الدولة الدينيّة: محاولة في النّمذجة |
الثلاثاء, 22 أبريل 2014 20:05 |
د. أنس الطريقي في إشكاليّة تعريف مفهوم الدولة الدينيّة: تتواتر هذه الأيّام عبارة “الدولة الدينيّة” في شتّى الوسائط الثقافيّة، ومن قبل الجميع. وتختلف المواقف منها، وتتجادل وتتنازع، في سياق الجدل العامّ، ضمن الغليان الاجتماعيّ والإيديولوجيّ الذي تثيره ثورة الربيع العربي، كما هي الحال بعد كلّ الثورات. والواضح أنّ جميع المتجادلين حولها، لا يتحدّثون عن الشيء نفسه؛ فالمفهوم عند الكثيرين لا يشمل كلّ تلك المساحة التي يشغلها وجود الإسلام أو الدين عامّة، باعتباره رؤية مموّلة لتصوّر الإنسان للعالم،في كلّ التصوّرات التي تعتبره حجر الزاوية في بنائها النّظريّ للمجتمع المثاليّ، من أدناها تأكيدا على بعده السياسيّ (كما هي الحال في كتابات رفاعة رفعت الطهطاوي (ت 1873م)، ومحمّد عبده (ت1905م)، ومحمّد أحمد خلف اللّه (ت 1997م)، وغيرهم)، إلى أقصاها تعويلا على هذا البعد (من محمّد رشيد رضا (ت 1935م)، وحسن البنّا (ت 1945م)، وصولا إلى الصحويّين المعاصرين). لذلك، يجد القارئ للتنظيرات الإسلاميّة للمشاريع المجتمعيّة المقترحة بعد الثورة، تعريفات لنوع الدولة الذي تتبنّاه، تحاول أن تعيّن نقاط تمايزها عن مفهوم الدولة الدينيّة، كما هو شأن تعريفات يوسف القرضاوي (و 1926م)، وراشد الغنّوشي (و 1941م)، وفهمي هويدي (و 1937م) وغيرهم، لما يسمّونه “الدولة الإسلاميّة”. في هذا السياق، يعتبر القرضاوي والغنّوشي وغيرهما، أنّ الدولة الدينيّة لم توجد إلاّ في تاريخ الكنيسة الأوروبيّة، على أساس أنّها الدولة التي يحكمها رجال الدين، وتبعا لذلك يستنتجون أنّ الدولة الإسلاميّة لا يمكن أن تكون دولة دينيّة، لأنّ الإسلام لا يعرف مقولة رجال الدين. ويدعمون تأكيدهم هذا بتعيين توافق الدولة الإسلاميّة مع الدولة المدنيّة، إذ يقرّون أنّ مصدر السلطة في الإسلام هو الأمّة، وإن لم تمتلك حقّ التشريع الذي يبقى بيد اللّه. (يراجع في هذا السياق كتاب الأوّل: من فقه الدولة في الإسلام…، وكتاب الثاني: الحريّات العامّة في الدولة الإسلاميّة). والواضح أنّ هذا التعريف المغالط، يجد أصولهفي تعريفات حسن البنّا، وعبد القادر عودة (ت1954م)، وغيرهما من منظّري الدولة الإسلاميّة للدولة، بل في التاريخ الأبعد للتنظير السياسيّ الإسلاميّ للسياسة الشرعيّة، وصولا إلى التمييز المنجز بين الخلافة التعاقديّة، والإمامة النصيّة، في كتابي الأحكام السلطانيّة لأبي الحسن الماوردي (ت 450هـ)، وأبي يعلى الفرّاء (ت 458هـ). وهو تعريف ينبني، رغم ذلك، على نطاق واسع،عند الدارسين المعاصرين لحركات الإسلامالسياسي، بل حتّى عند ناقديهم، كما يجسّده ضياء الدين الريّس، وخليل عبد الكريم بين كثيرين. (يراجع كتاب الأوّل: النظريّات السياسيّة الإسلاميّة، وكتاب الثاني: الدولة الدينيّة والدولة المدنيّة). ومقابل ذلك، يطلق مفهوم الدولة الدينيّة من قبل البعض الآخر، على أدنى التركيبات السياسيّة توظيفا للدين في السياسة؛ فعلى هذا النّحو، ينظر إلى الكثير من الدول الغربيّة على أنّها دول ذات أساس ديني، كماهو شأن دولة إسرائيل، وشأن الولايات المتّحدة الأمريكيّة فترة رئاسة جورج ولكر بوش، بسبب علاقته الأكيدة بالحركة الخلقويّة (Créationnisme). وقد تجد هذه الأحكام مستنداتها في أحكام كارل شميدتحول الأصل اللاّهوتي لمفاهيم السياسيّة المعلمنة في الفكر الغربيّ الحديث، أو في تحليلات علم الاجتماع الدينيّ، حول قدرة الأديان على التأقلم مع محاولات التذويب لنواها التاريخيّة الصلبة، التي تمارس عليها من قبل السياسة، لتستمرّ مقولبة للوعي الغربيّ الحديث، أو في تأكيد الأنثروبولوجيا الدينيّة حيويّة العامل الدينيّ، وتمثيله لبنية ثقافيّة في تحوّل مستمرّ (راجع في هذا السياق كتابات دانيال هارفيو ليجي، وجون بول فيلاّم، وروجي باستيد ؛ في هذا السياق أيضا تبيّن الدراسات الفيلولوجيّة، أنّ الدينيّ يواصل حضوره في تشكيل رؤية الإنسان الحديث للكون، من خلال مفردات معجمه اللّغوي اليومي، كما تبيّنه مثلا أسماء الشهور والأيّام، ذات الأصل الدينيّ الأكيد). والإشكالهو، كيف يتجنّب الباحث الطامح إلى بناء المعرفة خوض هذا الجدال، وتحقيق أقصى التطابق بين المفهوم ومدلوله، توقّيا من تحويله إلى أداة محرّفة للواقع وللمعرفة به معا؟ المؤكّد أنّ الطريق المعياريّة، رغم بعض عناصر صلابتها النّظريّة لا تحظى بكلّ الثقة؛ فكلّ انطلاق من مفهوم معيّن للدولة لا ينجو من التشكيك في تمحوره حول مركزيّة ما، يصدق هذا على من عرّف الدولة الدينيّة قياسا على التعريف الحديث للدولة، (كما يبيّنه إنكار إسلاميي اليوم للحدود التي يضعها هذا التعريف بين الدولة الدينيّة والدولة المدنيّة؛ فهم لا يجدون حرجا من داخل هذا التعريف، أن يعتبروا أنّ ربط التشريع بالشريعةفي الدولة الإسلاميّة لا يتنافى ومدنيّة السلطة، يفعلون هذا خصوصا بعد التلفيقيّة التي أنجزها أبو الأعلى المودودي (ت 1979م)، بين مقوّمات السياسة الشرعيّة، والقالب الدولتي الغربيّ في كتابه المعروف: “تدوين الدستور الإسلاميّ”؛ فيؤكّدون أنّ الدولة الإسلاميّة دولة مدنيّة، وإن بشكل مخصوص)،كما يصدق على منعرّفها، قياسا على التعريف الإسلامويّ للدولة الدينيّة، دولة الإكليروس الغربيّة بالنسبة إلى الصحويّين،أو الدولة النبويّة عند أحد نقّادهم، خليل عبد الكريم (يراجع تعريفه للدولة الدينيّة، قياسا على الدولة المدنيّة، في الفصل الأوّل من كتابه: “الإسلام بين الدولة الدينيّة والدولة المدنيّة”، مصر، ط 1، 1995، ص-ص 12-19). فضلا عن هذا الإشكال المفهوميّ حول مفهوم الدولة، يتعقّد إشكال تعريف الدولة الدينيّة بالصعوبات المفهوميّة الجمّة التي تتعلّق بمفهوم الدين، ميشال ميسلان في كتابه: “نحو علم للأديان” (بالفرنسيّة، ط1973) يعبّر عن هذا الإحراج التعريفيّ الذي يطرحه مفهوم الدين، حتّى ليمكن القول إنّ كلّ شعب البحث العلميّ المتعلّقة بالظاهرة الدينيّة، كتاريخ الأديان، وعلم الأديان المقارن، تقوم على أساس هذا الهدف التعريفي للدين. ما من شكّ في أنّ هذا المأزق متعلّق بالعلوم الإنسانيّة، منذ أن ودّعت براءة التعريف، جرّاء إدراكها أنّ الأمور ليست بالبساطة المتصوّرة، تحت وقع الضربات المتتالية للعلوم المتكوّنة في سياق الإبستمولوجيا الجديدة، كالفروع المختلفة للتحليل النفسيّ، وعلوم اللّغة، وتاريخ الذهنيّات. وما صراعها على تعيين الحدود الفاصلة بينها، والعازلة لمجالات اهتمامها عن بعضها البعض، إلاّ دليل على هذا المشكل. فهل يسلك الباحث في تعريف الدولة والديني، طريق تعريف الخلف، فتعرّف الدولة بنقيضها، كما يعرّف الدينيّ بالمدنيّ. في هذه الحالة أيضا، نقاد إلى ما يسمّى مفهوما سلبيّا (passif)، لا يعرّف الظواهر بل يعيّن حدودا افتراضيّة لها،أو يقودنا تعريف المدني إلى لوك وروسّو، فتعود المركزيّة إلى الواجهة من جديد؟ حلّ النّمذجة: يمكن إذن القول، إن تجمّع المخاطر التي تثيرها مشكلة التعريف في إحراجين أساسيّين مهدّدين للعلم؛ أوّلهما خطر الإيديولوجيا بمفهومها الماركسيّ وعيا زائفا، أو حتّى بمفهومها الألتوسيري (نسبة إلى لويس ألتوسير) أو المانهيامي (نسبة إلى كارل مانهايم)، نسقا من التصوّرات يتميّز عن العلوم بغلبة الوظيفة الاجتماعيّة على الوظيفة المعرفيّة، أو تأويلا ذاتيّا للمعطيات، وفي جميع الأحوال مهدّدة بذاتيّتها كلّ بناء للمعرفة، ومكرّسة لوهم التطابق بين الموضوع والمعرفة المنجزة حوله. وثانيها، وهم الموضوعيّة التي ما تزال تثبّتها نظرة البراديغم الوضعي الديكارتي للحقيقة، باعتبارها واقعا أنطولوجيّا، وللمعرفة بوصفها كشفا لحقائق كليّة وموضوعيّة. فبعد أن تبيّنت الحاجة إلى السيطرة على الإيديولوجيا، حتّى لا تسيطر هي وتحرّف المعرفة بالواقع، وبعد أن كذّب الأساس الأنطولوجيّ للواقع العلميّ، بفعل الاكتشافات المتتالية للفيزياء الحديثة الذريّة؛ كان لا بدّ من ابتكار منهج معرفة، يستجيب للتصوّرات الجديدة للفهم والذكاء، باعتبارهما لا ينحصران في القدرة على حلّ الإشكالات فحسب، إنّما بوصفهما أوّلا قدرة على إدراكها، وعلى طرح الأسئلة المناسبة؛ أي إقامة العلاقات، كما توضّح مادلانغرافيتز في مقدّمة كتابها القيّم “مناهج العلوم الاجتماعيّة” (بالفرنسيّة، باريس، ط10، ص9). ههنا، تمثّل النمذجة (modélisation)، كما يسمّيها مبتكر العبارة في الثلاثينيات ل. فون بارتلانفي(ت1972م)، أو النظريّة العامّة للأنظمة والمنظومات، في تسمية أبرز منظّري النمذجة ج. لوي لومواني (و1931م)، أبرز حلول الإبستمولوجيا المعاصرة لهذه الإشكاليّة الرئيسة للمعرفة، وذلك بتأكيدها الأساسيّ أنّ المعرفة تحدّدها ثلاثة عوامل، هي الموضوع، والذات المدركة، والأطر الاجتماعيّةوالثقافيّة للمعرفة(إيليا ت. كاسافان، مقال: فكرة التناظم في الإبستمولوجيا المعاصرة، مجلّة: ديوجين، عدد223، ص39). وبصرف النظر عن أصول النمذجة وتطوّرها، لتستقيم منهجا، وتمشّيا للمعرفة، من بداياتها الكانطيّة في القرن الثامن عشر، وصولا إلى تشكّلها المدرسيّ في القرن العشرين، لا سيما مع ثلاثيها الذهبيّ: جون بياجي (ت1980م)، وهـربرت سيمون (ت2001م)،وإدغار موران (و1921م)؛ فالنمذجة “طريقة” في قيادة الذكاء، قياسا على طرقها التي ابتكرها العقل الإنسانيّ في سياق نظريّة المعرفة، وتمشّ في المعرفة ينطلق من اعتبار أساسيّ، هو ضرب فكرة الحقيقة الموضوعيّة، وتأكيد كونها من إنتاج العقل، لاكامنة في الأشياء. ومن ثمّ، فالمعرفة بالأشياء حسب هذا الاعتبار ليست إدراكا لحقائقها، إنّما هي مجرّد تمثّل عقليّ لها، وبناء المعرفة بها لا يعنيالكشف لقوانينها الموضوعيّة، بل هو بناء تصوّر عنها أو عن نظامها أو نظريّتها أو نموذجها، من حقيقة الشيء وقوانينه إلى بنائيّته وتركيبيّته؛ هذا هو التحوّل الذي أنجزته النمذجة، فأن نعرف هو أن ننمذج، لا أن نحلّل. بهذا تحلّ النمذجة مشكلة ذاتيّة المعرفة وإيديولوجيّتها وموضوعيّتها، إذ تنأى بنفسها عن ادّعاء الحقيقة، بما أنّها تتجاوز فكرة المطابقة إلى فكرة الصلاحيّة؛ فالنمذجة هي التصوّر للنماذج، أو التمثيل الاصطلاحيّ للظواهر؛ هي تصوّر نظريّ يصف خطاطتها الافتراضيّة التي تقيّم بمدى صلاحيّتها، لا بمدى مطابقتها لواقع، هو دوما منفلت من المحاصرة. (لتعريف النمذجة، يرجع إلى ثلاثيّة جون لوي لومواني حول البنائيّة: Le Moigne Jean Louis, Constructivisme, t.1,2,3, L’Harmattan, 2003-2004 وإلى كتابه الأساسيّ في الموضوع: Théorie du système général théorie de la modélisation, Collection les classiques du réseau intelligence de la complexité, www.mcxapc.org) والدولة حسب النمذجة؛ أي نظريا، فكرة مشروع مجتمعيّ، تلهمها رؤية للكون، تحدّد دورا مركزيّا للإنسان فيه، وجهازا مؤسّساتيا؛ أي قانونيا، يضعه الإنسان تبعا لهذه المركزيّة الإنسانيّة الأساسيّة، ليحقّق للسلطة مركزتها ولا شخصنتها، ويحوّل السياسة إلى فنّ عقليّ لتنظيم المجتمعات، ويجعل الحقّ الإنسانيّ الهدف الأعلى للقانون. هكذا عرّفها العروي، وبوردو، نظريا. وبلغة النمذجة، هذا هو نموذجها (modèle) أو خطاطتها النظريّة.(يراجع كتاب الأوّل: مفهوم الدولة، وكتاب الثاني: الدولة (بالفرنسيّة)) والدولة الدينيّة، قياسا على الدولة نظريّا أيضا؛ هي كذلك فكرة مشروع مجتمعيّ، وجهاز مؤسّساتيّ، إلاّ أنّ فارق الرؤية يقلب كلّ شيء: ليس الإنسان مركز الكون وهدفه، الإله هو ذلك المركز والهدف.ويقلب هذا فكرة المشروع المجتمعيّ، من تمركزها حول الدنيا، إلى التمركز حول ما بعد الدنيا. ويقلب بالاستتباع تصوّر السياسة، والسلطة، والحق، والجهاز: تصبح السياسة اقتباسا عن نموذج متعال مفارق، ويكون مصدر السلطة، والحق نفس ذلك النموذج، ويكون الجهاز السياسيّ ما يمكن أن يستنتج من تعليمات القوّة المترئّسة لذلك النموذج، لتنظيم المجتمعات. هذا هو نموذج الدولة الدينيّة أو خطاطتها النظريّة، قياسا على نموذج الدولة، واستنتاجا من تصوّرات المنظّرين الإسلاميّين للدولة. لا يختلف هذا التصوّر للتنظيم السياسي كثيرا عن التصوّرات التابعة للثقافات الكونولوجيّة، حسب تسمية بيتر برغر(في كتابه القرص المقدّس، عناصر نظريّة سوسيولوجيّة في الدين، مترجم، تونس، 2003)؛ أي تلك التي تقيس عالمها الأرضي الفيزيائيّ على عالم ميتافيزيائيّ، تغذّي فكرته الثغرات الواسعة في المعرفة، كما لا يختلف في الظاهر عن تصوّر أفلاطون للمدينة الفاضلة أو العادلة، حيث تمثّل قراءة النموذج المتعالي دليلا لسياسة المدينة، ويكون نموذج السماء ملهما لنموذج المدينة. إلاّ أنّ وساطة الفيلسوف واسطة للتحويل، تبعد شبهات الدينيّة عن هذه الرؤية، بما أنّها تعيد للإنسان مركزيّته الإبداعيّة للسياسة، وقد كادت تبتلع في المركزيّة الكونيّة المتعالية. لا يصعب في الواقع أن نعثر – بنوع من الانفتاح والتعمّق في التأويل- على تمثيلات هذا النوع الأمثل للدولة، خصوصا مع التشكيكات المتزايدة في قدرة البشريّة المعاصرة على التخلّص من تأثيرات الكسمولوجيّات، والتفسيرات الإسكاتولوجيّة للحياة. ولكنّ أمثلته الصريحة التي يستغني معها عن بذل أيّ مجهود في التأويل، تبدو في التيّارات السياسيّة الدينيّة، في الدول الحاضنة لشعوب متعلّقة بأديانها التاريخيّة، لا سيما عند الشعوب ذات الديانات التوحيديّة؛ وهي ماثلة، في حالة الشعوب العربيّة، في تيّارات الإسلام السياسيّ، من أكثرها ادّعاء للوسطيّة والاعتدال، إلى أشدّها راديكاليّة (يراجع في هذا السياق، أحمد موصللي، موسوعة الحركات الإسلاميّة، ط2004). إنّ المضمون المتصوّر لمفهوم التوحيد الإسلامي في هذه الحالة، يمثّل أساس التصوّر الدينيّ للدولة، إذ يختزل رؤية العالم ومتعلّقاتها الواقعيّة السياسيّة؛ فهو يقدّم شرح الكوسمولوجيا الإسلاميّة الضروريّة بالنسبة إلى هذه التيّارات، ويعيّنها نموذجا للسياسة الأرضيّة عبر مفهوم الحاكميّة. يعمل مفهوم الحاكميّة هنا عمل البيداغوجيا الملزمة للحياة الدنيويّة، وذلك بدلالته الرئيسيّة، قانونا مسيّرا للكون، يفترض تحكّما مطلقا لمصدره، وهو الذات الإلهيّة. ومن هنا يتّخذ الاستخلاف الإلهيّ للإنسان معناه نيابة في تنفيذ هذا القانون أو الخطّة الإلهيّة الكونيّة، عبر التعلّق بقراءتها في الكتاب المنزّل الشارح لتفاصيلها. تترجم هذه الرؤية على مستوى السياسة، باعتبار اللّه مصدرا للسلطة والحقّ، وإن تكرّر التأكيد بأنّ الأمّة هي صاحبتها، بما أنّ ملكيّة حقّ الأمر تبقى رهينة مفهوم الحاكميّة، متجسّدة في إلزاميّة الشريعة. إنّ مقولة تطبيق الشريعة، بفعل ارتباطها بهذا المفهوم الإسلاميّ، الغالب للتوحيد، تمنع أيّ إمكان لانفلات الدولة من الدينيّة إلى المدنيّة، ولا تفلح شتّى التأويلات المتمسّكة بتأكيد مدنيّة الدولة الإسلاميّة، من داخل تبنّيها لهذه الرؤية التوحيديّة، في أن توفّر لنفسها شروط الصلاحيّة النظريّة. وقد يكفي دليلا على ذلك تبنّيها لقيم الدولة المدنيّة ومقولاتها، كالحريّة والديمقراطيّة، وتعثّرها في الاستجابة لشروط مأسستها القانونيّة، لاسيما أمام مفهوم حريّة المعتقد. إنّ قراءة لمفهوم الحريّة في كتابات واحد من دعاة الدولة الإسلاميّة، هو راشد الغنّوشي التونسي، تكشف هذا الإحراج الذي يمثّله مفهوم الحريّة، لمن يتمسّك بهذه القراءة للتوحيد الإسلاميّ، حين يصل الشرح إلى حريّة المعتقد، إذ يبقى حكم الردّة القديم حدّا يحاصر الآية 256 من سورة البقرة (لا إكراه في الدين…)، الأثيرة عند الغنّوشي في استدلاله على مركزيّة الحريّة في الدولة الإسلاميّة التي يدعو إليها، (يراجع كتابه: مقاربات في العلمانيّة والمجتمع المدنيّ، تونس، 2011، ص19-20)ليؤدّي إلى إبطال الحريّة في هذا الجانب، وللحريّة عامّة، بما أنّها تؤسّس على مفهوم توحيديّ يلهم فهمه لهذه الآية. لذلك لا يستغرب أن يقرّر من رفع لواء حريّة المعتقد شعارا لإيمانه بالحريّة في حدودها القصوى، أنّ كلّ تصوّر للإسلام يؤدّي إلى “تمسيحه”، هو تصوّر يستحقّ التكفير (يراجع كتابه: الحريّات العامّة في الدولة الإسلاميّة، ط 2011، ص 112). ومع هذا، نقرأ للصحويّين تمسّكهم بمدنيّة الدولة الإسلاميّة، التي يقترحون بهذا المنطلق التوحيدي المنافي للمدنيّة، فيقول فهمي هويدي مفرّقا بين الدولة الدينيّة والدولة الإسلاميّة: “الفرق الأساسي بين الدولة الدينيّة والدولة الإسلاميّة، هو أنّ الأولى تقوم على فكرة أنّ اللّه هو مصدر السلطة، بينما في الثانية… فإنّ اللّه هو مصدر القانون، بينما الأمّة هي مصدر السلطة”، ويضيف منكرا لأيّ تعارض في مقولته، ومتجاهلا كون القانون هو المادّة العمليّة للسلطة، فيقول “نحن إذن نتحدّث عن سلطة مدنيّة منتخبة من ممثّلي الأمّة، والتزامها بشريعة الإسلام لا يحوّلها إلى دولة دينيّة بالمفهوم السائد في التجربة الغربيّة…إذ يظلّ الدين مصدر القانون والقيم، وليس مصدرا للسلطة بأيّ حال”، بل يعتبر إغفال هذا التمايز الجوهريّ في نظره، بين الدولة الإسلاميّة والدولة المدنيّة، ناتجا عن جهل بمصطلحات السياسة، فيقول: “إذا أردنا أن نحسن الظنّ بالذين وصفوا الدولة الإسلاميّة، بأنّها دولة دينيّة، ثمّ اعتبروها نقيضا للدولة المدنيّة، فلن يكون أمامنا سوى مخرج واحد، هو إعذارهم، باعتبارهم لا يعرفون دلالةتلك المصطلحات، الأمر الذي أوقعهم في الغلط”. (يراجع كتاب فهمي هويدي، الإسلاموالديمقراطيّة، القاهرة، 1993، ص185، ص104، ص184). إنّ الأثر المحدّد لمفهوم الحاكميّة على النظريّة السياسيّة يتجاوز تصوّر السلطة والحقّ في الدولة، ليطال مستواها الجهازيّ، سواء في تحديد ماهيّة الأعضاء وسلطاتها، أو في آليّة عملها التي تضبط بالشورىوالاجتهاد؛ إذ يستعاد في المستوى الأوّل، نموذج الدولة الخلافيّة الذي مرّره حسن البنّا وأبو الأعلى المودودي، عبر تسوية مصطنعة بين أعضاء الجهاز الدولتي وأعضائه في النموذج الخلافي، وربط سلطاتها بتنفيذ السلطة الإلهيّة، عبر القيام على تنفيذ الشريعة. وورثه الصحويّون بعدهما تعلّقا بنموذج الخلافة، سمّوه دولة فيدراليّة أو كونفدراليّة، لم يخفوا معه عداءهم للدولة، واعتبارها ضرورة ظرفيّة تليها مرحلة الخلافة أو الدولة العالميّة، كما يصرّح القرضاوي بين كثيرين (يراجع كتابه: من فقه الدولة في الإسلام…، القاهرة، ط3، 2001، ص32). أمّا في المستوى الثاني للجهاز؛ فالشورى المساوية لمبدإ الرقابة على السلطة عند الصحويين، هي الشورى المسيّجة بالشريعة، إذ يتوقّف مبدأ الرقابة على السلطة على مراقبة مدى التزامها بالشريعة. ومن هنا تعود الشريعة المسيّجة للسلطة في جميع مستوياتها، لتؤكّد أنّ لا سلطة للأمّة إلاّ بمقدار ما يمكن أن يمارس فيها من فعاليّة الاجتهاد. غير أنّ الاجتهاد بدوره يكمل غلق الدائرة، إذ لا يتجاوز معنى الشرح والتفسير والتوضيح لما أشكل من الشريعة، أو مطابقة أحكامها على الوقائع العارضة، دون أن يصل مطلقا إلى مرحلة الخلق والابتكار للقانون. إنّ الشريعة الشارحة للحاكميّة، سلطة إلهيّة كونيّة مطلقة في المستوى الكوسمولوجي، عبر مفهوم التوحيد منظورا إليه في قسيمة الألوهيّة، هي التي تضمن في المستوى الدنيويّ تنفيذ الحاكميّة عبر مفهوم التوحيد منظورا إليه في قسيمة العبوديّة، ومن ثمّ تنفي الحاكميّة بالشريعة أيّ إمكان تنفيذ سلطة مدنيّة ليست من إنتاج الألوهيّة. (يمكن الرجوع لقراءة التفاصيل المتعلّقة بالشريعة، وأثرها على الجهاز في جميع مستوياته، إلى كتابات القرضاوي مثلا). حينئذ، حين نطرح سؤال الصلاحيّة على نظريّة الدولة الدينيّة أو نموذجها المقترح سابقا، قياسا على نموذج الدولة الذي قرّره العروي وبوردو، يتبيّن لنا إمكان هذه الصلاحيّة، وذلك من منطلق التناسق الممكن بين المفاصل الكبرى لهذه النظريّة، وقدرتها على كشف نقاط الارتكاز الرئيسيّة التي يتعيّن متابعتها، للتمييز بين الدولة الدينيّة والدولة المدنيّة، وتحديدا مفهومي التوحيد والحاكميّة. ومن ثمّ؛ فمع الإدراك الدائم للطبيعة الافتراضيّة لهذه النظريّة في الدولة الدينيّة، وللطبيعة الاختزاليّة للنمذجة، تحتفظ النّمذجة منهجا في المعرفة، وتمشّيا في الدراسة بكلّ شروط إمكانها العلميّة في مجال العلوم الإنسانيّة.
نقلا عن مركز مؤمنون بلا حدود للبحوث والدراسات. |