شهدت تركيا ليلة الجمعة محاولة انقلابية هي الأولى من نوعها على مدى تاريخ البلاد الحديث، ولعلها الأولى أيضاً على الصعيد العالمي من بعض النواحي.
ففي البداية انتشرت أخبار تفيد بأن قوات الدرك أغلقت الجسرين المعلقين على جانبي شطري إسطنبول الأوروبي والأسيوي أمام حركة المرور، لأسباب غامضة. ولم يمض وقت طويل حتى تبين أن هناك محاولة انقلابية للسيطرة على زمام الحكم في البلاد، ثم اشتعلت التطورات بحيث جرت خلالها أحداث لا علاقة لها بالمستوى الاحترافي المتراكم من تراث انقلابي عريق لمؤسسة عسكرية كالمؤسسة التركية.
ردود الفعل الأولية للسلطة الحاكمة كانت تقليدية ومعهودة؛ إذ بادر الرئيس رجب طيب أردوغان، إلى اتهام حركة الخدمة بالوقوف وراء هذه المحاولة، مع غياب أي تحقيق أو دليل مادي، كما هو دأبه في إلصاق كل السلبيات في البلاد بها منذ الكشف عن فضائح الفساد والرشوة الشهيرة في نهاية عام 2013. ولكن نظرة متأنية شاملة لملابسات المحاولة الانقلابية والتطورات اللاحقة تكشف عن وجود فراغات كبيرة يجب ملؤها بإجابات منطقية ومتماسكة. وهذا الأمر يدفعنا إلى طرح عديد من التساؤلات حول ما إذا كانت هذه الحادثة محاولة انقلابية فاشلة حقيقةً أم هي عبارة عن مسرحية فاضحة خطط لها مسبقاً بمهارة فذة نادرة من أجل تنفيذ خطة تستهدف القضاء على “المناخ الديمقراطي” أو “الأرضية الديمقراطية” في البلاد كلياً تحت مسمى مكافحة “الكيان الموازي” الموهوم؟
ولكي يمكن التوصل إلى رؤية صحيحة تلامس رجلاها الواقع حول ما حدث في تركيا الليلة قبل الماضية لا بد من ملاحظة الأمور التالية:
موقف الخدمة
بعد شيوع أخبار حول وقوع انقلاب عسكري حوالي الساعة التاسعة والنصف، خرج الأستاذ فتح الله كولن نحو الساعة الحادية عشرة من مساء ليلة الجمعة واستنكر المحاولة الانقلابية قبل أي أحدٍ بعباراتٍ واضحة وصارمة دون ليّ اللسان، من خلال بيان نشرته كبرى الصحف العالمية والمحلية.
كما أن المؤسسات المدنية للخدمة، وعلى رأسها وقف الصحفيين والكتاب في إسطنبول، وكل وسائل الإعلام المقربة لها، مثل صحف “ميدان” و”يني حياة” و”يارينا باكيش” كانت أدانت منتصف الليلة المحاولة عبر عناوينها الرئيسة قبل طباعة النسخ الورقية ووصولها إلى القراء.
فضلاً عن أن الشخصيات البارزة المنتمية للخدمة، وعلى رأسها عثمان شيمشاك رئيس تحرير موقع الأستاذ كولن نددت بالمحاولة عبر حساباتهم في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي. بل وصف شيمشاك المبادرة الانقلابية بـ”المكيدة الشيطانية” التي تستهدف إلصاق وصمة الإرهاب بالخدمة.
هذه التصريحات الرافضة للانقلاب للأستاذ كولن ومؤسسات الخدمة ورموزها المختلفة لا تنبع من موقف آني عابر، بل هو موقف مبدئي ثابت لم يتغير وفقا للأزمنة والأمكنة والأشخاص، منذ أن صار للحركة ظهور على الساحة قبل نحو قرن من الزمان وحتى يومنا هذا. إضافة إلى أن الخدمة كانت الضحية الأولى لكل الانقلابات العسكرية في تركيا بشهادة الواقع.
جاءت عناوين الصحف الأولى للوسائل الإعلامية، وتصريحات الشخصيات المقربة لحركة الخدمة، على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، مستنكرةً ورافضةً لمحاولة الانقلاب، وداعيةً الشعب إلى ضبط النفس والتزام الهدوء والبقاء في الإطار القانوني.
الأستاذ كولن وأفراد حركة الخدمة ظلوا مصرين على التحرك ضمن القانون والدستور طيلة ثلاثة أعوام، مع أنهم يتعرضون – و ما زالوا – لأبشع أنواع الانتهاكات القانونية وشتى أشكال الأذى والظلم خلال هذه الفترة، وعمدوا إلى البحث عن حقوقهم المهدرة بالطرق الديمقراطية والوسائل القانونية دون التوجه لاستخدام العنف، ووقفوا دوماً ضد الأساليب والأعمال الإرهابية، الواقع شاهد على ذلك.
بناء على ذلك، من المستحيل، وهذه هي السيرة الناصعة للخدمة وعادتها المعروفة لدى القاصي والداني طيلة العقود الماضية، أن تتورط في مثل هذه المبادرة المرفوضة قانوناً وشرعاً، في ظل صبرها الدائب على كل هذه المعاناة دون اللجوء إلى أي وسائل غير شرعية لتحقيق أهدافها.
حركة الخدمة لم تكن – ولن تكون – ضد أي شخص أو حزب بعينه، بما فيه شخص أردوغان وحزبه العدالة والتنمية الحاكم، بل هي ضد كل الانتهاكات القانونية، سواء ارتكبها العسكريون أو المسؤولون المدنيون.
هذه هي المبادئ التي تميزت حركة الخدمة بالالتزام بها على مدى تاريخها الطويل. وبما أنها رفضت على مرأى ومسمع من الجميع هذه المحاولة الانقلابية بصورة صارخة، وجب علينا التعمق في دراسة هذه المحاولة التي وصفها وقف الصحفيين والكتاب بـ”الغريبة والمثيرة جداً”.
شبهات مثيرة
يبدو أن ما سمي بالمحاولة الانقلابية تم تصميمها وحياكتها وتطبيقها بمهارة فائقة تثير لدى المتأملين بعض الشبهات، وكأن هناك مسرحية يتم تمثيلها على مرأى ومسمع من الجميع.
سعت بعض الأطراف، خاصة تلك الموالية للحكومة، منذ اللحظة الأولى من اندلاع أحداث الانقلاب، وقبل تبلور أي تفاصيل، وبشكل غريب وغير مفهوم، لتقديم العسكريين الانقلابيين وكأنهم من حركة الخدمة، متهمة إياها بالوقوف وراءه في غياب أي تحقيق أو دليل. وذلك مع أن القوائم التي نشرت والتي تضم أسماء القادة العسكريين الانقلابيين تشير إلى أنهم من عصابة أرجينيكون التي دبرت سابقاً عديداً من الانقلابات العسكرية أيضاً.
الطريقة المتبعة في المحاولة الانقلابية أثارت هي الأخرى شكوكاً وشبهات، ذلك لأن القوة التي تريد السيطرة على زمام الحكم–كما هي العادة التي سار عليها الانقلابيون سابقا- تبادر قبل كل شيء إلى الاستيلاء على كل وسائل الإعلام، واعتقال الرئيس ورئيس الوزراء والوزراء. لكن في نموذج تركيا واصلت جميع القنوات التلفزيونية والمواقع الإخبارية التابعة بشكل مباشر للحكومة بثها دون انقطاع، ما عدا قناة تي أر تي الرسمية التي انقطع بثها نحو ساعة واحدة فقط، ثم عادت إلى البث الطبيعي بشكل غريب بعد قراءة البيان الانقلابي، فضلاً عن أن كلاً من الرئيس أردوغان ورئيس الوزراء بن علي يلدريم ظهرا على الشاشات التلفزيونية وأدليا بتصريحات رافضة للانقلاب. لماذا لم يسكت الانقلابيون تلك القنوات وسمحوا لها بمواصلة بثها، وبروز رموز العدالة والتنمية كالأبطال، وإتاحة الفرصة لهم لكي يثيروا الجماهير ضدهم ويدعوهم إلى الشوارع؟ وفي هذا السياق قال رئيس تحرير صحيفة “يني آسيا” الإسلامية كاظم كولتشيوز بأسلوب ساخر: “محاولة انقلابية تستغرق ساعات طويلة ولا يتم السيطرة على إعلام أردوغان ويسمح له بأن يقاوم الانقلاب مثل الأبطال!!”.
قال أردوغان في أولى تصريحاته مباشرة “إننا كنا نردد أنهم منظمة إرهابية، وهذه الخطوة التي أقدموا عليها أثبتت بصورة قاطعة أنها منظمة إرهابية مسلحة”، فهل يا ترى أحد أهداف هذا السيناريو المفبرك هو إسناد وصمة “الإرهاب المسلح” إلى الخدمة، في مقابل فشل ذريع مني به أردوغان في إثبات ذلك سابقا، وعدم اقتناع الرأي العام الداخلي والخارجي بهذه التهمة؟
في صباح اليوم التالي من محاولة الانقلاب، أصدرت السلطات قراراً باعتقال 2745 ما بين قاضٍ ومدعٍ عامٍّ، إضافة إلى اعتقال قاضيين من أعضاء المحكمة الدستورية، و140 قاضياً من أعضاء المحكمة العليا، و48 قاضياً من أعضاء مجلس الدولة، و1563 ضابطاً من مستويات رفيعة، في إطار حركة تصفية واسعة النطاق في صفوف الجيش والقضاء، مما يترك انطباعاً بأن هذه القوائم كانت جاهزة مسبقاً وكانت تصفياتهم تحتاج إلى ذريعة. فهل كانت هذه المحاولة المحبوكة تلك هي الذريعة؟
وبما أن الجميع يعلم أن حزب العدالة والتنمية لا يمتلك كوادر في أجهزة القضاء العليا والجيش والأمن فمن هي الكوادر التي ستحل محل تلك التي تم تصفيتها؟ هل نحن أمام انقلاب قومي فاشي علماني أتاتوركي بقناع أردوغاني؟ فإذا كان كذلك فهذه هي الطامة الكبرى لتركيا والمنطقة وللعالم بأسره!
كيف تأكد أردوغان أن ما سماه “الكيان الموازي” هو من يقف وراء هذه المحاولة قبل إجراء أي تحريات أو تحقيقات؟ ولماذا قال إن الحادثة فرصة لتطهير الجيش من هذا الكيان؟
ما معنى قول أردوغان: “هذه الخطوة لطف كبير من الله … فإن نتائج محاولة الانقلاب الفاشل ستكون جيدة؟ ومن الحسن أن هذه الحادثة وقعت قبيل مجلس الشورى العسكري المزمع عقده مطلع أغسطس المقبل، لأننا سنطهر الجيش من هؤلاء القادة الموازين الانقلابيين”. ألا يعني هذا أنها كانت مدبرة من أجل تصفية عناصر الجيش التي لا تروق له.
أردوغان قال في وقت سابق إنه قصم ظهر حركة الخدمة عقب السيطرة على كل المؤسسات الإعلامية ومدارسها وشركاتها في الداخل التركي وتصفية مئات الآلاف من المتعاطفين معها في أجهزة الدولة.. فهل بقي أحد يمكن أن يقوم بانقلاب ضده؟
قال النائب البرلماني من صفوف حزب الشعب الجمهوري المعارض محمود تانال إن الأحداث الواقعة في إطار الانقلاب العسكري وقعت تحت سيطرة الحكومة وبتوجيه منها.
هناك مجموعة كبيرة تتألف من برلمانيين وكتاب وصحفيين وصفوا في تغريداتهم ما حدث بـ”المسرحية” و”المهزلة” المخططة التي تستهدف تشديد الحملة الشعواء ضد حركة الخدمة، وتكميم أفواه كل أحزاب المعارضة، وإعادة ترتيب الجيش ونقل البلاد إلى النظام الرئاسي الأردوغاني.
الرابح والخاسر
لا شكّ في أن تحديد الرابحين والخاسرين في قضية ما يعطي لنا فكرة عن اليد الخفية التي تقف وراءها. وإذا نظرنا إلى النتائج الأولية لهذه المحاولة الانقلابية نرى ما يلي:
قويت شوكة الرئيس أردوغان الذي يقود البلاد إلى نظام “الرجل الواحد” منذ ثلاث سنوات، في حين خسرت “الديمقراطية التركية” الهشة أصلاً، ذلك لأنه بعد اليوم سيتوجه لقيادة البلد بقبضة من الحديد والنار بعد أن خرج على كل المبادئ القانونية والدستورية طيلة الفترة الماضية.
كذلك نجح أردوغان في شغل الرأي العام التركي والدولي بهذه المبادرة الانقلابية وأسدل ستاراً أسود على:
– اتفاقية التطبيع مع كل من إسراييل وروسيا، والاستعداد لاستعادة العلاقات الطبيعية مع نظام بشار الأسد.
– التورط في التعاون مع بعض التنظيمات الإرهابية، في مقدمتها تنظيم داعش الإرهابي لتحقيق مصالح سياسية.
– قضايا الفساد والرشوة الكبرى، والإجراءات التعسفية الخارجة عن المبادئ الديمقراطية والإطار القانوني والدستوري منذ ثلاث سنوات بغية التعتيم على هذه الجرائم.
– علاقات النظام الأردوغاني المشبوهة مع النظام الإيراني والتي بدأت تثير حفيظة ومخاوف كل الدول العربية، إضافة إلى ما يثار عن بعض المفاوضات التي تجري في إيران لتسوية العلاقات مع نظام بشار الأسد.
– العجز الأمني المشهود في التصدي للعمليات والتفجيرات الإرهابية المتزايدة منذ سنة كاملة، راح ضحيتها مئات الأبرياء.
– الفشل في إرساء الأمن والاستقرار والسلام في المناطق الكردية من تركيا والممارسات الدموية والتهجير التي تشهدها هذه المناطق منذ عام.
– الأزمة الاقصادية المتربصة بتركيا وفق معطيات دولية اقتصادية، رغم محاولات الحكومة الرامية إلى التستر عليها بأرقام مبالغ فيها.
تم محو هذه الأمور السلبية وأمثالها من ذاكرة الرأي العام ونقش في ذهنه أردوغان مجدداً باعتباره “بطلاً” و”زعيماً سياسياً” أفلح في رد انقلاب عسكري خطير.
من المكاسب التي حققها أردوغان بفضل محاولة الانقلاب الفاشلة هذه أنه قطع شوطاً كبيراً في طريقه إلى فرض النظام الرئاسي بعد انخفاض شعبيته جراء اتفاقه مع إسرائيل واعتذاره لروسيا وشروعه في التفاوض مع النظام السوري لاستعادة العلاقات الطبيعية. وجدير بالذكر أن أردوغان يعلم جيداً أنه لا مفر له من المقاضاة جراء انتهاكاته القانونية سوى الحصانة التي سيوفرها له نظامه الرئاسي. إذن هذه المحاولة المدبرة ستمكن أردوغان من سن دستور جديد وفق هواه بحيث يخدم مصالحه الشخصية والحزبية.
ستؤدي محاولة الانقلاب إلى القضاء على التعددية الحزبية الضرورية في الأنظمة الديمقراطية.
6- خلاصة القول إن أردوغان هو الرابح الرئيس في هذه القضية، بينما تركيا برمتها هي الخاسر الأكبر.
ما الذي سيحدث بعد الآن؟
ستقول تركيا وداعاً لمبدأ الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، حيث سيتم جمعها في شخص أردوغان فقط، وذلك خلال إعادة هيكلة كل من الجهازين القضائي والعسكري طبقاً لمصالحه.
الحملات التعسفية الموجهة ضد حركة الخدمة، والحركات المدنية الأخرى، منذ ثلاث سنوات، ستكسب زخماً جديداً وستستمر أكثر ظلماً وأشد عنفاً من السابق.
المبادرات الرامية إلى سحق كل الأصوات المعارضة ومنظمات المجتمع المدني والوسائل الإعلامية ستشهد سرعة وصرامة غير مسبوقة.
كل هذه النقاط الأساسية سالفة الذكر تثير شبهات حول ماهية هذه المحاولة الانقلابية، التي من الأجدر وصفها بـ”استعراض الألعاب النارية”، وما إذا كانت عملية مزيفة ماكرة من أجل تلميع صورة أردوغان وجعله بطلاً شعبياً، تمهيداً لإعلان النظام الرئاسي بـ”نكهة تركية”، أي نظام الرجل الواحد، والقضاء كلياً على “المناخ الديمقراطي” الهشّ أساساً، وذلك تحت مسمى مكافحة “الكيان الموازي”.
ملخص القول: القرارات المتخذة في مجلس الأمن القومي عام 2004، والتي تطالب بالقضاء على حركة الخدمة، والتي وقع عليها جميع كبار مسؤولي حكومة العدالة والتنمية في تلك الفترة، بما فيهم أردوغان، جارية على قدم وساق.
تساؤلات في محلها
وفي الختام، هل هذا النمط الأردوغاني للحكم عنده مقدرة على إقامة سلام داخلي في تركيا أم هي مقبلة في ظل سياساته التسلطية إلى صراعات داخلية عنفية، بل ربما على حرب أهلية؟
هل هذا النمط عنده المقدرة على ترميم ما تصدع من علاقات طيبة مع دول المنطقة وإقامة سلام بينه وبينها أم ستشهد في ظل سياساته التدخلية المستفزة مزيداً من التوتر والتصعيد؟
هل هذا النمط من الحكم يستطيع أن يعيد تركيا مرة أخرى إلى مسارها السابق في اندماجها وتفاعلها مع الأسرة الأوروبية والمجتمع الدولي أم ستشهد تلك العلاقات مزيداً من “العنتريات” التي تعكر صفو الجميع؟
بماذا يبشر النظام الأردوغاني شعب تركيا والشعوب العربية الإسلامية وشعوب العالم؟
أي مستقبل ينبغي أن نتوقعه في ظل حكمه؟
نقلا عن صحيفة عربي زمان