أتابع منذ أيام الجدل الدائر حول قناة المحظرة، فيما يبدو أنه انعكاس لانقسام داخلي بين مجلسها العلمي، الذي قد يكون – والمعصوم من عصمه الله –حدث نتيجة للتغيير الإداري المفاجئ الذي شهدته إدارة مؤسسة الإذاعة الوطنية المسؤولة عن إدارة هذه القناة النوعية، والتي ينبغي أن تبقى منزهة فوق الشبهات، وعالية الكعب فوق الترهات، وبعيدة كل البعد عن مختلف ضروب وأصناف المماكسات وتصفية الحسابات.
قناة المحظرة هي بحق قناة مفخرة لكل موريتاني مسلم، غير منبت الجذور الوطنية، ولا من حديثي الدثور الدينية، هي مفخرة لأمة تفخر باتباعها نهج المحجة البيضاء التي لايحيد عنها إلا هالك، نهج (عقد الأشعري وفقه مالك وطريقة الجنيد السالك)، وهي نموذج غطى إشعاعه على قنوات الضرار، وأتم الله نوره ولو كره المرجفون.
قناة "المحظرة" التي انطلق بثها بشكل رسمي يوم الأحد، فاتح رمضان من عام 2013 بتوجيه ومتابعة من رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز، لاشك أنها "فتح إسلامي" غير مسبوق على أرض المنارة والرباط، ومنجز حضاري أصيل على هذه الأرض التي منها انطلق إشعاع الفتح الافريقي، ومنها ارتفعت راية الإسلام في هذا المنكب البرزخي، ومنها ارتوت أفئدة وقلوب عطشى للعلم والإيمان والزهد والتقى، وظلت على مر التاريخ عنوانا راسخا لنموذج لافت من مدراس التربية الدينية والعلمية، ألا وهي مدرسة المحظرة الشنقيطية، التي حاول البعض التشويش عليها حديثا بنماذج التربية المستوردة من دول المشرق وبلدان آسيا.
والأهم في هذه القناة بُعدُها التحصيني للشعب الموريتاني، المخترق اليوم سنيا بحكم الفرق التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي)، وشيعيا بعد أن أصبح الحديث عاديا، جهارا، نهارا، عن حسينيات في انواكشوط ورواد للحوزات في إيران، وفي ضوء ذلك باتت هذه القناة حصننا الحصين ودرعنا الواقي ضد قنوات الدعاية والإعلان للمذاهب الدينية المستوردة، والطرق والطوائف الإسلامية المتشعبة، سواء بقصد أو غير قصد، فعندما تشاهد مثلا قناة من قنواتنا التي تتحول فجأة إلى "قناة يوتيوب" وهي تنقل عقلك وفكرك ووجدانك إلى قراء غير قرائك من أمثال محمد الأغظف ولد محمد سيدي وسليمان ولد الرباني وغيرهم برواية ورش، مهما علا شأن غيرهم وندى صوته وارتقى في علوم القرآن، وتنقلك إلى علماء غير علمائك، وفتاوى لاتمت بصلة إلى حياتك ومحيطك الذي هو غاية الفتيا، فأنت حينئذ مستلب الشخصية، فاقد البوصلة، مضطرب الهوية الدينية.
قناة المحظرة لم تكتف بنقل تجربة المحظرة الموريتانية وطريقة تدريسها للقرآن وتجويده وعلومه وفنونه، بل تجاوزت ذلك إلى تدريس المتون العلمية، والغوص في النصوص الشرعية من علوم القراءات وأحكام العقيدة، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والسيرة النبوية المطهرة، واللغة، واستحدثت المسابقة الكبرى لحفظ وتلاوة القرءان الكريم التي شارك في نسختها الثالثة زهاء ثلاثة آلاف قارئ ومجود، وفوق كل ذلك تقدم قناة المحظرة الوجه السمح الحضاري المسالم للإسلام في وجه موجة التطرف والغلو والإلحاد الذي يجتاح العالم، ولم تسلم منه موريتانيا للأسف، كما تعمل على استعادة دور الشناقطة الأوائل في نشر ثقافة الإسلام السمح المعتدل.
كل هذا الجهد وهذا العطاء بإمكانيات متواضعة لا تتجاوز – حسب معلوماتي – وحدة للإنتاج السمعي البصري، واستوديو للحوارات والندوات المباشرة يسمى (استوديو الخيمة)، فيما تفتقر – كما هي حال جميع المؤسسات الإعلامية والثقافية – لأرشيف وطني غني وثري، فماذا لو كان لدى هذه القناة الأرشيف الكامل لعلمائنا ومؤرخينا ودعاتنا وقرائنا من أمثال الشيخ محمد اليدالي ومحمد محمود بن التلاميد ومحمد الأقظف بن خي وأبناء ميابه ومحمد الأمين بن فال الخير وأحمد بن الأمين وآب بن اخطور ومحمد سالم ولد عدود، وبداه ولد البوصيري، وحمدا ولد التاه، ومحمد ولد سيدي يحي، وعبد العزيز سي، ومختار جاه. وماذا لو تجاوز الأمر ذلك إلى مصابيح الدجى ومنابر الهدى من أمثال مشايخ كنته وعلماء تجكانت وفقهاء إدوعل ومؤرخي بني ديمان، وغيرهم من قلاع الفضل والعلم كدوحة أهل الشيخ سيديا وأهل الشيخ محمد فاضل وأهل العاقل وآل أبي المعالي وأهل الغزواني وغيرهم من سلاسل الفضل والعلم الذين يضيق المقام عن ذكرهم.
من خلال ما تقدم أسجل الملاحظات التالية :
أولا، في ضوء ما بلغته قناة المحظرة من سمو مكانة ورفعة قامة، وماهي مؤهلة له من توسع وسطوع، يرجع الفضل فيه بعد الله تعالى إلى الإرادة السياسية لرئيس الجمهورية، والإدارة المتميزة للمدير السابق للإذاعة، محمد الشيخ ولد سيدي محمد، الذي لاتجمعني به صلة ولا سابق معرفة، إلا أن الحق يقال، وأحق أن يتبع، فقد كانت لهذا الرجل بصمة يستحق الشكر عليها في إدارة هذه القناة التي واكبها من لحظة الانطلاقة، وأعتقد أنه آن الأوان أن تأخذ هذه القناة حظها في الاستقلالية دون تبعية لأي من مؤسستي الإذاعة أو التلفزة، وهو استقلال مشروع ومحمود نظرا للحمل الكبير الملقى على عاتقها، والدور المأمول من مجلسها العلمي الموقر.
ثانيا : أعتقد أنه سيكون من الأنسب للأستاذ عبد الله ولد حرمة الله، وهو شاب وطني لديه من الشجاعة والطموح ما يؤهله لقيادة أي مشروع إعلامي يتولاه، ترتيب بيت الإذاعة من داخل سورها المغلق، بدل ترتيبه ضمن فضاء المحظرة المفتوح.
ثالثا: لا مجال للترويج، بل من غير اللائق أن تتكسب الإذاعة أو التلفزة بحصاد غيرهم، ومن غير المناسب كذلك أن تتولى وزارة الشؤون الإسلامية الوصاية على هذه القناة بحكم المادة أوالمضمون، فالقنوات الدينية قائمة وموجودة في مختلف الدول الإسلامية والمسيحية واليهودية والبوذية وحتى اللادينية، وأعتقد أن ترتيب هذه القناة هو الثالث والثلاثون في قائمة القنوات الدينية بالعالم الإسلامي، مثلها تماما مثل القنوات الإخبارية والرياضية والاقتصادية، وبالتي لا داعي لأن يتفرق دمها بين المؤسسات الإعلامية الوطنية بدافع التنازع على الصلاحيات والرغبة في توسيع الإمبراطوريات الوهمية، فلكل مجتهد نصيب، ولا تكونوا ممن (يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا).
ثالثا: أضم صوتي إلى أصوات العلماء اللذين وجهوا نداء استغاثة لرئيس الجمهورية لحماية هذا المرفق الهام، ليس من مجرد الانحراف عن المسار، بل لحمايته من مجرد التفكير في الانحراف عن المسار، أو التدخل في هذا المسار بحجج وذرائع التطوير والتحديث التي اعتدنا أن تأخذ البرامج والمشاريع في عمالمنا الثالث إلى الوراء بدل الأخذ بها إلى الأمام.
والله من وراء القصد.