“هآرتس″ تتبنى في افتتاحيتها الرواية الفلسطينية عن ملابسات قيام دولة اسرائيل |
الثلاثاء, 06 مايو 2014 10:12 |
بقلم: شلومو أفنري منذ زمن بعيد لم أقرأ مقالا مشوشا بهذا القدر مثل مقال أسرة التحرير في “هآرتس″ في 29/4 (لنعترف بالنكبة): تستخدم فيه على نحو مختلط ادعاءات صحيحة ومبررة، مع أنصاف حقائق وتجاهل صارخ الى السماء لعدد من الحقائق التاريخية الاساس غير القابلة للجدال. من جهة، يطرح المقال قول، يبدو سطحيا، فهيما وحساسا: “الخلاف على مدى مسؤولية اسرائيل عن هجرة، طرد واقتلاع مئات الاف الفلسطينيين في حرب التحرير هو موضوع للمؤرخين” – ما الذي يمكن أن يكون أكثر نزاهة من ذلك؟ غير أنه لا ينبغي للمرء أن يكون مؤرخا كي يعرف بوضوح بان في المستقبل أيضا ستكون أكثر من مدرسة واحدة في هذا الجدال، والاقتراح “بابقاء ذلك للمؤرخين” هو عمليا تملص من المواجهة – هنا والان، مع حقائق تاريخية لا خلاف فيها. كما أن اللغة الحذرة (وأنا أمتنع عن القول “المغسولة” لهذه الجملة التي تتحدث عن “الهجرة، الطرد والاقتلاع″ وتمتنع عن استخدام كلمة “الهرب” الذي كان بالتأكيد جزء من الواقع المركب في حرب التحرير، تشهد على ذلك منذ الان في أن المقال لا يترك بالضبط الحسم للمؤرخين. يوجد في التاريخ عدة حقائق لا حاجة حقا لابقائها للمؤرخين، ومحاولة تجاهلها مخلولة من زاوية النظر الاخلاقية – التي هي، وعن حق، الروح التي تخفق خلف المقال الافتتاحي. حقيقة هي – وليس “ابقاؤها للمؤرخين” – أن ألمانيا هي التي اجتاحت بولندا في 1939 وليس العكس؛ حقيقة هي أنه في 7 كانون الاول 1941 اليابان هي التي هاجمت الولايات المتحدة وليس العكس؛ وهكذا ايضا ما يسمى النكبة هي نتيجة حسم سياسي للقيادة الفلسطينية والدول العربية لرفض قرار التقسيم للامم المتحدة، لمحاولة منع تحققه بقوة الذراع ولمهاجمة الحاضرة اليهودية في البلاد وبعد ذلك دولة اسرائيل. على هذا لا توجد أي كلمة في المقال. هكذا، عمليا، يعرض هذا المقال الافتتاحي سياق اقامة دولة اسرائيل حقا بالشكل الذي يعرض فيه في الخطاب السياسي الفلسطيني والعربي – في ظل التجاهل للواقع السياسي والتاريخي للعامين 1947 -1948. وبشكل عام قرار التقسيم ببساطة لا يذكر في الخطاب العربي، مثلما لا تذكر المقاومة العنيفة لتحقيقة. لعله يمكن فهم هذا النفي من الجانب العربي: ولكن في “هآرتس″؟ ولمن نسي، أو لا يعرف، أقترح التوجه الى أرشيف الصحيفة وقراءة عنوانها في 30 تشرين الثاني 1947، والتقارير اليومية في الاشهر التالية لذلك، عن مظاهر العنف العربي وبداية المقاومة العربية المسلحة لقيام دولة اسرائيل – بداية من جانب ميليشيات عربية في البلاد (“العصابات”)، وبعد ذلك بواسطة الاجتياح المنسق للجيوش العربية مع نهاية الانتداب البريطاني في 15 ايار 1948. عن كل هذا لا توجد حتى ولا كلمة واحدة في المقال الافتتاحي، بالضبط مثلما يفضل الخطاب العربي ببساطة شطب هذه الحقائق التاريخية من الذاكرة. بعد أن يترك المقال السؤال عن مسؤولية اسرائيل للمؤرخين، يواصل القول انه “لا شك ان مصيبة وطنية وشخصية المت بالفلسطينيين”. مصيبة؟ هل كانت النكبة هزة أرضية؟ اعصار طورنيدو؟ تسونامي؟ لقد كانت نتيجة مأساوية لقرار سياسي عربي لمنع قيام دولة يهودية في قسم من بلاد اسرائيل الانتدابية، بالضبط مثلما كان طرد 12 مليون ألماني عرقي من اراضي بولندا، تشيكوسلوفاكيا وهنغاريا بعد 1945 نتيجة مأساوية للعدوان الالماني في 1939 وبعد ذلك في 1941، في اجتياح الاتحاد السوفييتي. هنا وهناك دفعت جماهير المواطنين الابرياء ثمن عدوان زعمائهم: ولكن من يحاول اليوم في المانيا وصف طرد ملايين الالمان من شرقي اوروبا كـ “مصيبة” لا ترتبط بسياسة العدوانية للرايخ الثالث، فسيسمى عن حق “نازي جديد”. في صالح الجمهور الفلسطيني ينبغي القول ان اعضاء الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي كان يضم في تلك الايام بضع مئات من الاعضاء، قبلوا مشروع التقسيم وعارضا العدوان العربي، كون هذا كان في حينه موقف الاتحاد السوفييتي. ولاحقا انخرط بعض منهم في الحزب الشيوعي الاسرائيلي. هكذا ايضا اعضاء الاحزاب الشيوعية في مصر والعراق، والذين حبست الكثير منهم السلطات في دولهم. ولكن كل هؤلاء كانوا حفنة فقط. وعلى نحو مفعم بالمفارقة، يتبنى هذا المقال الافتتاحي لـ “هآرتس″ رواية الضحية التي تميز أحيانا الخطاب السياسي في اسرائيل: ثمة دوائر في اسرائيل – وفي العالم – تسارع الى وصف اليهود واسرائيل حصريا كضحايا. يبدو أن كُتّاب المقال الافتتاحي لم يتحرروا من هذا الفهم اليهودي التقليدي، باستثناء انهم حبذوا وصف الفلسطينيين به – وليس اليهود – كضحايا ليس لهم مسؤولية عن أفعلهم او افعال زعمائهم. يمكن بالتأكيد الفهم – وإن لم يكن التبرير – للمقاومة الفلسطينية والعربية العامة للمشروع الصهيوني: فهذه طبيعة النزاعات القومية – وان كانت لهذه المقاومة جوانب اجرامية وارهابية اكثر مما في حركات قومية اخرى. فالارهاب الفلسطيني ضد المواطنين اليهود ليس نتيجة سنوات الاحتلال ما قبل 1967، بل ترافق منذ أحداث 1929 والثورة العربية في 1936. صحيح، من جهة، لا ينبغي الاستنتاج من تواجد المفتي في برلين في فترة الحرب العالمية الثانية عن التماثل بين المقاومة العربية للصهيونية وبين النازية، ولكن من جهة ثانية، فان تجاهل هذه الحقيقة وتركها للمؤرخين هي ايضا تشويه للتاريخ. يدور الحديث عن جزء من الوعي التاريخي المحدد، سواء لليهود أم للعرب.
ومثلما هو النقاش العاقل للنزاع العربي – الاسرائيلي يجب أن يتحرر من الاحساس بالحق الذاتي الذي يرافق قسما من الايديولوجيا الصهيونية، هكذا فانه ملزم بان يتحرر ايضا من الاحساس بالضحية والعدالة المطلقة الذي يرافق النزعة القومية الفلسطينية. فالقرارات والسياسة الاسرائيلية التي كانت لها آثار شديدة في 1948 لا يجب “تركها للمؤرخين”: س. يزهار في “خربة خزعا” رفعها الى الوعي التاريخي الاسرائيلي – والى جهاز التعليم في المدارس في البلاد – في اثناء حرب التحرير. الموضوع هو أن الواقع هو دوما مركب، وينبغي بالفعل تعليمه في المدارس في اسرائيل – ولكن ليس الرواية الفلسطينية احادية الجانب التي تتبناها الان اسرة تحرير “هآرتس″. هآرتس 5/5/2014 |