أديس أبابا.. القمقم الذي تخرج منه “عفاريت الصحراء” | 28 نوفمبر

الفيس بوك

إعلان

أديس أبابا.. القمقم الذي تخرج منه “عفاريت الصحراء”

سبت, 01/28/2017 - 19:09

أفخم مكان يمكنك ولوجه في هذا القسم الشرقي من القارة الإفريقية. المبنى الذي يضم مقرات الهيئات الرسمية الكبرى لمنظمة الاتحاد الإفريقي. جنود مسلّحون بالرشاشات يطوّقون المكان من كل الجهات، يمنعون العربات من الاقتراب من بوابته، إلا في حال كانت تقل مسؤولاً حكومياً أو دبلوماسياً بشارة خاصة. باقي أعضاء الوفود والصحافيين والملاحظين الراغبين في دخول المبنى الحصين، مطالبون بالانتقال إلى أحد مراكز الاعتماد المقامة في فندق “غيون” التاريخي الشهير وسط أديس أبابا. شارة الأمن الإثيوبي هذه تخوّلك تجاوز الحاجز العسكري ثم البوابة الأمنية الكبرى للبناية، لتطأ قدمك هذا الفضاء الذي يضج رقياً وأنافة وعناية.

 

 

صدمة المشهد الأول

المشهد الأول الذي يصادفك وأنت تغادر البوابة الأمنية، يذكرك أنت القادم من المغرب بمدخل قصر المؤتمرات الموجود بمدينة الصخيرات، مع فارق الحجم لصالح مقر الاتحاد الإفريقي الضخم. لكن، وما إن تقترب من النافورة الكبرى التي تتوسط الساحة الكبيرة في مدخل المبنى، حتى ينتابك شعور غاية في الازعاج. صفان من الأعلام الوطنية للدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي، يحفان بالنافورة. إلى يمينك 27 علماً، وعلى يسارك مثلهم. ومهما كانت درجة موضوعيتك ومهنيتك ووعيك بالواقع السياسي وأصوله التاريخية، فإنك لن تسلم من ذلك الاحساس بالمرارة وأنت تشاهد علماً يرمز لنصف المغرب الجنوبي، علم جبهة البوليساريو، يرفرف وسط باقي الأعلام، بينما يغيب العلم المغربي.

بعد زوال أول أمس الخميس، صادف خروج “اليوم 24” من مقر الاتحاد الإفريقي بحثاً عن وجبة غذاء؛ وصول أول وفد مغربي رسمي يحط الرحال بالمركز العام للندوات التابع للاتحاد الإفريقي، والذي يحتضن القمة ال28 هذه السنة. لسبب ما كان العلم المغربي الصغير الذي يعتلي مقدمة سيارة “الميرسيديس” السوداء مثيراً للانتباه، وصادف المشهد مرور الموكب بآخر منعطف قبل الوصول إلى مدخل الاتحاد الإفريقي، ما جعل السيارة تخفض سرعتها. سيدة بملامح مغربية أو متوسطية على الأقل في المقعد الأمامي للسيارة، سنعرف لاحقاً أنها سفيرة المغرب في إثيوبيا، نزهة العلوي محمدي، تبادلت نظرات الفضول مع “اليوم 24″، قبل أن يثير مشهد وقوفي على قارعة الطريق في انتظار سائق سيارة الأجرة الذي تعرفت عليه في الفندق، فضول أحد الرجلين الجالسين في المقاعد الخلفية للسيارة، والذي لم يكن سوى مدير إدارة الوثائق والمستندات، ياسين المنصوري، وإلى جانبه وزير الخارجية والتعاون صلاح الدين مزوار.

زيارة ليست غريبة عن الدبلوماسية المغربية، حيث ظلت المملكة تحرص على الانتقال إلى العاصمة الاثيوبية أو غيرها من العواصم الإفريقية التي تحتضن قمم الرؤساء، وتقوم باتصالاتها ومشاوراتها على هامش القمة، في محاولة للدفاع عن مصالح المملكة وصد تحركات خصومها.

لكن السيارة السوداء التي ولجت المبنى هذه المرة، تسعى إلى ترك نسخة من العلم الأحمر ذي النجمة الخضراء، داخل هذه البناية الفخمة، ورفعها لترفرف إلى جانب أعلام الدول الـ53 الإفريقية الأخرى، وعلم الدولة الوهمية المعلنة من طرف البوليساريو. “شعور صعب ومؤلم في الحقيقة هذا الذي ينتابك وأنت تدخل هذه البناية، لكن أن توجد إلى جانبهم أفضل من غيابك”، يقول مراقب مغربي ألف حضور القمم الإفريقية متحدثاً إلى “اليوم”، فيما أعضاء البعثة الدائمة للبوليساريو والوفد القادم لحضور القمة، يتحرك بنشاط وترقب لما سيكون عليه الوضع بعد دخول المغرب رسمياً إلى هذا المقر الفاخر.

 

المغرب كان مؤسساً وأصبح منسياً

 

حداثة عهد هذه البناية بالوجود، والقطيعة التي حدثت في مسار المنظمة التي تضم الدول الإفريقية مع نهاية القرن العشرين، حين اختفت منظمة الوحدة الإفريقية ليعوضها وريثها الشرعي الوحيد الاتحاد الإفريقي؛ وما سبق ذلك من انسحاب مغربي من منظمة الوحدة الإفريقية عام 1984، يجعل البحث عن بصمات مغربية مهمة صعبة.

أكثر من ثلاثة عقود من سياسة المقعد الفارغ، في مقابل آلة دبلوماسية ودعائية قوية لكل من الجزائر والبوليساريو، تجعل جل من يدلفون إلى هذا المقر، يجهلون الدور المبادر في التأسيس الذي قام به المغرب في هذه المنظمة. فيما يكرّس الوضع القائم، أديس أبابا كمحضن للمحطات الأكثر صعوبة وإيلاماً في مسار قضية الصحراء والوحدة الترابية للمغرب.

“قادة المغرب الذين كانوا يريدون في ذلك الوقت أن تكون الدول الإفريقية متمتعة باستقلال حقيقي، قرروا اجراء اتصالات في أوائل 1961… وكان من نتيجة المشاورات مع قادة مصر وغانا ومالي وغينيا والحكومة المؤقتة الجزائرية، هي الوصول إلى اتفاق تم بفضله انعقاد مؤتمر الدار البيضاء التاريخي الذي أحدث ضجة كبرى في السياسة الدولية آنذاك”، يقول أحد شهود تلك الحقبة، الموريتاني الداي ولد سيدي بابا، الذي اختار أن يكون مغربياً ويصبح وزيراً للأوقاف ومديراً للديوان الملكي.

ويضيف الداي الذي كان قد ألقى محاضرة في بداية السبعينيات توثقها مجلة “دعوة الحق”، أن الملك الراحل محمد الخامس، “بالإضافة إلى مواقفه السابقة كقائد من قادة التحرير الإفريقي، كان فعلاً هو الأب الروحي لمؤتمر الدار البيضاء”.

لقاء تاريخي، سيكون الجسر الذي وصلت من خلاله الدول الإفريقية حديثة العهد بالاستقلال، نحو العاصمة الاثيوبية أديس أبابا، حيث انعقد المؤتمر التأسيسي لمنظمة الوحدة الإفريقية. مبادرة محمد الخامس هي التي أصبحت تسمى تاريخياً بـ”مجموعة الدار البيضاء”، قبل أن تشارك ثلاثون دولة في مؤتمر أديس أبابا التأسيسي، وتصادق 32 دولة على ميثاق المنظمة.

تاريخ يبدو أن مقر الاتحاد الإفريقي الفاخر حاول استعادته رمزياً من خلال الصور والرموز التي تؤثث فضاءاته، وخاصة منها البهو الرئيس.

ففي الجنبات الخارجية لقاعة الجلسات الكبرى، والتي تحمل اسم وصورة الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا، علّقت صور 32 من أبرز الزعماء التاريخيين لإفريقيا. فهدا جمال عبد الناصر، الرئيس المصري لما بعد الثورة على النظام الملكي، وصاحب المشروع القومي والعالم ثالثي الكبير في مواجهة القوى الدولية الكبرى، وخاصة منها الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا أحمد بنبلة، واحد من أبرز زعماء الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وأول رئيس لدولة الجزائر المستقلة. وبينه هذا وذاك، يوجد الحبيب بورقيبة، الزعيم التاريخي لتونس المستقلة، وإلى جانب عبد الناصر امبراطور اثيوبيا السابق، هايلي سيلاسي، وفي أعلى المشهد صورة لرئيس دولة جنوب السودان، سالفا كير، وهي الدولة حديثة العهد بالوجود والانضمام إلى الاتحاد الإفريقي.

وفيما يمكن تفسير تعويض صورة الزعيم والدكتاتور الليبي الراحل، معمر القذافي، بالملك الليبي الذي أطاحت به ثورة هذا الأخير، محمد إدريس المهدي السنوسي، بمقتل القذافي وسقوط نظامه؛ يصعب على أي متتبع فهم حضور جبهة البوليساريو في شخص مؤسسها الوالي مصطفى السيد، رغم إمكانية فهم غياب المغرب بانسحابه من منظمة الوحدة الإفريقية.

جنبات القاعة الدائرية التي تحتضن جلسات رؤساء الدول ووزراء الخارجية، تتزين بلوحات فنية ورسوم أخرى ترمز لبعض دول القارة الإفريقية، من قبيل لوحة كبرى لأم كلثوم، وأخرى لخريطة موريتانيا توضح مكوناتها الثقافية، وثالثة لفنون الزليج الجزائرية، وفي آخر المطاف توجد لوحة فنية تضم صور الزعماء المؤسسين لمنظمة الوحدة الإفريقية باعتبارهم “الآباء المؤسسين” للمنظمة، ومن بينهم يظهر بورتريه صغير للملك الراحل الحسن الثاني.

 

البوليساريو تنضم في أديس أبابا

 

الملك الراحل، وفي الوقت الذي كانت فكرة والده محمد الخامس بذرة الثمرة التي زرعت في أديس أبابا عام 1963، كان على موعد مع تجارب عسيرة ستخرج من قمقم هذه العاصمة الإفريقية. الحسن الثاني وبعد فترة من الأمل في حياد المنظمة الإفريقية ومساهمتها في حل مشكلة الصحراء في مواجهة اسبانيا، وجد نفسه أمام تحول الهيئة التي ساهم والده في تأسيسها إلى خصم حقيقي وأداة انتزاع الصحراء من سيادة المملكة.

فمعاناة المغرب مع دور المنظمة بدأ في نهاية السبعينيات، حين أصبحت تستضيف وفود جبهة البوليساريو وتطالب المغرب بالانسحاب من الأراضي التي سيطر عليها بعد انسحاب موريتانيا منها (إقليم وادي الذهب)، لتتقدم الجبهة رسمياً بطلب الانضمام إلى منظمة الوحدة الإفريقية في يونيو 1980، ويعرض الطلب على قمة أفريقية لم تحضرها سوى 24 دولة. فيما كانت الجبهة الانفصالية قد استكملت الأغلبية الضرورية للحصول على العضوية، بعد بلوغ عدد الدول الإفريقية المعترفة بها الـ26، بالتحاق كل من زيمبابوي ومالي والتشاد.

يومها كانت البوليساريو في موقف مماثل للموقف الذي يوجد عليه المغرب اليوم من الناحية المسطرية. أي طلب الانضمام مع التوفر على الأغلبية الضرورية لذلك، مع فارق يتمثل في كون المغرب يتوفر حالياً على أكثر من 40 موافقة على طلب انضمامه، كما أن ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية كان ينص على مسطرة انضمام الدول “المستقلة وذات السيادة”، وهو ما لم يكن (وما زال) ينطبق على البوليساريو.

ورغم كل ذلك، عمدت المنظمة إلى المضي في اتجاه قبول عضوية الجبهة الانفصالية، وهو ما حاول الحسن الثاني تقديم تضحية سياسية تسمح بتلافيه.

“لم أعد أحب أن أسمع أحداً يقول إن المغرب يقف حجرة عثرة في وجه الوحدة وإنه يفرق بين أهل إفريقيا… إننا نؤيد تقرير المصير على علاته ورغم منافاته للتاريخ والماضي”، يقول الملك الراحل الحسن الثاني في مؤتمر نيروبي 1981، حيث أعلن لأول مرة قبوله بتنظيم استفتاء في الصحراء. وبرر الحسن الثاني قراره بعدم رغبته في تفجير منظمة الوحدة الإفريقية، وتلبيته لرغبات دول عربية وأوربية صديقة للمملكة.

كما يقع الآن مع طلب المغرب الانضمام إلى الاتحاد الإفريقي، خرجت أصوات معادية للمغرب حينها معتبرةـ أن قبول الحسن الثاني بالاستفتاء اعتراف بجبهة البوليساريو، لكن الخطوة حققت على الأقل تجميد مسطرة انضمام الجبهة إلى المنظمة.

وفي الوقت الذي شرعت هذه الأخيرة في العمل على مواكبة تنظيم الاستفتاء، عبر تشكيلها لجنة متابعة، أصر خصوم المغرب، تتقدمهم الجزائر، على إحياء طلب انضمام البوليساريو.

أمر تحقق على يد المسؤول الاداري الأول في منظمة الوحدة الإفريقية حينها، الطوغولي أديم كودجو (يعادل الجنوب إفريقية دلاميني زوما حالياً)، بدعوة الجبهة للمشاركة في اجتماع وزراء خارجية المنظمة بالعاصمة الاثيوبية أديس أبابا شهر فبراير 1982، وذلك باعتبارها عضواً كامل العضوية.

خطوة مفاجئة تسببت في انسحاب المغرب ومعه 19 دولة من أصدقائه من اجتماع أديس أبابا، إذ اعتبروا الخطوة خرقاً لميثاق المنظمة الذي تنص مادته الرابعة على انضمام الدول المستقلة وذات السيادة.

وفي الوقت الذي جمّد فيه الغضب المغربي من ضم البوليساريو قمم منظمة الوحدة الإفريقية، بعد ما فشلت قمة طرابلس لذلك العام حين قاطعها المغرب وأصدقاؤه، كانت أديس أبابا هي المنفذ الوحيد أمام خصوم المغرب مرة أخرى، حيث حضر وفد الجبهة قمة يونيو 1983، رغم قيامه بانسحاب “إرادي” في انتظار توافق أعضاء المنظمة.

هذا التوافق سوف يحصل على أساس التوجهات الجزائرية، حيث صودق على قرار إجراء مفاوضات مباشرة بين المغرب والبوليساريو، وهو ما لم تكن المملكة تقبله.

مسار توّج بإعلان البوليساريو عضواً كامل العضوية ومشاركتها في قمة أديس أبابا نونبر 1984، وهو ما رد عليه المغرب بالانسحاب نهائياً من المنظمة، رافضاً احترام مسطرة الانسحاب التي تفرض عليه تأجيل تنفيذه سنة كاملة، باعتبار أن المنظمة نفسها لم تحترم قانونها.

 

اثيوبيا التي تجهلنا تؤذينا

 

هي إذن أديس أبابا، العاصمة التي ظلت “تمتلك مفاتيح” ملف الصحراء وتوقّع اللحظات الحاسمة فيه، والتي لم تكن قط في صالح المملكة. واقع يفسره أمران، أولهما الجفاء والتوتر اللذان ظلا يطبعان علاقة المغرب بإثيوبيا، والوزن الخاص الذي تتمتع به هذه الأخيرة على الصعيدين القاري والدولي. وضع يبدو أن دبلوماسية المغرب اهتدت أخيراً إلى سبيل تجاوزه، من خلال مدّ اليد للدولة التي ورثت الحبشة من جهة، واقتحام عاصمتها وعاصمة الدبلوماسية الإفريقية، من خلال طلب العضوية في الاتحاد الإفريقي.

“مع نظام شبه شمولي، لا ينبغي انتظار حدوث ثورة في العلاقات الثنائية مع هذا البلد ولا تغيير كبير في مواقفه، إلا إذا تغيرت المعطيات الاستراتيجية والاقتصادية”، يقول تقرير أعده المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية تحضيراً للخروج المغربي الكبير نحو إفريقيا. التقرير أوصى بإيلاء اهتمام خاص بإثيوبيا، “لكون مواقفها تكتسب شرعية دولية تقريباً بدون أدنى مجهود”.

ويوضح المعهد أن هذا الأمر يجب أن يتم عبر تقوية الحضور الدبلوماسي للمغرب في أديس أبابا “عبر دبلوماسية قوية ونشيطة ومقيمة ومتجولة في الوقت نفسه، كل ذلك مع الأخذ بعين الاعتبار الثقافة السياسية وسيسيولوجيا لهذا المجال، ما سينتج شبكة علاقات قادرة على تغيير وجهة نظر اثيوبيا”.

الشرعية والمكانة الخاصة التي تتمتع بها اثيوبيا، يفسرها تقرير المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية نفسه، بكونها من الدول الإفريقية النادرة التي لم تخضع للاستعمار، “ما يمنحها موقع ريادة كبيرة، بدون أثر كبير على الواقع الإفريقي، باستثناء القرن الإفريقي وحوض النيل، كما أنه ناطق تاريخي باسم القارة في مواجهة مجموعتي الثمانية والعشرين…”.

وفي الوقت الذي شدد فيه تقرير المعهد على تعزيز العلاقات الاقتصادية مع إثيوبيا، جاءت الزيارة الملكية الأخيرة إلى أديس أبابا، شهر نونبر الماضي، لتشهد التوقيع على مشروع استثماري ضخم بمليارات الدولارات، بين حكومة اثيوبيا والمكتب الشريف للفوسفاط، يهم احداث مصنع كبير للأسمدة الفلاحية.

اليوم 2