كنوز أطار المائية –مغامرة من أدب الرحلات/ بقلم دداه محمد الأمين الهادي |
الجمعة, 14 مارس 2014 17:15 |
هذه المرة أعود إلى مدينة أطار، عاصمة آدرار محملا بالأشواق، وأسيرا لتذكار الماضي، حيث الدمن والأطلال تحاصرني، فأجلس في المنزل حيث تربيت، وحولي بقايا ما كان من الزمن الجميل، مكتبة جدي القاضي محمد ولد دداه رحمه الله، وديوان القاضي بدر الدين ولد برو، وسبحات مدوية في كتب الشيخ ماء العينين، والأبواب القديمة للمدينة، والنوافذ الصامدة رغم مرور الزمن ...، وعلى الجدران أمارات الصبر وقساوة المناخ، استحالت شقوقا وجيوبا تتلاشى فيها آمالي بالبقاء، وتذكرني بأننا راحلون ... بين الفينة والأخرى أمر مسرعا في شوارع المدينة، ألاحظ التغيرات الحاصلة في التخطيط والعمران، فقدر أطار أن يتطور دائما، وأن يظل الأول برغم المحاولات المتكررة للتحايل عليه، ووضعه خارج السياق، فهو الأول جمالا، ومآلا، وجبالا، وإنسانا خلوقا بشوشا، وكرم ضيافة لا ينضب، وأماسي على الربط لا يخفى بريقها، وترسمها الشمس كل يوم بخيوط الذهب ... الأزقة بين حينا في "اتويفندة" وبين حينا القديم في "كرن الكصبة" ما زلت قادرا على قطعها مغمض العينين، كأن شيئا لم يحدث، وهي كبرت وتبدل بعضها فيما ظل الكثير على حاله، أما أنا فصرت بحكم الأيام رجلا، إلا أن مدينتي الأم تصر على أنني ما زلت صبيا، وعلى رأي نزار قباني "إن الرجال جميعهم أطفال" ... اجتمع علي المعارف القدامى، والأصحاب، وقررنا أن نضرب عصا الترحال صوب خبايا وكنوز آدرار الطبيعية، فاتفقنا على السير جنوبا ناحية "عين أهل الطايع"، وتقدمنا بخطى واثقة نحو "لغليكة" حوالي عشرة كيلومترات من أطار، وهناك هبطنا الجبل ناحية اليمين، فإذا ببركة صغيرة جدا، اكتنزتها الطبيعة، بها أسماك صغيرة جائعة، تلتهم الخبز حين نقدمه دون خوف أو وجل، وتتقدم ناحية السطح في جماعات جميلة، تدل على عظمة الخالق، والغريب أن نهمها للحم كعادة الأسماك كان أكبر من نهمها للخبز... وكانت "لغليكة" عبارة عن نحت عميق دائري في الجبل، مجهول العمق، تنحدر فيه المياه القادمة من رؤوس الجبال، مشكلة إزميلا ينحت مكانا لتلك الصورة الطبيعة من الماء، تلك الصورة الهابطة في الغور، التي تحيطها الكهوف، والمخابئ، وتتناثر حولها الصخور الكبيرة، وتأخذ عندها السناجب قيلولتها على وجل من القادمين من البشر، وعندما يتحرك الرابضون من الناس من أماكنهم يطلق أحد السناجب صرخة تحذير للبقية ليتحركوا في الوقت المناسب، "فاكليلوات" لا تنقصهم حاسة الحذر ... ويمضي أسبوع من الرحلة الأولى، ويتوهج حنين الجبليين إلى القمم الشاهقة، وهذه المرة سرنا على ظهر الجبل الغربي متجهين صوب تيارت، حيث توجد المدينة التاريخية "آزوكي"، وهبطنا المهبط المخيف، المعروف محليا "بانطارازي"، وبدت المدينة من الأعلى آية في الكمال والجمال، داعية للتأمل، فباسقات النخل يسبح سعفها، والكثبان الرملية تتعالى متجاسرة في اتجاه أعالي الجبال، ولكنها في النهاية تنام في الأحضان الجبلية، أما الجبال فكل شيء يتقاصر عنها، فهي سيدة الجميع، ومساكن الناس مترامية في أطراف الوادي، والصوامع تقف بشموخها المقاوم شاهدة على حضارة لم يبق منها إلا المشير بيد الوداع ... اجتزنا الوادي مسرعين، واستدرنا يمينا من قرب المقبرة، حيث يوجد بحسب الروايات، وبعض الشواهد التاريخية قبر الإمام الحضرمي، وضربنا طولا لنقف على خد البطحاء، ونزلنا لنقطعها، ومن بعدها استلمتنا الجبال، كنا نسير في السفوح والوهاد، نعلو صخورا صغيرة، ونهبط أخرى، ونرى بأم العين الجبال تسمق، وترتفع بعيدا، وكنا نعلم أننا نسير في طريق يؤدي إلى "أم المحار"، وهي مجموعة من البرك، أو الخلجان المائية الصغيرة جدا، عرفها الأجداد، وقليلون جدا من يحبون أن يغامروا بزيارتها، خوفا من أن تكون قربها مغارات لحيوانات غير أليفة، إضافة إلى أن الزوار من الغربيين يحذرون دوما من السباحة في تلك الكنوز المائية- المغرية بجمالها، وصفائها، المليئة بالأسماك الطرية الصغيرة-والتي في نهايتها تقع "أم لمحار لكبيرة"، وهي مستنقع مائي ضخم، وعميق، ترى العين من شدة صفوه أذرعا من الجبل تغرق تحت السطح المائي، المحاط بالخضرة في أكثر مناطق الوطن جفافا "آدرار" ... لا شيء يعدل زيارة تلك الخلجان الصغيرة، على أن لا تغامر بمحاولة التقدم صوب الماء، فالأرض تبتلع من تقدم خطوة شاكرة قدومه، ليكون طعاما للأسماك، التي تتلقاك فاتحة أفواهها، حتى ليخيل لك أنك قادر على صيدها بيديك، لكن حذار من التقدم صوب الهلاك المحقق، وارض من الغنيمة بالإياب ... في كلتي الرحلتين كان اللحم المشوي حلو المذاق، على أن يتبع بوجبة ثانية من الأرز، وكنا نشعر بالرغبة العارمة في الأكل والشراب، والنظر، وكانت الجبال توفر من الطمأنينة والهدوء ما لا يمكن تصوره، إلا أننا بحكم التجربة نعرف أن ليل تلك الجبال مخالف لنهارها، فالضواري الصغيرة والأفاعي تنتظر حلول المساء لتبدأ رحلتها الأبدية لسلب الأرواح البريئة، وجز الرؤوس، لقد تركنا لها أثر الولائم ورحلنا نتسابق مع الغروب ... وفي انواكشوط ذكرتك يا أطار في ديواني "قبسات قدسية"، فقلت فيك: ويجمعـــــــــــــــــــنا جميعا إذ يطيب وهذا النخــــــــــــــــل باسقه الحبيب فهاجت لي شجـــــــــــــــونا لا يغيب وكاتبــــــــــــــــــــه وشاعره الأديب صباي.. وأحرفي ...، طربي السليب وليتـــــــــــــــي فيه يدركني المشيب وتعــــــــــــزف فوقي الريح الهبوب "أطار" العـــــــــز والشرف المهيب مآثره بنا شهـــــــــــــــــــــــد وطيب يقلب بـــــــــــــــــــــرقها غيم خلوب هي الألمـــــــــــاس والذهب القشيب وحاضــــــــــــــــــــرها كآفلها حبيب بترنيمــــــــــــي...، ويفهمني اللبيب وفيك الصــــــــــــخر شاهقه المهيب حضوري فــــــــي سواك هو المغيب بذلت نـــــــــــــــدى المكارم إذ تثيب من الأفــــــــــــــــلاك شمسا لا تغيب بنور جــــــــــــــــال في العليا يجوب لما اشتعلت علــــى الأرض الحروب فلا يبقـــــــــــــــــــى لساكنها نصيب يفرق جمعنــــــــــا الزمن العجيب فهذي يا عيــــــــون جبال أرضي وذي دمــــــــن الشباب وقد تبدت أنا ابن "أطار" .. عاشقه المعنى بلادي هو.. زهوي وافتخــــــاري فيا ليتي طعمـــــــــــــت به خلودا وليتي إن ثويت به مقامــــــــــــي "أطار" المجد من كـــرم السجايا به "اعليشيخ" يا أهل المـــــعالي أقمت ومرت الأعـــــــــوام عجلى سنينك نبــــــــــــع إلهامي وتاجي سلافتها ألذ شــــــــــــراب عمري أوانك لا يفـــــــــــوت وأنت أولى ففيك النخلة الأولــــــــــــى سخاء أيا وطنا تأصــــــــــل في عروقي على ركب التقــــــــــدم نلت سبقا أطار علاك فجر قد تمطــــــــــــى خيولك نقعهــــــــــــا ذهب موشى فلو بلغتك أوطــــــــــــــــان بشأن ولكن يصعد البخـــــــــــــلاء فيها |