‘الربيع′ زلزال باطني متناوب أم فورات بركانية متناثرة؟
الأربعاء, 25 ديسمبر 2013 23:11

ماذا يمكن لأحدنا أن يجيب إذا سُئل عن الحالة العربية الراهنة؟ هل تتدافع الأوصاف السلبية إلى لسانه دونما لحظة توقف بالشرح والتفسير لبعض دلالاتها؛ فما أسهل إصدار الأحكام المتناثرة وراء الأوصاف ، سلبيةً كانت أو إيجابية، ذلك أن كل توصيف إنما يتضمن حكماً متوارياً،

أو واضحاً، بل صارخاً كما في مختلف التحليلات الإعلامية التي تتناول أحداث العرب بالجملة أو التفصيل. خلاصة القول أن العرب هم في أتعس أحوالهم. كأنما لم يعد يكفي اللائمين تعداد الكوارث والمصائب، بل وصلت الأوضاع المنهارة إلى حد التباري أخيراً في الإعلان ليس عن اليأس من مقاومتها فحسب، بل في التصريح شبه الجماعي بموت كلِّ إمكانيةٍ في اجتراح الحلول، حتى النظرية بل الخيالية منها. لماذا؟ هل هي الكوارث عينها التي تكرر أسبابها وأفعالها، تكرر أدوارها، وإن تغيرت أسماءُ فُعلائها. أم أن ‘الاختلاف ‘ متحقق بشكل ما على الأقل في كون الوقائع السلبية المتكررة في نماذجها، هي جديدة من حيث تمتعها بالحضور المادي المباشر، بينما سابقاتها أمست في عداد الماضي المنقضي. فالتاريخ العربي المعاصر قد لا يكون اليوم مجتراً لمصائب الأمس بالمعنى الحرفي، لكن، كأنما أمسى زمان التاريخ منفصلاً عن مجتمعاته. صارت له مراحله الخاصة به، وقد لا تدري بها مجتمعاته هذه، كأنها اخترعت لذاتها زماناً آخر، فاقداً لجريانه وفق خط مستقيم، متحولاً إلى محيط دائري، كل نقطة فيه تؤدي إلى نقطة أخرى من الدائرة المغلقة عينها. فمن يعيد الخطَّ المنحني إلى استقامته المعهودة. كيف تتم القفزة شبه المستحيلة في عالم الهندسة ما بين الخطين: المنحني والمستوي. وهل كان علم التاريخ مرة مطابقاً لفن الهندسة. فأي جسر متخيل يمكنه أن يصل بين الاثنين. كيف يمكن للظهر المقوس أن يستعيد استقامته، بعد أن انكسر عموده الفقري. العرب أضاعوا، تنازلوا ـ أو أُنزلوا ـ عن عمودهم الفقري منذ أن تغلبت جغرافية (سايكس بيكو) على تاريخهم، حدث هذا منذ أن احتلت جيوش الاستعمار الأوروبي أقطارهم جميعها. ولكن عندما طردوا هذا الاحتلال لم يستطيعوا أن يطردوا وراءه جغرافيته المشؤومة هذه، وذلك عبر محاولاتهم ‘الثورية’ طيلة النصف الثاني من القرن الماضي ، فليست ثورات/انقلابات/كوارث خمسين عاماً، لتنفجر وتنتصر وتنهزم إلا تحت طائلة الانعتاق من استبداد تلك الجغرافية، بدوائرها المغلقة على شعوبها.. والانخراط في صيرورة التاريخ نحو الأزمنة المجهولة. لنعترف أن جغرافية سايكس بيكو قد ولدت، فرضت، لتبقى. كادت أن تمسي هي الجغرافية الطبيعية للمنطقة. فقد تحدّت وصمدت في وجه كل العواصف السياسية والانقلابية الكبرى التي كتبت تاريخ نهضة الاستقلال لما بعد الاحتلال الأجنبي. ومع ذلك حينما أوشكت وحدة مصر وسورية أن تنسف أهم الحدود الفاصلة بين شمالها وجنوبها، قافزة ما فوق الجيب (الدفرسوار) الصهيوني في خاصرة فلسطين أصبح لهذا الجيب دور المحور المركزي في وظيفة الحراسة الدائمة، والمستقبلية على ثوابت تلك الخارطة، وذلك مابعد إسقاط الوحدة العربية الأولى في العصر الراهن، ربما اعتقد المشروع الصهيوني أنه فاز ببرهانه الحاسم الفاصل على جدوى الوجود لدولته (الأولى ) الوليدة آنذاك: إسرائيل، وقبيل تلك الوحدة بسنوات قليلة (اسرائيل 1948) وحدة الجمهورية العربية المتحدة 1958. فالسؤال البدئي: لماذا هي إسرائيل لا تزال موجودة وباقية من حوالي سبعة عقود متوالية، بينما الوحدة (الافتتاحية) لم تعش سوى ثلاث سنوات فقط؟ هل نقول ان ثمة استراتيجية موضوعية، لم يكتبها أحد، أو أية قوة دولية، بل ولّدها سياق التاريخ نفسه تلقائياً، فالقوة الأبرع ما بين القوى المتنافسة الفاعلة على الأرض هي الأسرع والأذكى في التقاط رموزها، وإدعائها لذاتها، كما لو كانت هذه القوة هي المؤهلة وحدها لتبنيها، وتنميتها وتشغيلها لحساب مصالحها وحدها، وضداً على منافسيها من القوى الأخرى العاجزة، المتخبطة تحت أنواء تخلفها المزمن. ماهي الاستراتيجية الموضوعية؟ ليست نوعاً من قدرية غيبية أو حتمية تاريخية، لكنها مجرد حاسة سادسة قد يتمتع بها الوجدان العام للمجتمع في ظرف حاد من تطوره الإنساني والحضاري. وتأتي الخبرة السياسية لتقرأ ما تكشفه هذه الحاسة من تحديات حقيقية وتقترح مناهج الفعل المنظم للمؤسسات القيادية في الحقول المختلفة. حول هذه النقطة تبرز الفروق النوعية ما بين نموذج المجتمع الحر المتقدم، والمجتمع المقموع المتخلف: بحيث يمكن القول ان التجربة النهضوية عانت من أخطاء قادتها السياسيين، أو من عجزهم المعرفي، ومن سوء نوايا معظمهم إزاء المنعطفات المصيرية. لسنا الآن في وارد الاستعراض لأخطاء الماضي، فاللحظة الراهنة ستكون هي الحلقة الأخطر في مسلسل الانهيارات البنيوية الكبرى، منذ نكبة فلسطين حتى ‘تباشير’ نكبة الأمة بذاتها ككل اليوم، وقبل الغد. ما تنذرنا به هذه الاستراتيجية الموضوعية هو أن العرب قد فقدوا جزءاً من جغرافية وطنهم الأكبر ولكنهم بالمقابل استيقظوا على أنفسهم قليلاً، ومعهم ربما استيقظ تاريخهم قليلاً خلال العديد من أشباه الثورات التي تصاحبها وتعْقُبها فواجع الانهيارات الفئوية والجماعية. وهاهم العرب أخيراً على وشك أن يفقدوا سيادتهم الطبيعية على تاريخهم المعاصر، لغاية إلغاء مستقبلهم كأمة حية، أو أنهم يصيرون إلى بقايا أمة: فحين تخسر ‘الأمة’ جزءاً من جغرافية وطنها، وتعجز عن استرداده طيلة سبعين عاماً، يغدو تاريخها، أي وجودها الإنساني هو المهدد بالاضمحلال، لن يكون ذلك بفعل الأيدي الأجنبية، بقدر ما هو بفعل الأيدي الأهلية هذه المرة؛ ولكن كيف حدث ما يحدث؟ لنتذكر سريعاً أن هذا التاريخ لم يعد شبحاً؛ لقد حاول أن يولد جديداً، أن ينبثق ربيعاً عربياً..أخرج الجماهير من قمقم الخوف والطاعة أو اللامبالاة والانعزال؛ حوّل آمال النُّخب الحركية عن التطلع إلى هدف التغيير السياسي الفوقي إلى إمكانية الانقلاب البنيوي على الواقع الإنساني الرديء كلياً. أعلن ثورة الكرامة لكل الناس، كيما يتذكر هؤلاء أنهم كانوا في الأصل بشراً أحراراً وأنهم يمكنهم أن يحطموا قيودهم بأيديهم المغلولة عينها؛ فماذا حدث حقاً حتى كاد الأمر أن ينقلب رأساً على عقب هكذا؟ ماذا جرى حقاً، كيف أن بعض قطعان الشباب الغاضب لا يكاد يخرج بعضهم من أقبية الاستبداد السياسي، حتى يدفعوا بأنفسهم إلى متاهات الاستبداد الغيبي المطلق. بدلاً من أن يستمروا ضحايا القمع السلطوي ما فوق رؤوسهم، يفضل البعض أن يصيروا أسياداً بل أدوات للقمع لذواتهم ولكل الآخرين معهم، شاؤوا أو أبوا. ما يعني أن حصار الربيع العربي، تسليطَ كل نقائضه على معانيه وإجراءاته. إغراقَه في مستنقعات المقتلات البدائية، كل هذا يجعل التحرر السياسي الذي انتظرته أجيال ما بعد النكبة لتعيد اصلاح ما فسد من أحلامها. يغدو نسْياً منسياً. فقد تحملت النهضة الاستقلالية أكلاف عشرات من وقائع الانتفاضات الرأسية، والشعبوية معاً، من أجل أن تتمكن ‘الأمة’ من رد أفاعيل نكبة فلسطين إلى صدور فاعليها، من أجل أن تعيد إلى جغرافية العرب كرامتها المسلوبة؛ لعل التاريخ ينجز يقظته، يستكمل شروطها العضوية والإنسانية. فينبثق ربيعاً فتياً في كل قطر حبيس وراء حدوده المصطنعة، أسير لفئاته الحاكمة. ظالم لغالبية شعبه المقهور. سبعة أو ثمانية عقود من عمر النهضة الاستقلالية لم تذهب هباء رغم هزائمها المتكررة وفواجعها الإنسانية. أثمرت، في شبه الخاتمة، ربيعاً من الثورات البنيوية غير المسبوقة؛ لم تستطع أن تنتصر جغرافيتها الأصلية على خارطة سايكس بيكو بل تدعّمت هذه الخارطة بانسلاب أو انسلاخ جزء عضو من جغرافيتها الطبيعية تلك؛ فالحصيلة المترتبة على كل هذه الحقبة الدامية كادت أن تسجل ‘النكبة’ كهزيمة حضارية للتاريخ العربي المعاصر، وليست مجرد ضياع قطعة أرض؛ لكن هذا التاريخ لم يُسّلم رأسَه لإكليل من الشوك حاول أن يغطي به جبينه. لقد فجّر من رماد براكينه المطفأة زلزالاً من نوع آخر، يهز أعماق الأرض تحت كل هَرَم سلطوي حارس لخارطة سايكس بيكو؛ وسوف يزعزع كل قناع آخر تفرزه الاستعارات الاستبدادية المستجدة تحت أسماء قدسية مزورة. فما زال الربيع في بداياته، ويكافح شبكيات الماضي الشتائي العالقة بأذياله واحدة بعد الأخرى. لا بد من بارقة تفاؤل، بالرغم من جولات التصفيات عساها تطوي كتابها الأسود والأحمر يوماً ما..  

مطاع الصفدي ‘ مفكر عربي مقيم في باريس