تصف وسائل الاعلام البريطانية والاوروبية يوم امس بأنه “اربعاء اسود”، بسبب الانهيار الكبير الذي حدث في الاسواق المالية، وحالة الهلع التي باتت الظاهرة اللافتة على وجوه جميع المتعاملين من جراء هذا الانهيار، حتى ان بورصة لندن التي تقدر قيمة اسهم الشركات المسجلة فيها اكثر من 40 تريليون دولار خسرت 50 مليار جنيبه استرليني في ذلك اليوم الاسود، اما داوجونز الامريكي فقد هبط الى ادنى مستوياته منذ 12 عاما، وتقدر الاستثمارات العربية في هذه الاسواق الغربية بأكثر من تريليوني دولار.
هذا الانهيار يعود بالدرجة الاولى الى عدة اسباب رئيسية نوجزها كما يلي:
اولا: انخفاض اسعار النفط الى اقل من 27 دولارا للبرميل للمرة الاولى منذ عام 2003، وزيادة التوقعات بوصولها الى حاجز العشرين دولارا (النفسي).
ثانيا: تباطؤ معدل النمو في الاقتصاد الصيني الى ادنى مستوى منذ 25 عاما، والى ما تحت الاثنين في المئة بعد ان وصل الى ما فوق 7.5 في المئة لعدة سنوات متواصلة.
ثالثا: استنفاذ البنوك المركزية الاوروبية لكل ذخائرها في محاولاتها لمنع الانهيار في الاسواق المالية العالمية، وتكهن خبراء بأن ازمة عام 2008 المالية ربما تتكرر في الايام والاسابيع المقبلة.
انهيار اسعار النفط، وبنسبة 25 بالمئة منذ بداية العام فقط، يظل العامل الابرز، مما يوحي، بل يؤكد، ان هناك قرارا سياسيا يقف خلفه، من اجل تحطيم اقتصاديات خصوم الولايات المتحدة في العالم، وخاصة روسيا وايران وفنزولا ودول “البريكس″ عموما، وتعتمد الولايات المتحدة في هذه الاستراتيجية على حليفتها المملكة العربية السعودية التي اغرقت الاسواق العالمية بأكثر من مليوني برميل، ورفضت كل الدعوات من اعضاء منظمة “اوبك” لعقد اجتماعات طارئة لكبح الانتاج للسيطرة على الاسعار واستقرارها تمهيدا لبدء صعودها.
الاقتصاد الروسي يعتمد على النفط بما نسبته 50 بالمئة، والولايات المتحدة التي تخوض حربا اقتصادية شرسة ضد روسيا تتبع استراتيجية من شقين: الاولة تخفيض اسعار النفط الى ادنى مستوى ممكن بما يؤدي الى انهيار اقتصادي، والثاني، اغراق روسيا في حروب استنزاف اقليمية في سورية واوكرانيا في تكرار لما حدث في مطلع الثمانينات، حيث جرى استخدام المخطط نفسه لهزيمة الاتحاد السوفيتي كمقدمة لتفكيكه.
رأس الرئيس فلاديمير بوتين هو المطلوب امريكيا في الوقت الحالي، وهذا ما يفسر الانهيار المتواصل في اسعار النفط، وبدأ هذا السيناريو يعطي ثماره ولو جزئيا، فالروبل، العملة الروسية، خسر 12 بالمئة من قيمته منذ بداية العام فقط، ولكن هذا الاقتصاد الذي صمد قبل عام، وتجاوز الازمة عندما انخفض سعر البرميل من 120 دولارا الى خمسين دولارا، سيتجاوز الازمة الحالية ايضا، حسب تقديرات الرئيس الروسي نفسه.
الاقتصاد الروسي تأثر فعلا، وحزب هوغو شافيز الفنزولي عدو امريكا خسر الانتخابات البرلمانية الاخيرة (قبل شهرين) بسبب انخفاض اسعار النفط، ولكن حلفاء واشنطن والمملكة العربية السعودية، ودول الخليج، سيكونون من اكبر الخاسرين ايضا.
دول مجلس التعاون الخليجي تخسر 1.6 مليار دولار يوميا، اذا استمر سعر برميل النفط فوق الثلاثين دولارا للبرميل، ولكن هذا الرقم سيصل الى خسارة حوالي ثلاثة مليارات دولار يوميا اذا انخفض السعر الى دون العشرين دولارا، وهو انخفاض شبه مؤكد، حسب توقعات الخبراء للاشهر المقبلة.
الايرانيون يستعدون لضخ نصف مليون برميل يوميا بعد رفع الحصار المفروض عليهم، الامر الذي سيسرع بانهيارات اكبر للاسعار، ومن المفارقة ان شركة شحن اماراتية هي التي ستكون اول من ينقل الكميات الاضافية هذه الى الاسواق العالمية!
الحكومة السعودية وضعت ميزانيتها للعام الجديد على اساس سعري لبرميل النفط في حدود اربعين دولارا، واتخذت اجراءات تقشفية شرسة من بينها رفع الدعم بنسب متفاوتة عن سلع اساسية، وفرض ضرائب للمرة الاولى من تاريخها لتقليص العجز، ولكن الانخفاض الى ما دون الثلاثين دولارا، وبشكل متسارع سيدفعها الى الاقدام على اجراءات اخرى في الاطار نفسه، الامر الذي قد تترتب عليه حالة من التململ الشعبي الداخلي، ان لم يكن اكثر، بالنظر الى التورط السعودي في حربي اليمن وسورية.
الاحتياطات المالية النفطية لدول الخليج تتآكل بسرعة، وصندوق النقد الدولي يتوقع نفاذ السعودي منها في غضون خمس سنوات، ولكن اذا هبطت الاسعار الى العشرين دولارا فان هذا السقف سينخفض الى عامين فقط.
امريكا ورطت حليفها السعودي في حربها “النفطية” ضد روسيا وايران، ودفعتها الى اغراق الاسواق بكميات اضافية من النفط، وايصالها الى حافة الافلاس، وقامت في الوقت نفسه برفع الحصار عن ايران، وافرجت تدريجيا عن 30 مليار دولار من مجموع مئة مليار دولار من اموالها المجمدة، وفتح الاسواق الاوروبية والعالمية امام صادراتها.
انه درس بليغ لكل من يراهن على امريكا ويعتبرها حليف يمكن الوثوق به.
لقد طارت الطيور بأرزاقها.. وتبخرت الاموال العربية، او معظمها، في لعبة امم كان العرب اكبر ضحاياها.. وما الجديد على اي حال.
“راي اليوم”