريم .. من واقع التجربة ما هي رؤيتكم؟ انتقالي من “الزيتونة” في تونس إلى “الجريجورية” في روما، ومن مجتمع سنّي مسلم إلى مجتمع كاثوليكي مسيحي، زعزع في ذهني العديد من المفاهيم. لعل من بينها أن العلمانيين واللاأدريين والملاحدة، الذين تربّيت على أنهم أشد الناس عداوة للدين، قد وجدتهم أقرب الناس مودّة إلى الإسلام المهاجر من أرباب الكنيسة (أتحدث عن الواقع الأوروبي الذي أعيش فيه)، هذا بشكل عام. وأما من جانب آخر، ففي السياق العربي لا يمكن الحديث عن لاهوت التحرير، بالمعنى الأصيل للظاهرة المتولدة في أمريكا اللاتينية، وإن تشابهت الوقائع الاجتماعية بين كثير من البلدان في الفضاءين. حيث يمكن تلخيص طرح لاهوت التحرير في جملة من العناصر: – الإدانة الصريحة للرأسمالية ومن ورائها الليبرالية الجديدة، باعتبارها خطيئة بنيوية، مع توظيف أدوات النقد الماركسية في تلك العملية. – خيار موالاة الفقراء سعيا لتحقيق التحرر الاجتماعي لهؤلاء المستضعَفين. – واعتبار الوثنية الجديدة الخطر المحدق بالدين لا الإلحاد كما يصوَّر، بصفة الوثنية هي النمط الرأسمالي المتجلي في الاستغلال في “دِين رأس المال”، الذي يضفي طابعا قدسيا على البضاعة، التي باتت معابدها (البنوك)، وإكليروسها (الممولون)، ولاهوتها (المتشكل من المخططات الاقتصادية). ربما في هذا الصدد تجدر العودة إلى أعمال اللاهوتي البرازيلي من أصل كوري جونغ مو سونغ في كتابيه: “وثنية رأس المال وهلاك الفقراء” (1989) و”اللاهوت والاقتصاد” (1994) لمتابعة تغير شكل المذبح الذي باتت البشرية تقدم عليه قرابينها. في واقعنا العربي المعاصر هناك فهمٌ للدين من منظور التحريم، ولا أتصور أنه يرتقي إلى لاهوت قائم الأركان، بل هو فوبيا مرضية، منجرّة عن فهم سطحي هيمن على الرؤية الدينية، مع أن فقهاءنا قديما صاغوا قاعدة فقهية جليلة بقولهم “الأصل في الأشياء الإباحة”. وفوبيا التحريم هذه قادتنا إلى صحوة دينية مشوَّهة، تحدّدت خريطتها بما هو حلال وبنقيضه ما هو حرام. أُدخل المسلم حقلا دلاليا ورمزيا قسرا، والحال أن معركته مع اللامعقول والاستغلال والتدمير لكيان الفرد المادي والمعنوي. هل لاهوت التحرير ثورة دين أم ثورة على الدين.. أي ثورة على الدين من الخارج أم عملية تثوير داخلية من حيث هو دين له مبادئ معينة؟ أتى لاهوت التحرير بالأساس ثورة داخل الدين، وثورة على المؤسسة الدينية، على كنيسة روما بالأساس. لم يحصل أن تنكر لاهوتيو التحرير لكنيستهم الكاثوليكية، لكن ما حصل هو التطلع لإصلاح الانحرافات التي دبت في المركز، فقد تأوربت المسيحية وترسملت، أي صارت أوروبية وغدت ذات طابع رأسمالي. وتحديدا ليس الإصلاح المراد إصلاحا دغمائيا، أو ليتورجيا، بل هو إصلاح في الخيارات. من تُوالي الكنيسةُ الفقراءَ أم الأغنياء، الجياع أم المتخمين، المستضعَفين أم المستكبِرين؟ فالفرق بين الإصلاح البروتستانتي وإصلاح لاهوت التحرير جوهري، لئن توجّه الأول إلى أصول الدين من حيث تحريرها من الإكليروس وإعادة توزيعها بين الناس، فإن الثاني لم يكلف نفسه عناء إصلاح الدين مرتئيا أن الخلاف الأساسي مع روما في خيار الموالاة داخل الكنيسة للفقراء أم للأغنياء. فمن جانب ما يعرف بمجال “نقد الكتاب المقدس” لم يقدّم لاهوت التحرير شيئا يذكر، وإنما كانت إضافته في التذكير بجوهر الرسالة المسيحية نصيرة الفقراء الذين بشروا بوراثة الفردوس. هل يصلح لاهوت التحرير على الأرضية العربية الإسلامية.. وهنا نتحدث عن اختلاف البيئة أم اختلاف الدين؟ حين بدأ الأستاذ حسن حنفي في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي بالتنظير لمسألة اليسار الإسلامي، وجدت أطروحاته صدى طيبا في تونس، لاسيما في أوساط مجموعة (15/21) ذات المنحى الإسلامي التقدمي. وهو بالفعل استنساخ لنموذج أمريكا اللاتينية، على اعتبار أن البؤس الاجتماعي متفشّ في العديد من الأوساط لدينا. كما سعت تلك المجموعة في الآن نفسه إلى ردم الهوة الفاصلة بين الفكر الحداثي العلماني والفكر الديني، من خلال طروحات نقدية ومراجعات. وكانت واعية بأن تراثا من اللامعقول جاثم على العقل الديني لدينا. وأن المسائل الاجتماعية والاقتصادية والنقابية طارئة على العقلية الدينية، وحري التنبه إليها. لكن ذلك الخط التقدمي في تونس ممثلا في الأستاذين حميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي، وهو عبارة عن شكل من لاهوت التحرير الإسلامي، أُجبر على الصمت. وانهمكت السلطة –سلطة السابع من نوفمبر- في ما عُرف بسياسة تجفيف المنابع، التي أهلكت الزرع والضرع. ولذلك العنف المتلبس بالدين الموجود اليوم في تونس هو عنف متخلّد وليس عنفا ناشئا جراء الثورة كما يروج. ومن منظوري الشخصي أومن أن لكل مكان عبقريته في التعاطي مع أوضاعه، ولكل دين “موسيقاه” في التغيير الحضاري، ولستُ ممن يرون توريد الأنماط الدينية على غرار ما يقول به البعض: نحن في حاجة إلى “بروتستانتية إسلامية” أو إلى “لاهوت تحرير إسلامي”، أو إلى “أحزاب ديمقراطية إسلامية” على غرار “أحزاب الديمقراطية المسيحية”. مآزق الشعوب لا تحل باستيراد الحلول بل بإبداعها، والشعوب التي لا تبدع من داخلها سُبل قيامها فبشّرها بالزوال. ولا يعني ذلك الانغلاق، بل توظيف الوعي بالآخرين لإثراء الذات لا لتدمير قدراتها. ثمة ثورات وحركات خروجية في تاريخ الإسلام –الزنج, القرامطة, الخوارج- كيف يمكن قراءتها الآن في ضوء المتغيرات على ساحة الإسلام السياسي؟ الإسلام السياسي العربي هو حركة سياسية وليس حركة فكرية، لذلك ما يناهز القرن من الحضور وهو يراوح في المكان نفسه. فهو عملاق من صلصال، قادر على الحشد وعلى التهييج وعلى الدفع بالناس في مسارات حالمة، ولكنه عاجز عن تحوير البنى العقلية للشعوب أو إنقاذها مما ترزح فيه. فالإسلام السياسي لم يُعِدْ قراءة التاريخ الإسلامي، ولم يُعدْ حتى قراءة العلوم الإسلامية التي هي أقرب إليه، على غرار علوم الحديث والقرآن والفقه وأصوله والمواريث وما شابهها. وبالتالي فالإسلام السياسي هو خط يميني اتباعي (حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا). وحركات الزنج والقرامطة والخوارج –وفق منظوره- هي حركات بغاة وخوارج، عن نسق أهل السنة والجماعة، لا كما نعتموها خروجية. تعوز الإسلام السياسي رؤية تاريخية معمقة لتاريخ الإسلام عامة ولما نشأ حوله. وحين نقول رؤية تاريخية معمقة نقول حركة نقد تاريخي، وهو ما يغيب لديه بشكل جلي. لذلك تجد هشاشة في خطاب الإسلام السياسي وانحصارا في الآني وفي الراهن. وهو ما جعله اتباعيا في موقفه من العديد من القضايا في تاريخنا. في إطار تشابه الصراع بين الطوائف المختلفة داخل الدين الواحد .. وفي إطار لاهوت التحرير ولاهوت التحريم .. كيف ترى الصراع بين البروتستانت والكاثوليك وبين السنة والشيعة .. ما أوجه الشبه والاختلاف؟ إن كان ثمة قاسم مشترك بين الصراعين، لدى طرفي النزاع في كلا الدينين، فهو السعي للفوز بالمشروعية. لكن الصراعين مختلفان مبنى ومعنى. يأتي الحراك داخل فضاء ديني واجتماعي لا تتشابه فيه الطروحات ولا الوسائل. الصراع السني الشيعي اليوم يعبّر عن أقصى درجات اغتراب العقل الديني لدينا، عن ورطة العقل الإسلامي في وحَل السياسة جراء تدني الرشد، وذلك من خلال استحضار عناصر صراع لا تمت للواقع بصلة وإعادة استثمارها مجددا في الراهن. لا أقول إن اللاوعي الجمعي العربي، بالمفهوم اليونغي، هو المتحكم بالراهن، ولكن هناك أمّية دينية تدعمها صبيانية عقلية ندفع ضريبتهما. الصراع بين البروتستانت والكاثوليك -برغم وجهه العنيف في مراحله الأولى- ولّد رؤى جديدة في الدين والحياة. أفرز “الإصلاح” و”الإصلاح المضاد” وما تمخض عنهما من تحريك للواقع الفكري والديني في الغرب. وإن كان هناك من درس لذلك في الواقع الإسلامي فهو أن نخرُج من الصراع العنيف بين السنة والشيعة، لأنه مدمر لكلا الطرفين ومن ثمة للإسلام، إلى التنافس الثقافي والمعرفي. طيلة مرحلة دراستي في جامعة الزيتونة كان كل ما يمت للتشيع غائبا فقها وتاريخا وتفسيرا، وإن حضر فبوجهه السلبي؛ ولكن حين انتقلتُ إلى الجامعة البابوية الجريجورية في روما كنت أدرس ضمن المقرر الدراسي تاريخ الإصلاح البروتستانتي ومنظوره الديني والفلسفي للكتاب المقدس وغيرها من المقررات، هذا هو الفارق بيننا وبينهم في التعاطي مع المنافس والخصم. كيف تفسر الردة الإنجيلية الأصولية بأمريكا هل فشل العقل الوضعي أو الفكر الوضعي؟ في أمريكا السوق الدينية مشرعة على التنافس الحر، بما لا يضاهيها أي فضاء ديني آخر. وقد استطاعت الإنجيلية الأصولية أن تفرض نفسها داخل هذه المعترك. يقول سباستيان فات، أحد كبار المختصين الفرنسيين في الظاهرة الإنجيلية، إن الإنجيلية حاملة لطابع مقاولاتي قادر على إغراء الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء في أمريكا. وكما أسالت لعاب جورج بوش الابن فهي تقوم بالدور نفسه مع باراك أوباما أيضا. فكلاهما أدرك أن قوة الشبكات الإنجيلية، على المستوى العالمي، فائقة، وما يمكن أن توفره من سند “للقوة الناعمة” الأمريكية في مجال تصدير الديمقراطية، أو في مجال دعم الشركات الحرة، المعتمدة على جمعيات محلية فاعلة لا يُستهان به. ومن هذا الباب لا نقول إن العقل الوضعي، أو الفكر الوضعي، قد فشل في الغرب، ولكن هناك تبدلا للتدين، وانتشارا “للبريكولاج الديني” كشكل من الاعتقاد بدون انتماء، وتطورا لأنشطة الحركات الدينية. فمما يميز الإنجيليين التعويل على الفعل التبشيري، و”الولادة مجدّدا”، والهاجس التنصيري الطاغي في أوساطهم. حتى اكتسحت هذه الحركة ما يزيد على ثلثي البروتستانت في أنحاء العالم، في ظرف لا يتعدى الأربعة عقود، لتُقدَّر أعدادهم مع مطلع العام الحالي بـ 565 مليونا، وفق سباستيان فات. هل ترى ان غياب الحداثة وأمراض المتدينين وأزمة الهوية ونشوء الأصوليات والاستبداد والفساد وغياب الحرية والعدالة وراء ظهور الوحش الإرهابي أم هناك أسباب أخرى؟ بدءا لا يُرجى من حقل اجتماعي فاسد ومفسِد أن يكون مصدرا لصنع الأمن. ولكن لِنَعد إلى مسألة الدين والعنف التي باتت مهيمنة في الأوساط العربية. يورد الإيطالي إنزو باتشي في مؤلفه “علم الاجتماع الديني” أن العنف المشوب بالقداسة يأتي تحت ضربين: إزهاق لأرواح الآخرين وإزهاق للذات، أي القضاء المبرم على من لا ينتمي للتنظيم الديني أو كذلك إماتة من ينتمي للتنظيم. ففي الحالة الأولى نحن أمام أنواع الأصوليات العنيفة، التي تقترف العنف لفرض مبدأ ديني، تقدّر أنه مهدَّد من عدوّ خارجي؛ وفي الحالة الثانية ندنو من حالة التحمّس للاسشهاد الفردي والجماعي. وفي كلتا الحالتين يرتهن الالتجاء إلى العنف، ليس إلى حوافز ذات طابع إيديولوجي، متولّدة عن رؤية لاهوتية مميزة للعالم فحسب، بل أيضا إلى قاعدة تنظيمية أن قتل الذات أو الآخرين، له وظيفة تمتين اللّحمة داخل جماعة الانتماء. فليس اقتراف العنف نحو الآخرين أو نحو الذات عملاً عفوياً، بل يأتي جراء انقلاب ديني عميق، ينضُجُ في أعقابه اختيار طوعي للقيام بفعل القتل. وأمام هذا الاختيار ينغمس المؤمن، فردا كان أم جماعة، في عالم رمزي. فحين يدّعي تشكيل اجتماعي-ديني أنّه الطريق الوحيد والأوحد للخلاص، والقابض على ناصية الحقيقة المطلقة مقابل عالم خارجي يُعدّ بمثابة مملكة الشرّ، والتهديد الخطير للطهر والحقّ، الذي يتصور حيازته، فإن تطوّر احتمالات تفجّر بذور العنف تصير عالية. هل هناك حاجة ضرورية لترتيب العلاقة مع الشأن الديني أو إعادة الخطاب الديني إلى المسار الدعوي فقط؟ في ظل التحولات الكبرى لا يمكن تعليب الدين، أي حصره ضمن قناة رؤيوية محددة أو مسار بعينه. كان ممكنا في ما مضى ضبط وعي الناس، وبمقدور حكامهم أن يملوا عليهم ما يرتؤون، ولكن عصرنا الحالي يبدو أنه خرج من الضبط، فالناس هم من يقررون علاقتهم بالدين. وبات يصعب اليوم إقناعهم وإلزامهم بخط معين. صحيح أن المجتمعات العربية مجتمعات هشة ولا تتوفر على دعامة مؤسساتية قوية، أو وعي ثقافي عميق، أو دربة مدنية عريقة، حتى تأخذ زمام الأمور بيديها. لكن مع هذا فهي قد ذاقت طعم الحرية وسكنها فيروس التمرد وبات من الصعب ضبطها في خط محدد حسب هوى حكامها. في أمريكا تحديدا هناك حديث عن بلوغ مستوى تحرير السوق الدينية، وخروجها من احتكار المؤسسة. في العالم العربي اليوم يبدو هذا الطرح خطيرا ومغامرا ومدعاة للانفلات والفوضى، وكأن الراهن العربي ملزم باحتكار جهة محددة الدين، لتوجّهَ الناس من خلالها. لأن تحرير الدين في ظرف لا تتوفر فيه منافسة متكافئة بين الأطراف فيه خطورة على الدين وعلى الناس. مع كل هذه المخاطر المترتبة التي يواجهها الواقع الديني فإن الاحتكار في البلدان العربية لا مستقبل له، وهو سائر إلى الانهيار ولا نرى أنه سيصمد طويلا. ولا أدل على ذلك من أن مؤسساتنا الدينية الكبرى في العالم العربي، مثل النجف والزيتونة والقرويين والأزهر هي في واد وجموع الناس في واد، هناك تحول بنيوي شهدته المجتمعات بقيت فيه المؤسسات على الهامش. إن اختزال الدين في مدخل صوفي أو سياسي أو دعوي أو شعائري، قد يلبي حاجة لدى مجموعة ولكنه لن يفي بما يتطلع إليه المجتمع. ربما الخطورة في ادعاء دعاة هذه المداخل أنهم يقفون على المدخل الصواب باعتباره الوحيد. وفي حالة الإسلام أعتبر أن حصره في شكل وحيد هو ما ينافي طابعه الشمولي. قال هيجل إن المسيحية هي الطريق المطلق للثورة الفرنسية وقال إسلاميو الربيع العربي إن الإسلام هو الذى مهد للثورات هذه النظرة تزداد في عالمنا انتشارا فهل تصلح كمقدمة لقراءة تزايد الأصوليات في العالم؟ اندلعت الثورات جراء تضافر عوامل عدة وتدفق جداول مختلفة، وهي ليست في حاجة إلى شهادة ميلاد من أحد. ولكن داخل هذا الحدث ينبغي التنبه إلى الثورات العفوية والثورات المقلِّدة والثورات المصطَنعة. لأن عملية النضج واللانضج في البناء الاجتماعي تجعل نتيجة الثورة محسومة سلفا، كون المنبتّ لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع كما نقول. كيف تحولت جوانية الدين –العلاقة بين العبد وخالقه– إلى برانية –العمل خارج هذه العلاقة أي خروج الدين والعلاقة ذات الخصوصية إلى الشأن العام السياسي؟ أن تنزاح العلاقة بالدين من نمط إلى آخر ليس انحرافا بالدين وليس تشويها له، فالدين فيه من الثراء الدلالي ما لا نجده في ظواهر اجتماعية أخرى. ولكن المسألة اليوم في توهم أن المدخل السياسي هو جوهر الدين ومنتهاه، وهو موجة ستنقضي بعد أن تخلّف ضحايا وهدرا للوقت. قد يتصور البعض أن الدين في أصله هو علاقة فردية بعالم علوي أو بكائن مطلق، وأن إخراجه من ذلك الطابع هو انحراف بمساره. والحال أن الدين كواقعة اجتماعية هو كلٌّ متداخل، فيه بعدٌ باطني وبعدٌ حياتي معيشي. وبقدر ما يجرّب الإنسان من انسجام ولذة وسكينة في أدائه للشعائر نحو بارئه، يجد في علاقته بنظرائه من البشر، وفي نشاطه الاجتماعي، المشوب بطابع الدين الإشباع نفسه. ولذلك كان فعل الخير والإحسان لدى المؤمن يضاهي عبادته لربه من حيث ما يجده من رضى وزهو. داخل هذه الثنائية التي عادة ما تطرح، بين جوانية الدين وبرانيته، غالبا ما تتخفي المقاصد الأساسية. فهناك سعي لحصر الدين في نطاق محدد لاحتكار المجال الآخر النقيض والمقابل. هنا نطرح إشكالية الخاص والعام .. كيف يمكن تخصيص الدين وهو الشأن العام بشكل طائفي لتدّعي جماعة –الإخوان- احتكارها واعتبار نفسها الممثل الشرعي للدين في السلطة؟ الإسلام مستأمَن عليه لدى جمهور المسلمين وليس لدى حركة بعينها. فالتشكيلات الاجتماعية مهما اصطبغت بطابع القداسة فهي ناشئة وعابرة وزائلة. وكلما حرصت الحركات على احتكار الشرعية لنفسها إلا وسارع إليها الفساد. وأعتبرُ أن السقوط المدوّي للإخوان في مصر جاء جراء العمى المعرفي الذي استبدّ بقادتها، ولا أعتقد أن المسؤولين عن السقوط لهم دراية بالتاريخ أو علم الاجتماع أو العلوم السياسية، والجاهل يفعل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه. في المجتمعات العربية ثمة وهْمٌ موزَّع بين العديد من الأحزاب والحركات والأوساط ذات الميولات الدينية. في اعتبارها أنها الأوفى في استنطاق روح النص والوفاء إليه، ومن ثمة في تخيلها أنها الممثل الشرعي. هذا الزعم يتغذى من أورثوذكسية تعوزها النسبية في التعاطي مع الظاهرة الدينية. وهي نابعة من رؤية داخلية للدين تفتقر إلى الرؤية الخارجية. والحال أنه ينبغي أن نعي أن توليد علاقة متزنة، خالية من وهْم التمثيل الشرعي، هي نتاج معالجة واقعية وعلمية للظاهرة الدينية أيضا. ففي الحقل الثقافي العربي لا يزال التعامل اللاهوتي والتعامل الإيديولوجي هما السائدين، مع غياب شبه تام للمقاربة العلمية. وبما أن المدخل اللاهوتي هو مدخل إيماني يتلخص في ما الواجب علينا الإيمان به؟ ولماذا ينبغي علينا الإيمان بهذا دون ذاك؟ بصفته مدخلا مقصده نجاة الفرد دنيا وآخرة؛ في مقابل المقاربة العلمية التي تبحث في كل ما هو معتقد من البشر، دون إصدار أحكام صدق أو زيف عن الواقعة الدينية، بقصد بلوغ الفواعل الكامنة وراء العملية الاعتقادية في منشئها وفي أثرها. إذ يحصل في الوعي الطائفي التماهي بين المركَّب الديني والمركّب التاريخي-الاجتماعي للطائفة. وتزيد تجربة المحنة والمعاناة والابتلاء من ترسخ هذا التمازج حتى لتتمثّل الطائفة تصوراتها للدين الأكثرَ وفاء للنموذج الأصلي المتواري في التاريخ، ولكن داخل هذا الوهْم عادة لا تعي الطائفة ذلك الاحتكار والاستحواذ وغالبا ما تنفي ذلك وتتصور أنها حركة منفتحة. عطفا على ما سبق هنا ما الفارق بين الشرعية والشريعة بهذا المعنى؟ كلمتان أفرغتا من معنييهما في السياق العربي الراهن. كيف تقرأ مستقبل الإسلام السياسى في دول ما يسمى الربيع العربي؟ في الإسلام السياسي ليس هناك وضوح رؤيوي، وكل ما في الأمر أن تياراته تستقل القطار السياسي وهي لا تدري أين سيجرها. وتلك الضبابية الدينية السياسية لديها متأتية من تدني المعرفة بالحقل الذي وجدت نفسها فيه، ومن ضعف النظرية السياسية ذات الطابع الإسلاموي. خطورة الإسلام السياسي في البلاد العربية أنه يفتقر إلى رصيد عقلاني. فعلاوة على الضعف في جينة تكوينه، لا سيما مع المدرسة الإخوانية، فإنه لا يصغي إلاّ لذاته، للخلّص من مجلس الشورى وللجماعة ولكوكبة التنظيم. الإسلام السياسي ما لم يتحول إلى الاشتغال على الإسلام الثقافي فسيبقى على سطح بنية الاجتماع العربي. قد يمتطي ظهر السلطة، وقد يمسك بمقاليد الأمور، ولكنه سرعان ما تتفلّت منه، لافتقاده وسائل التفهم والتخاطب مع الناس. فالعمل السياسي الذي لا تدعمه الثقافة يكون عرضة للانحراف بسرعة. أضيف أن الإسلام السياسي السني يغلب عليه الطابع المظهري والشكلاني، ولذلك تجد فيه منزعا غوغائيا حشديا يحيد عن الرصانة والتروي. ومن هذا الباب لا أعلّق أملا كبيرا عليه في إنهاض الناس، وما أنا متأكد منه أنه قادر على سحبهم نحو الأسوأ. وأقدّر أن سفينة النجاة للإسلام السياسي من الانتحار الذاتي، هي التمسك بحبل العقلانية المتين في التعاطي مع الواقع وفي النقد الذاتي. وفي ظل غياب هذين الشرطين فهو كالسائر إلى حتفه بساقيه.
الإسلام السياسي في حوار أجراه إبراهيم السخاوى مع عزالدين عناية الأستاذ بجامعة روما (منقول). |