لقد اعتُقِدَ لفترة أن الديمقراطيّة لا تقومُ إلاّ في مجتمع صغير، وبالأخص في مدينة صغيرة. وقد بالغ بعض الرومانسيين بالقول إن القبائل تبدأ ديمقراطية ولا تصبِحُ ديكتاتورية إلاّ عندما تأخذ البنية الامبراطورية. وقيلَ، على ها المنوال إن الرومان، لما تحوّلوا إلى مدن مليونية سرعان ما انقلبوا على الديمقراطية الإغريقيّة، ذات المدن الصغيرة. وإلى اليوم ما زالت الديمقراطية الهندية تُقدِّمُ نفسها أنها معجزة، ذلك أنها كثيفة وديمقراطية. وكأن هذا تناقض.
إلاّ أنّ "الديمقراطية" الموريتانية تُظهِرُ أنها غير ديمقراطية بالذات لأنها صغيرة. ولقد ظهر هنا ما سأسميه ديكتاتورية القمة العربيّة. فهذه المدينة التي صمّمها الأوائل على عشرات الآلالف ثم هاجمتها جحافل الريفيين فيما بعد الجفاف لا تسمح بتقديم عدّة أنشطة في وقتٍ واحد. لذا يقوم النظام فيها بقسوة باختطاف المناضلين الميدانيين وسجنهم، إذْ لو كان في هذه المدينة نشاطان لفسدت. ففي فترة وجيزة اختطِفَ الإيراويون ومُسِحت التجمعات الأهلية ذات الشرعية المقيمة ونُكِّلَ بالفبرايريين وصودِرت حجوزات المرافق وسُخِّرت الممتلكات الخاصة للدولة كما يحدث في حالة الحرب ووُضِعت الميادين العامة في قبضة الشاويش وفُضّت التجمعات العامة وحتّى السيارات المرصوفة قد اختطِفت في مدينة تحتاج لقوانين الرّصف (ولكنّها لا تتوفّر عليها).
لقد أظهرت هذه المدينية في استعداداتِها المتواضعة أمراً مخيفاً وهو أننا لا نقدر على حالة طوارئ. بل إن حادث سير مؤخراً أظهر أن مستشفيات المدينة لا تقدر على معالجة عشرات الجرحى. إن المدينة التي لا تقدر على الحرب لا تقدر على الحب. والمدينة التي لا تقدر على الضيوف لا تقدر على المقيمين.
-------------
من صفحة الأستاذ عباس ابرهام على الفيس بوك