عبد الباري عطوان
لنترك الانقلاب التركي الفاشل، وكل ما ترتب عليه، من اعمال تطهير شملت عشرات الآلاف من القضاة، والمدرسين، والائمة، ورجال الامن، وموظفي الدولة، والضباط الكبار والصغار، لنترك كل هذا جانبا، ولو مؤقتا، ونحاول استقراء الخطوات التي يمهد الرئيس رجب طيب اردوغان للاقدام عليها على الصعيدين الاقليمي والدولي.
مفاجآت الرئيس اردوغان هذه الايام كثيرة، ومتعددة، ويحتاج المرء لالتقاط انفاسه بين الحين والآخر وهو يركض لملاحقتها، ولكن ابرزها قد يكون “المصالحة” مع سورية، والدخول في مفاوضات معها، وتغيير كل توجهات الحكومة التركية، سياسيا وعسكريا، تجاهها.
تحدثنا في هذا المكان اكثر من مرة عن هذه المسألة، ونقلنا عن السيد بن علي يلدريم، رئيس الوزراء، والرجل الثاني في تركيا اكثر من تصريح يتحدث فيه عن عبثية الحرب في سورية، وضرورة وقف حمامات الدماء، والعودة الى “صفر مشاكل” مع الجيران، ولكن الجديد هذه المرة هو تأكيدات تصب في الاتجاه نفسه، وردت على لسان اردوغان يوم امس، وربما تشكل المفاجآة الاكبر التي ستنعش قلوب البعض، وتصيب البعض الآخر بسكتات قلبية.
***
الرئيس اردوغان قال بالصوت والصورة امام مجموعة من انصاره مساء امس الاثنين “ان بلاده ستضع خلافاتها مع دول الجوار خلف ظهرها”، وكشف ان حكومته ستتخذ قرارا مهما بعد اجتماع مجلس الامن القومي الذي سيعقد اجتماعا غدا (الاربعاء).
لا نعرف ما هو المهم الذي سيتخذه الامن القومي التركي بقيادته، ومشاركة رئيس وزرائه، وكبار رجال الدولة، والمؤسستين العسكرية والامنية، ولكننا نعرف ان خلافاته الاكبر مع دول الجوار التي سيضعها خلف ظهره، هي مع سورية، مصدر كل المشاكل التي تعيشها تركيا هذه الايام، وبما في ذلك “الارهاب” وتفجيراته في انقرة واسطنبول، والطوحات الكردية في اقامة “دولة” تتبلور على طول حدودها الشمالية.
بالطبع لا ننكر وجود خلافات مع العراق، واخرى مع مصر، وثالثه بدرجة اقل مع ايران، ورابعة في طريق الحل مع روسيا، ولكن كل هذه الخلافات ثانوية، او لها علاقة مباشرة بالملف السوري، وستذوب كلها في حال حدوث تغيير في السياسة التركية تجاه هذا الملف.
نحاول في هذه المقالة ان نقرأ ما بين سطور التصريحات الاردوغانية، ورصد ما تنطوي عليه من معان ومؤشرات في هذا الملف او تلك، وما يمكن استخلاصه من خلال القراءات، نلخصه في النقاط التالية:
اولا: التوجه الاعلامي والسياسي المتسارع من قبل حكومة الرئيس اردوغان لمراجعة علاقات الصداقة مع واشنطن، وعدم الاهتمام بالتهديدات الاوروبية بوقف مفاوضات انضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي في حال اعادة العمل بعقوبة الاعدام، واحتمالات حدوث قطيعة بين الجانبين على ارضية رفض الادارة الامريكية تسليم الداعية التركي فتح الله غولن المقيم على اراضيها، والمتهم رسميا بالوقوف خلف الانقلاب الفاشل.
ثانيا: حالة “البرود” التي تسود العلاقات التركية السعودية منذ تصريحات السيد يلدريم عن احتمالات اعادة العلاقات بين بلاده وسورية، وكان ارتباك رد الفعل الاعلامي السعودي تجاه الانقلاب الفاشل انعكاس لهذا البرود، فقد اظهرت قنوات سعودية من بينها “الاخبارية” الرسمية، و”العربية”، شبه الرسمية، تعاطفا معه، اي الانقلاب، في البداية، ثم جرى تدارك الامر والترحيب الخجول بفشله.
ثالثا: ادلاء السيد عادل، الجبير وزير الخارجية السعودي، بتصريح غريب على هامش اللقاء الوزاري الخليجي الاوروبي في بروكسل يوم امس قال فيه “ان الامل قائم لايجاد حل للازمة السورية”، مؤكدا في الوقت نفسه “ان دعم بلاده للمعارضة السورية سيستمر، وكذلك الحرب على داعش”، مصدر الغرابة ان السيد الجبير كان متفائلا بالحل السياسي في سورية على غير عادته، ولم يتحدث مطلقا عن رحيل الرئيس بشار الاسد سلما او حربا.
***
لا نريد استباق الاحداث، والقفز الى نتائج متسرعة، ولكن لا نتردد في القول بأن الرئيس الاسد قد يكون الرابح الاكبر من وراء هذا الانقلاب التركي الفاشل، سواء كان حقيقيا او مفبركا، لعدة اسباب نوردها فيما يلي:
اولا: التقارب التركي الروسي سيكون حتميا، وربما يدخل مرحلة من التعاون الاستراتيجي غير مسبوقة، في حال تدهور العلاقات التركية الامريكية، وسيرغي لافروف اكد قبل يومين تعاونا وثيقا بين موسكو وانقرة في الملف السوري.
ثانيا: المكالمة الهاتفية التي بادر باجرائها الرئيس الايراني حسن روحاني بنظيره اردوغان، وحظيت بترحيب وتقدير كبيرين من الرئيس التركي، لما حملته من تهاني بفشل الانقلاب واستعداد للتعاون بين البلدين، ربما تكون مقدمة لوساطة روسية ايرانية مشتركة لاعادة العلاقات السورية التركية.
ثالثا: اختفاء المعارضة السورية من المشهد السياسي طوال الايام الثلاثة الماضية، وعدم وصول وفد تضامني يمثلها الى انقرة لاظهار التضامن مع اردوغان حتى الآن على الاقل.
المشهد التركي يتغير في تركيا، وتركيا بعد الانقلاب ستكون غيرها بعده، مثلما قلنا في مقالة سابقة، وكذلك حال الرئيس اردوغان، ونحن على بعد اقل من 24 ساعة قبل التعرف على التحول الاكبر الذي سيعلنه الرئيس التركي بعد اجتماع مجلس الامن القومي الاعلى، وهي ساعات طويلة من الانتظار، بالنسبة الينا على الاقل.